مأزق «فان ديك» بين النص والخطابالباب: مقالات الكتاب
محمد أزرار كاتب من المغرب |
إن كلمة مأزق توحي بوجود شرخ أثناء التعاطي مع قضية ما، أو معالجة معضلة ما، مما خلف شرودًا نتج عنه عدم الانتباه إلى شيء معين، ووجب التنبيه أن اللساني "فان ديك" يقام عليه هذا الحد، وإن كان الأمر بشيء من النسبية، إذ سقط في نوع من الخلط برهة وضع حدود بين النص من جهة والخطاب من جهة أخرى، وافتقد لشيء من الدقة أثناء إنجازه لتلك الحدود.
وتعد ثنائية النص والخطاب جدلية ذات سيرورة نتاجية مازالت سارية المفعول ولم ينضب لها معين بعد، وقبل العرض للكوة التي خلفها الرجل، حري بنا أن نعرض لتصوره في صدد التمييز بين النص والخطاب، ولما كان الأشياء تعرف بضدها، أو بما هي هي، فالنص عند "فان ديك" لا يخرج عن هذا النطاق، عندما حدده انطلاقًا من مقابلته بالخطاب، بحيث تتعارض البنية الشكلية -الذهنية (و/أو النظرية) لأي إنتاج لساني مع الفعل المحين له، و من ثمة يوصف النص بكونه "البناء النظري التحتي المجرد لما يسمى عادة خطاب"، وبالتالي فهوية النص تتحدد في كونه فعلاً ثابتًا يشكل القواعد التي تخضع لها الذات أثناء إنتاج فعل الكلام، في حين أن الخطاب عكس ذلك، إذ لا يعدو كونه ذلك التحقق الأنطولوجي للنص، يسمه طابع التغير من ذات لأخرى، وبالتالي فهو فعل تواصلي ووجود ثان للنص، أي انتقال النص من الصيغة المجردة إلى الصيغة الملموسة، وما يجب الأخذ به في طرح "ديك" هو كون النص مجرد والخطاب ملموس، وفي هذا الصدد تتظافر مجموعة من الأسئلة المربكة لخلخلة الطرح أعلاه، أبرزها، ما المجرد؟ ما الملموس؟ وإلى أي حد يكمن الأخذ بهذه الثنائية كمعيار للتمييز بين النص والخطاب كما أراد لها "فان ديك" ؟ إذا كان هذا الأخير حشر النص في ما هو ذهني ثابت، فما موقع الكتابة من هذا الثبات بعدها شرطا لتحديد النص؟ أهي ثابتة أم متغيرة؟ أين يمكن موضع الكتابة، أفي النص أم في الخطاب؟ ألم ينتبه "فان ديك" لهذا الأمر؟ ولم لم يقدم توضيحًا أو جسرًا فاصلاً بين ثبات النص في الكتابة و ثباته في الذهن؟.
إن مفهوم النص منذ ظهوره كإشكال في المشتل النقدي، وهو يعرف إقبالاً متواصلاً من لدن النظريات، حتى توزعت هذه النظريات دم النص كما توزعت الأيديولوجيات دم الفكرة، والترجمات دم المصطلح، و لعل أول منظر نصطدم به هنا هو عالم الاجتماع "روبيرت إيسكار بيت" الذي تعرض لمفهوم النص من خلال مقاربته ومقارنته بالخطاب، محددًا كلا منهما انطلاقًا من اللغة، لكن يختلفان في القناة، إذ يتخذ النص من الكتابة قناة له، والخطاب من الشفة قناة له، وبهذا فالنص كتابي القناة والخطاب شفهيها، وقد شكل هذا الفصل مرجعًا أساسًا عند جل النقاد، ولا يبتعد عن هذا "بول ريكور" حين يعرف الخطاب بكونه "نصًّا يتم تثبيته عن طريق الكتابة" وبالتالي فالكتابة شيء ثابت، وشرط أساس لتحقق النص، لكن ما يجعلنا نتساءل هنا، هو لما كانت الكتابة أيضًا ثبات للنص وهي شيء ملموس سيصبح النص هنا شأنه شأن الخطاب في عنصر الملموسية، إذا ما مدى نجاعة ثنائية المجرد والملموس في وضع حد بين النص والخطاب؟.
إن هذا السؤال يبرز بجلاء كون "فان دايك" قد سقط فعلاً في نوع من الخلط بين النص والخطاب، إذ أصبح يماثل بين الاثنين أكثر مما يقابل بينهما، إذ أن الكتابة بعدها شرطًا للنص كماهي عند "بيت وريكور" توصف بكونها ملموسة، والملموس بكونه ما يدرك بالحواس هو ضد المجرد الذي يدرك بالذهن، يصبح سمة أيضا للنص في جانبه الكتابي، وهو الأمر الذي لم ينتبه له "ديك" حينما حشر النص في الركن المجرد الذي يدرك بالذهن، ولم يتطرق لمسألة الثبات التي تجمع الذهن والكتابة، في هذا الاتجاه، إذا سلمنا بكون النص مجرد ثابت، فهو ثابت أيضا لدى "بيت" و"ريكور" لكنه ملموس و ليس مجرد.
ومما سبق فثنائية الملموس والمجرد تبقى قاصرة إلى حد بعيد عن وضع حد لمفهوم النص، ولتجاوز هذا المأزق يمكن القول أن ثنائية الكتابي والشفهي أكثر ما يصدق على النص والخطاب، وإذا أردنا تفعيل ثنائية المجرد والملموس كما أتى بها "فان ديك" فلا مندوحة من التنبيه أن النص والخطاب يشتركان في خاصية الملموسية.
تغريد
اكتب تعليقك