فصل من كتاب «خادمة: العمل المضني والمرتب الشحيح وتصميم على البقاء»

نشر بتاريخ: 2023-12-12

ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو

الكتاب: "خادمة: العمل المضني والمرتب الشحيح وتصميم على البقاء"

المؤلف: ستيفاني لاند

الناشر: Hachette Book Group

تاريخ النشر: 22 يناير 2019

اللغة: الإنجليزية

عدد الصفحات: 288 صفحة

تتذكر ستيفاني لاند في مذكراتها حالها الفقير والانتقال مع طفلتها الصغيرة من ملجأ للمشردين إلى الإسكان المؤقت. وتتطرق إلى مذلة الفقر المتفاقمة بالحاجة لإثباته.

تعلمت ابنتي المشي في ملجأ للمشردين. حدث ذلك عصيرة يوم من أيام حزيران/يونيو قبل يوم واحد من بلوغها عامها الأول. تربعت على الأريكة الرثة في الملجأ وأنا أحمل كاميرا رقمية قديمة لألتقط خطواتها الأول. تباين شعر ميا الأجعد ولباسها المخطط قليلاً مع العزيمة المتوقدة في عينيها البنيتين وهي تلف وتثني أصابع قدميها كي تتوازن. تبينت من خلف الكاميرا ثنيات كاحليها وتلافيف ردفيها واستدارة بطنها. كانت تدمدم وهي تتجه نحوي حافية على الأرض المرصوفة بالبلاط.

تشرب التراب في الأرضية على مدى سنوات ولم تجدي محاولاتي المتكررة لتنظيفها.

كان ذلك هو الأسبوع الأخير من إقامتنا التي امتدت لتسعين يوماً في بيت صغير في الطرف الشمالي من المدينة خصصته سلطة الإسكان لمن لا يملك منزلاً يؤويه. انتقلنا بعد ذلك إلى الإسكان المؤقت- وهو مجمع سكني قديم متهالك ذي أرضية إسمنتية يمكن اعتباره منزلاً مؤقتاً. وبالرغم من وضعه المؤقت بذلت كل ما بوسعي لجعل ذلك البيت منزلاً لابنتي. وضعت ستارة صفراء فوق الأريكة ملتمسة بعض الدفء على الجدران البيضاء والأرضيات الرمادية ولأقدم شيئاً مبهجاً وأبلجاً في زمن كئيب.

علقت على الجدار قرب الباب الأمامي روزنامة صغيرة. كانت مترعة بالمواعيد مع عمال الإغاثة من منظمات قيل إنها قد تساعدنا. بحثت تحت كل حجر وتلصصت عبر كل نافذة من كل بناء حكومي يقدم العون وانضممت إلى طوابير طويلة من البشر الذين يحملون أضابير ورقية عشوائية لتثبت عدم امتلاكهم لأي مال.

وكنت مدحورة بحجم العمل اللازم لإثبات فقري وهواني.

لم يُسمح لنا باستقبال أي زوار أو امتلاك الكثير. كانت كل حوائجنا تملأ حقيبة وحيدة. وكان لميا سلة وحيدة من الألعاب. وضعت مجموعتي الصغيرة من الكتب على أرفف بسيطة تفصل غرفة المعيشة عن المطبخ. وثمة طاولة مستديرة أربط إليها كرسي ميا المرتفع وكرسي أجلس عليه أرقبها وهي تأكل وأحتسي القهوة لإسكات جوعي.

حاولت وأنا أشاهد خطوات ميا الأولى إبعاد ناظري عن الصندوق الأخضر الموجود خلفها حيث وضعت وثائق المحكمة التي تفصل معركتي مع والدها للفوز بحضانتها. جاهدت لأركز كل تفكيري عليها والابتسام لها وكأن كل شيء كان على ما يرام.

ولو انعطفت بالكاميرا قليلاً لما عرفت ذاتي. تظهر صوري القليلة إنسانة مختلفة تمام الاختلاف وربما أنحف ما وصلت إليه في حياتي.

عملت بشكل جزئي في تنسيق المناظر حيث قضيت عدة ساعات كل أسبوع أقلم الشجيرات وأشذب أغصان التوت الأسود التي تمادت في النمو وأجز العشب في الأماكن التي ما كان له أن ينمو فيه. قمت في بعض الأحيان بتنظيف الأرضيات وحمامات بعض منازل معارفي وأصدقاء تناهي لأسماعهم شدة احتياجي للمال. لم يكونوا أغنياء ولكن أولئك الأصدقاء تملكوا بعض الوفرة المالية التي فقدتها. كان فقدانهم لمرتب أسبوع يمثل محنة وليس بداية سلسلة متوالية من الأحداث التي تنتهي بالسكن في ملجأ المشردين. كان لديهم أباءً وأفراداً أخرين من العائلة يسارعون بتقديم بعض المال وإنقاذهم من ذلك البؤس. ولكن لم يوجد من يتدخل لصالحنا. كنا وحيدتين أنا وميا.

في الأوراق التي سلمتني إياها سلطة الإسكان ولدى السؤال عن أهدافي الشخصية خلال الأشهر القليلة القادمة كتبت عن محاولتي إيجاد حل مع جيمي والد ميا وظننت أنني إذا حاولت بما يكفي ربما أجد حلاً ما.

كنت أتخيل في بعض الأحيان لحظات كنا فيها أسرة حقيقية- أم وأب وطفلة جميلة. وكنت أتمسك بأحلام اليقظة تلك كما لو كانت خيطاً مربوطاً ببالون كبير. يحملني ذلك البالون فوق إذلال جيمي وقسوة وجودي كأم وحيدة. وكلما أمسكت بذلك الخيط أطير وأطفو فوق كل ذلك الأسى. وإذا ركزت على صورة العائلة التي تخيلتها أدعي أن الأجزاء السيئة لم تكن حقيقية وأن فترة الحياة تلك كانت مرحلة مؤقتة من الوجود ولم تكن وجوداً جديداً.

حصلت ميا على زوج جديد من الأحذية لعيد ميلادها. كان بني اللون نُسجت عليه طيور أرجوانية وزرقاء. قمت بالتوفير على مدى شهر كامل. أرسلت بطاقات الدعوة مثلما تفعل كل أم طبيعية ودعوت جيمي وكأننا زوجين نرعى عائلة عادية. احتفلنا عند طاولة للنزهات تطل على المحيط على سفح معشوشب في حديقة تشيزموكا في مدينة بورت تاونسند حيث قطنا بولاية واشنطن. جلس المدعون على بطائن أحضروها وهم يبتسمون. أحضرت الليمونادة وفطائر الشوكولا باستخدام ما تبقى من جعالة الطعام المتبقية لي في ذلك الشهر. حضر والدي وجدي من اتجاهين متعاكسين وقد قطع كل منهما قرابة ساعتين من الزمن لتلبية الدعوة. وحضر أخي وبعض الأصدقاء. وأحضر أحدهم غيتاراً. طلبت من أحد الأصدقاء التقاط بعض الصور لميا وجيمي ولي لأنها كانت إحدى المرات النادرة التي نجلس فيها نحن الثلاثة سوياً. رغبت أن تحظى ميا بذكرى طيبة تستعيدها في وقت ما. ولكن وجه جيمي البارز في الصور لم يظهر سوى الغضب وعدم الاهتمام. قدمت والدتي بالطائرة مع زوجها ويليام من لندن أو باريس أو أي مكان عاشا فيه آنذاك. وفي اليوم التالي لحفلة ميا حضرا -منتهكين سياسة الملجأ "بعدم استقبال الزوار"- لمساعدتي على الرحيل إلى الشقة الانتقالية. هززت رأسي قليلاً وأنا أحملق بملابسهما-ارتدى ويليام بنطالاً ضيقاً من الجينز الأسود وسترة سوداء وجزمة سوداء بينما ارتدت والدتي ثوباً مخططاً باللون الأبيض والأسود عانق ردفيها المكتنزين وجوارب سوداء وحذاءٍ رياضياً. خيل إليّ أنهما مهيئين لإرتشاف القهوة وليس للرحيل. لم أسمح لأحد من ذي قبل بمعرفة مكان سكناي وبدا أن تطفل لكناتهم البريطانية وأزيائهم الأوروبية قد جعل كوخي الصغير، منزلنا، أكثر قذارة.

تفاجئ ويليام لدى رؤيته كل حوائجي مجموعة في حقيبة قماشية لا غير. حملها خارجاً وتبعته والدتي. التفت إلى الوراء لألقي نظرة أخيرة على الأرضية وعلى أشباح كياني التي تطالع الكتب على تلك الأريكة البالية وميا تبعثر سلة ألعابها وجلوسها في الجارور الموجود أسفل السرير. كنت سعيدة بالمغادرة ولكنها كانت لحظة خاطفة لاستيعاب ما عانيت من أجل البقاء ووداعاً حلواً ومراً لمكان بدايتنا الهش.

كان نصف سكان المبنى الجديد الذي تقع فيه شقتنا، ما يسمى برنامج إسكان العائلة الانتقالي، من أمثالي خارجين من ملاجئ المشردين ولكن النصف الآخر كان أشخاصاً قد خرجوا للتو من السجن. كان من المفترض أن يكون أرقى قليلاً من الملجأ ولكنني افتقدت سلفاً عزلة كوخي القديم. شعرت أن هويتي في هذا البناء بدت مكشوفة أمام الجميع وحتى أمامي.

انتظرت والدتي وويليام خلفي وأنا أقترب من باب منزلنا الجديد. عانيت في التعامل مع القفل ووضعت الصندوق على الأرض للضغط أكثر إلى أن دلفنا أخيراً إلى الداخل. وقال ويليام ممازحاً" على الأقل إنه آمن."

مشينا في ممر ضيق. كان الباب الأمامي مواجهاً للحمام ولحظت مباشرة حوض الاستحمام وربما نتمكن أنا وميا من الاستحمام سوياً. لم ننعم برفاهية الحوض منذ أمد بعيد. كانت غرفتي النوم إلى اليمين ولكل منهما نافذة مطلة على الشارع. وفي المطبخ الصغير واجه باب الثلاجة الخزائن الموجودة على الجانب المقابل. مشيت على البلاط الأبيض الذي يماثل الأرضية الموجودة في الملجأ وفتحت الباب المؤدي إلى شرفة صغيرة.

كانت عريضة بما يكفي بالكاد لجلوسي وتمديد قدمي.

أطلعتني جولي، المسؤولة عن حالتي، على المكان قبل أسبوعين. سكنت العائلة السابقة في الشقة لمدة أربعة وعشرين شهراً وهي أقصى فترة يسمح فيها بالسكنى هنا. وقالت لي: "أنت محظوظة لتوفر هذه الشقة خاصة وأنك استهلكت كل أيامك المسموح بها في الملجأ."

عندما قابلت جولي في المرة الأولى جلست قبالتها متلعثمة في محاولاتي للإجابة على أسئلة تخص خططي وكيفية تخطيطي لتوفير مأوى لطفلتي وما هو مسار استقراري المالي وأي عمل يمكنني القيام به. بدت جولي متفهمة لحيرتي وقدمت لي اقتراحات عن كيفية التقدم. كان الانتقال إلى الإسكان منخفض التكاليف خياري الأوحد. وكانت المشكلة الأهم العثور على بقعة شاغرة.

تواجد مناصرون في مركز خدمات الاعتداء والعنف المحلي والجنسي ووفروا ملاذاً آمناً للضحايا الذين لا مأوى لهم ولكنني أصبحت محظوظة عندما عرضت عليّ سلطة الإسكان شقة تخصني ومسلكاً للاستقرار.

تدارسنا أنا وجولي لائحة من أربعة صفحات من القواعد المقتضبة خلال اجتماعنا الأول وهي الشروط التي توجب علي الموافقة عليها من أجل البقاء في ملجئهم.

يتفهم الضيوف أن هذا هو ملجأ إسعافي وأنه ليس منزلك.

قد يطلب منك تحليل البول في أي وقت من الأوقات.

لا يسمح بوجود الزوار في الملجأ.

وبدون أي استثناء.

أوضحت جولي لي بجلاء أنهم قد يقومون بتفتيش عشوائي للتأكد من تلبية الحد الأدنى من المهام المنزلية اليومية مثل غسل الأطباق وعدم ترك الطعام على المنضدة والحفاظ على نظافة الأرضيات. ووافقت مرة أخرى على الاختبارات العشوائية للبول وتفتيش الشقة المباغت وحظر الخروج بعد العاشرة مساءً.

لم يسمح بمبيت الزوار دون إذن مسبق ولمدة لا تزيد عن ثلاثة أيام. ويجب الإبلاغ عن أي تغيرات في الدخل مباشرة. ويتعين على تقديم تقارير شهرية تفصل المال الداخل وكيفية صرفه.

كانت جولي لطيفة على الدوام وحافظت على ابتسامتها أثناء الحديث. وقدرت لها عدم امتلاك النظرة المتعبة الشاردة التي بدا أن موظفي الإغاثة الآخرين يحملونها.

عاملتني كإنسانة وهي تلملم شعرها النحاسي المحمر القصير خلف أذنيها أثناء حديثها. ولكن أفكاري تجمدت عندما دعتني "محظوظة".

لم أشعر أنني كنت محظوظة. ربما ممتنة نعم. بالطبع. ولكن لا أظن أن لدي أي حظ.

وكيف أكون محظوظة وقد انتقلت إلى مكان تقترح شروطه أنني مدمنة وقذرة وفوضوية في شؤون حياتي لدرجة تقتضي إلزامي بحظر تجول واختبارات للبول.

بدا أن الفقر والعيش في أتونه أشبه ما يكون بحكم مع وقف التنفيذ والجريمة المرتكبة هي فقدان وسائل البقاء.

المصدر:

Longreads


عدد القراء: 1555

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-