نَصّان وناقد واحد.. مقاربة في جماليات القراءة

نشر بتاريخ: 2018-03-19

المحرر الثقافي:

الكتاب: "نصان وناقد واحد.. مقاربة نوعية في جماليات القراء"

المؤلف: عبدالقادر الرباعي

الناشر: الدار الأهلية

يناقش الكتاب الأخير للناقد والأكاديمي عبدالقادر الرباعي، قضايا تخص الشعر بوصفه جنسًا أدبيًا لا يخضع لأيّ تصنيف خارج محيطه العام، ما يعني أنّ واقع تصنيف الشعر بين القديم والحديث تصنيف مخالف لطبيعة الشعر، كما أن تصنيف دارسي الشعر وناقديه على أساس الفصل بين الزمنين، هو أيضًا من المسائل التي يجب تجاوزها، لأن المقياس السليم هو أن يكون دارس الشعر مؤهلًا نقديًا لذلك؛ سواء أكان الشعر قديمًا أم حديثًا.

ويدعو الرباعي في كتابه الذي يحمل عنوان "نصان وناقد واحد.. مقاربة نوعية في جماليات القراء"، إلى ضرورة أن يغيّر الأكاديميون هذه المفاهيم، وأن يعدّوا طلبتهم في مرحلة الدراسات العليا إعدادًا متكاملًا بحيث يتخرج الواحد منهم ناقدًا للشعر دون ربطه -حصريًا- بعصر دون عصر، وذلك استنادًا إلى أن الشعر أينما كان يحمل سمات الشعر الأساسية، وأيّ دارس له في أيّ عصر يجب أن يكون مؤهلًا تأهيلًا نقديًا لتحليل الشعر أينما وُجد تحليلًا يعتمد على كفاءة نقدية عالية تقرأ الشعر وتحلله وفق مقوماته الفنية الأساسية.

ويرى الناقد أن الشعر لا بد أن يكون محركًا للقراءة والتحليل، لأن ذلك يسمح له بالانفتاح على آفاق رحبة من عوالم شتى تقترب هنا وتبتعد هناك؛ إلا أن الثابت فيها طاقات مركّبة لا تغيب، ويجب ألّا تغيب، وهي بحسب الباحث: الموهبة الفطرية، والثقافة، وطاقة الروح الإنسانية الشفافة، والطاقة الجمالية في التشكيل الفني للغة الشعر، والخبرة.

ويتناول الرباعي الموهبة الفطرية الممنوحة لفئة مخصوصة من البشر الذين لهم رسالة كلامية ممتعة ومفيدة، قائلًا إنها للفن كالجذر للشجرةـ تنمو بزهو وتتطور بكبرياء وتنتج بألق وتتشابك مع غيرها في محيط آخر يتجاوز المألوف والمعهود، لكن هذه الموهبة تظل بحاجة إلى أن يعرفها صاحبها معرفة يقينية، ويتوقف عندها باعتزاز، وهو مطالَب بالمقابل أن يرعاها وأن يخدمها بما تستحق من تحيز لها بالاطلاع، والمعرفة، والسلوك، والإنتاج، وإلّا ذوت وتلاشت.

ولأن الموهبة وحدها ليست كافية لإنتاج نص له القيمة الجمالية التراكمية، فنًا وإنسانًا، فإن الثقافة، بحسب الرباعي، رافد أساسي للموهبة، على ألّا تكون أحادية الغاية، وإنما متعددة ومتنوعة في آن. فمن الثقافة الانفتاحُ على الآخر والإفادة مما ينتج فكرًا وسلوكًا وعلاقاتٍ وفنًا وكلَّ ألوان الحضارة.

ويعرّف الناقد طاقة الروح الإنسانية الشفافة بأنها "المبعث الأصيل للكلمة المختارة في موقعها الفاعل والمحرك"، والتي لا تؤدي وظيفتها في سياقها الذاتي والجمعي إلّا إذا عُبّئت بمكتنزات التجربة الإنسانية الحاضرة في المكان والزمان المحلي والعالمي في آن. وهذا يؤشر على المكون الكلي للشعر الذي انبثق من مكمنه الذاتي المحدد لينطلق بأدائه الفني الرفيع إلى إمتاع المجموع، والباعث لغيره في تجارب شتى نحو المطلق المتحرك عبر اللازمان واللامكان؛ حيث يحاكي ما يماثله، ويتقاطع معه عالميًا أينما حلّ وحيثما وقع.

ويتوقف الرباعي عند الطاقة الجمالية في التشكيل الفني للغة الشعر، موضحًا أن التحولات اللغوية والأسلوبية عنصرٌ أساس في الإيحاءات اللامباشرة للمعنى. ذلك أن لغة الفن "لغة ما بعد اللغة"، وهي "لغة الآتي في المتخيَّل والمحتمَل لا في الواقع والمنجَز الحالي". وهذه الطاقة تنطوي على مدخلات متواشجة، أهمها الصورة الفنية كونها مظلة المعنى البعيد المخبوء ضمن مداراتها، والإيقاع المموسق للتشكيل الفني بالنغم المتشابك الموجّه للتنوّع الصوتي في إطار التوافق مع المعنى الظاهر والمتواري والمضمَر، والانزياح عن المعهود من لغة الواقع، والمنطق، والتأريخ.

ويوضح الرباعي أن الخبرة تعني التعرف إلى شؤون الناس في الحياة العامة، ذلك أن الشعر ينبعث من الحياة بكل أشكالها وألوانها، فيحاكيها حينًا، ويتجاوزها حينًا. وقد تبعث فيه التوق إلى صياغة حياة أجمل وأبهر.

وانطلاقًا من هذه المرتكزات الخمسة، يقدم الرباعي قراءة في نصّين شعريين؛ الأول من الشعر القديم وهو لأبي تمام، والثاني للشاعرة الأردنية نبيلة الخطيب. مؤكدًا أن النصين مختلفان نوعًا، لكنهما متفقان جنسًا، ويوضح ذلك بأن الاختلاف جاء من أنهما ينتميان لعصرين متباعدين؛ أحدهما قديم، والآخر حديث، كما إن أولهما لشاعر، وثانيهما لشاعرة، ثم إن واحدًا جاء في معنى الائتلاف (الصداقة)، والثاني جاء في معنى الافتراق (الغربة)، والقصيدة الأولى عمودية، أما الثانية فقصيدة تفعيلة.

وتتمثل جوانب الاتفاق بحسب الناقد، في كونهما نصين شعريين امتلكا مكونات الشعر الأساسية السابقة في الخيال واللغة المنزاحة والمعنى الضمني البعيد، وقد تمثل ذلك كله في الصورة المشكَّلة تشكيلًا فنيًا راقيًا، والإيقاع المختلف والمتنوع تنوع المعاني والأشكال، فقد تمثلت الصداقة لدى أبي تمام في بيته التالي الذي يمكن أن يرسم مسارها الأسمى: إنّ الإخاء ولادة وأنا امرؤ ممن أواخي حيث ملت فأنجب ومن المعروف أن أبا تمام شاعر إشكالي، لأنه كان قد كسر النهج المتبع في أغلب شعر عصره وجاء بنهج شعري جديد هو الذي سمّي "البديع"، لكن ذلك، كما يبين الرباعي، أوجد له من داخل مجتمعه خصومًا رأوا فيما جاء به مخالفةً لما اعتادوا على قوله أو سماعه، لذا كان بحاجة إلى أصدقاء من متنفذي عصره يأخذون بيده ويسندونه ليكون قادرًا على إنفاذ مشروعه الشعري التجديدي، ولما كان ابن حسان واحدًا من هؤلاء الأصدقاء الأصفياء فقد مدحه بأربع قصائد كانت "الهمزية" أشهرها وأكثرها نضجًا، وقد حققت هذه القصيدة فنًا رفيعًا، لأن الشاعر أظهر فيها مهارة فائقة في صياغة القول الشعري، وبناها على ألوانٍ من الصراع داخل إحساس مكين انتابه إزاء صديقين سلكا إليه سلوكين متناقضين: أحدهما صديق خصيم، وثانيهما صديق حميم.

هذا التناقض وفقًا للرباعي، جلب أنواعًا متعددة من الكلمات والأشياء مدفوعة بحوافز متضادة شكلت نصًا حيويًا جديدًا: صورة وإيقاعًا وأفانين أخرى من القول. وقد انتهت قراءة الناقد لهذه القصيدة إلى نتيجة مؤداها أنها تؤلف نصًا دراميًا بدأ سلبيًا بانكسار النفس وانتهى إيجابيًا بعلو الهامة والهمّة، وبين البداية والنهاية صراع عنيف مع الذات والآخر قاد إلى إيجاد وحدة نصية مع تنوع في العناصر وتعدد في الأشكال التي تآلفت وتنافرت وتشابكت في داخلها.

أما قصيدة "نهج الغربة" للشاعرة نبيلة الخطيب، فرأى الرباعي أنها تروي وجع الإنسان من أخيه الإنسان، وخاصة في التغريب القسري عن مكان المولد والوطن، وتتبدى مأساة الفلسطيني أنموذجًا صارخًا عليه.

فتحت وطأة الإحساس بالظلم تَشكّل النص من صراعٍ اندفع ناهجُ الغربة فيه يبحث عن قبسٍ وسط تراكمات الليل البهيم، لكنّ بغْيَ الإنسان حال دون إيصال الحق لأهله بكل السبل.

ويوضح الرباعي أن الشاعرة في عنفوان الصراع تستذكر يوسف عليه السلام والظلم الذي مورس عليه من أقرب الأقربين؛ إخوته، فكان في النص أنموذج التغريب القديم، وقُدم بأسلوب الوجع الإنساني العام للتأسّي. ويؤكد أن في نص الخطيب مفارقةً كونيةً عجيبةً جمعت بين "مسقط الرأس" عنوانًا مفرحًا بميلاد حياة، وسقوط الضمير الإنساني عنوانًا فاضحًا لإماتة الحياة.

ويستعرض الناقد تقنيات القصيدة بما فيها من تناص، وصورة فنية، ومفارقة، وتناقض، وتوتير، وكذلك الإيقاع الداخلي المنظم مثل الانزياح والتوازي، إلى جانب التشكيلات الموسيقية للتفاعيل، والقافية، والروي.

ويُلحق الرباعي نصين آخرين ضمن الكتاب: أولهما "قراءة في شؤون شعرية حديثة" تدور حول صورة المكان مثلما قدمته ساكنته الشاعرة الخطيب وقد عادت إليه بعد غربة عنه. وثانيهما "قراءة في أدب أديب قديم" جمع بين الشعر والأدب هو إبراهيم بن سيابة من أدباء العصر العباسي.

ويعتمد الناقد في قراءة القديم والجديد ومقاربتهما، على جماليات التلقي والتأويل، وخاصة مفهوم "أيزر" للنقد الضمني، بمعنى أنّ الناقد لا يمتلك أوصافًا خارجية تطبَّق على النص تطبيقًا آليًا، وإنما يَنتج نقدُه عن النص بأبنيته المختلفة، ويكون جزءًا منه يلتحم بكل ما فيه من نبض وتكوين. ذلك أن النص لا يمكن أن تتكامل إنتاجيته إلّا بفعل القراءة التي تحرّك قدراته الكامنة لتبرز في أنشطة فاعلة تتحرك ضمن سياقاته وتشكيلاته ومسافاته وفراغاته وتوتراته أيضًا. ومن هنا كان الناقد الضمني هو الضامن والضابط لتحويل القراءة إلى عملية حية وقدرة عجيبة على اختراق النصوص الشعرية، وخاصة حين التقاء الحديث بالقديم منها، فالناقد الضمني كما يرى الرباعي "أنموذج مثالي للقراءة المنتجة".

يتضمن كتاب الرباعي طرحًا مختلفًا للأفكار، وهو ما يتطلب تصنيفًا مختلفًا وبناء مختلفًا أيضًا، لهذا اعتمد على منهج جماليات التلقي والتأويل في القراءة النقدية المتنوعة والموحدة في آن: فالمتحرك داخل النصوص على اختلافها زمنيًا وموضوعيًا وفنيًا ناقدٌ واحد هو الناقد الضمني الذي تنشئه أبنيةُ النص المستهدَف بالقراءة. ووفق مهمته فقد قُرئ كل نص بحسب ما اقتضته طبيعته الذاتية في بنيته، فالصداقة عند أبي تمام فرضتْ ذاتها من خلال إشكالية الموضوع وجدلية البناء بحسب رؤية الشاعر الداخلية وتركيبة اللغة الشعرية لديه.

أما نهج الغربة عند الشاعرة نبيلة الخطيب فلامسَ جرحًا غائرًا في العمق العام والخاص، لكنه لم يكن بريئًا من البغي البشريّ الكيدي المزروع في قسوة الإنسان تجاه أخيه الإنسان. ولما كان يوسف عليه السلام أنموذجًا باقيًا لذلك فقد أخرجته أبنية النص اللغوية مغموسًا بدم نازف يعلن البؤس ويكشف الحقد، بل يبكي شقاء الإنسانية بشرورها حين تكشر عن أنيابها لتنهش بها جثة الإنسانية نفسها بعد أن سقطت أو أسقطت ذاتها، وبالمقابل فإن أول مكان في الدنى هو أجمل مكان على الأرض.

وقد أبرز الرباعي خلال تحليله للنص كيفية استجابة القراءة لأبنية النص، ففي نص الشاعرة الخطيب اقتربت اللغة من بنية درامية مؤثرة موجعة، وفي نص الكاتب إبراهيم بن سيابة ثمة موهبة عالية في بناء الجملة اللغوية الجميلة شعرًا ونثرًا في آن.

وقد حاول الناقد من خلال التحليل أن يُظهر هذين الجانبين المختلفين إنسانيًا: روعة الموهبة، وسوء الحظ الذي أبقى هذا الكاتب هامشيًا يُستغَلّ ويُعبَث به وبفنه.


عدد القراء: 3808

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-