قراءة للكوميديا الرومانية (ديون) للكاتب الروسي ليونيد زورين.. معايشة تاريخية بين الجليد الساخن والثلج اللافح!الباب: مقالات الكتاب
د. رضا عبدالـرحيم مصر |
تنطبق حالتي الذهنية بعد الانتهاء من قراءة مسرحية الكوميديا الرومانية (ديون)، مع ما جاء على لسان الدوق "ثيسيوس" في مسرحية "حلم ليلة صيف" للكاتب الإنجليزي الشهير وليم شكسبير:........ (يقرأ) "منظر ممل قصير عن بيراموس الشاب وحبيبته ثيسبي، وهي كوميديا مأساوية للغاية"... ما هذا؟ كوميديا ومأساوية؟ ومملة وقصيرة؟ إنه الجليد الساخن إذن، والثلج اللافح! كيف نفهم هذا اللغو غير المفهوم؟ 1
والعمل (ديون) عنون أيضًا بالكوميديا الرومانية! تنسب إلى صاحبها الكاتب الروسى ليونيد زورين بالحوار الذي كتبه أكثر مما تنسب له بالقصة التي يرويها، سواء مستمدة من واقعة تاريخية أو أسطورة قديمة، لا فضل للكاتب فيها، كما نجد في مآسي شكسبير المستمدة من تاريخ إنجلترا والدنمارك وروما ومصر.
وتدور أحداث مسرحية الكوميدية الرومانية في قصر الإمبراطور الروماني "دوميتان"، المحاط بمجموعة من النواب والشعراء والفلاسفة المتملقين الذين يراوغون للحصول على مكاسب من الإمبراطور. وأيضًا هناك الشاعر الروماني "ديون" صاحب الضمير الحي واللغة الشعرية المميزة، إنه ينقد - بشكل مباشر- نفاق حاشية البلاط الملكي أمام الإمبراطور "دوميتيان"؛ مما يدفع الإمبراطور إلى نفى هذا الشاعر الناصح.. الوطني.. الشريف. حيث إن نهاية المسرحية تتركز على تلك المواجهة، فهو "ديون" يصارحه "دوميتيان" ويخبره بخفايا البلاد، ويذكره بكل ما يعلم من مكر وخداع الحاشية المرافقة له، مثل النائب العام الفاسد "أفرانيوس"، والشاعر المتملق الخائن "سيرفيليوس"2.
ونعود إلى حالة الجليد الساخن والثلج اللافح، وكيف نفهم هذا اللغو غير المفهوم؟
فالكوميديا هنا بشكل عام تركز دائمًا على أخطاء الإنسان التي يمكن إصلاحها، وهو ما دفع أرسطو إلى وصفها بأنها "محاكاة للأدنياء، وتمثل عادة تلك العيوب أخطاء في التركيب أو البناء الاجتماعي والعلاقات البشرية التي تشوبها أخطاء يمكن تلافيها سواء أكانت أخطاء في الأفكار أم المفاهيم أم أخطاء تقليدية توارثها المجتمع أم أخطاء تواضع عليها المجتمع فترة زمنية معينة، أم أخطاء من هذا أي أخطاء في النوازع البشرية نفسها3.
اعتمد الكاتب هنا أيضًا على الثنائيات الضدية في صياغة شخصياته، فنرى الشاعر الذي يُمثل ضمير الأمة الحي "ديون" مقابل الشاعر الخائن "سيرفيليوس" ففي الصفحات 59-63 يدور هذا الحوار بينهما، والذي جاء الأخير بعرض التعاون مع قائد الجيش القادم لغزو روما، بعد هزيمة الإمبراطور "دوميتيان" وهروبه:
ديون: فلتدخل في الموضوع ياسيرفيليوس. قلت إن لديك مهمة أتيت من أجلها...
سيرفيليوس: هذا صحيح يا ديون، العمل أولًا. هناك شخص ما يدعى روفوس توبيرون.
ديون: أعرف هذا الوغد.
سيرفيليوس: ليس وغدا بأي حال من الأحوال يا صديقي، لكنه أحد المقربين من لوسيوس أنطونيوس، قائدنا المظفر الذي ننتظره في روما خلال يوم أو يومين.
ديون: (باهتمام) حسنا، استمر، ولكن تكلم بوضوح أكثر.
سيرفيليوس: يجب أن أقول لك إن قائدنا لوسيوس على دراية تامة بكل الشؤون، وقد سمع بخلافك مع دوميتيان. ولهذا يعرض روفوس توبيرون-نيابة عنه- عرضًا لتساعد بموهبتك قضيتنا العادلة، وفي الوقت نفسه لترفع صوتك ضد عدونا المشترك، الذي يختبئ مثل آخر جبان في مكان ما.. ما هذا الصرير في منزلك؟!
ميسالينا (زوجة ديون): إنه صرير ألواح الأرضية؟ ماذا عساه أن يكون؟ هذا كُهنة وليس منزلاً.
سيرفيليوس: لا بأس، لا بأس، لن تعيشوا هنا فترة طويلة. العدالة في الطريق، مجازًا. لكن عليك أن تدعم المنتصر.
ديون: أليس من المبكر أن تحتفل بانتصاره؟
سيرفيليوس: ماذا تقول يا ديون، وهل أنا عدو نفسي. احكم بنفسك، هرب دوميتيان، المدينة مفتوحة، وحشود البرابرة تهرع لمناصرة أنطونيو. لا يا عزيزي، لقد انتهى الأمر، هنا انتهى.. اسأل ميسالينا، هي امرأة فطنة.
ديون: إذن، سيأتي البرابرة إلى هنا أيضًا؟
سيرفيليوس: مؤقتًا، حتى استقرار الأوضاع. بالمناسبة، لعل من الواجب أن تكتب أيضًا كلمة أو اثنتين مديحًا لقائدهم.
ديون: إنه حتى لن يتمكن من قراءتها، فهو أمي!
سيرفيليوس: هو؟! ما هذا الهراء؟!إنه من أكثر الأشخاص ذكاء! لماذا تستمع إلى كل أنواع النميمة؟ إنه يحفظ "هوارس" عن ظهر قلب، خاصة هذه الأبيات: "كم أحتقر الغوغاء الجاهلين".
ديون: لا بد من أنك كتبت مديحًا بالفعل.
سيرفيليوس: بالطبع يا حبيبي، فلا مجال لتضييع الوقت، هل تود الاستماع؟
سيرفيليوس: حسنًا، بماذا عليّ أن أخبر روفوس توبيرون؟
ديون: أخبره أن لدي دماغًا صلبًا، وليس به من المرونة مثقال ذرة. أخبره أن الخيانة دائمًا بالنسبة إليّ هي خيانة، ولا أسميها أبدا حنكة الدولة. وشهوة السلطة بالنسبة إليّ هي دائمًا شهوة السلطة، ولن تسمى بالنسبة إليّ في يوم من الأيام مسؤوليات الوطن. أخبره أيضًا أنه من المستحيل تحرير الناس من خلال إحضار غزاة جدد سيدمرونهم في النهاية. باختصار أخبره أنني باق هاهنا.
كما اعتمد الكاتب على الثنائيات الضدية والمتناقضة أيضًا في سلوك الإمبراطور نفسه، فنجده يغفر لكل من خانه من الحاشية وعلى رأسهم سيرفيليوس، ويتنكر لكل من أثبتت الشدة نُبل مواقفهم ووطنيتهم الخالصة وعلى رأسهم ديون وبيبول (حارس القصر) مبررًا ذلك بمفهوم الولاء للنظام(للسلطة) أيًّا كان من على رأس النظام! نقرأ في صفحة 92 هذا الحوار بين ديون والإمبراطور، الذي يوضح وجهة نظر الإمبراطور الهارب بعد أن استرد ملكه وسلطانه في مفهوم الولاء للنظام:
دوميتيان: لقد أصبحت خارقًا بحكم ضرورات الدولة. لا يمكنك فهم ذلك؛ يشعر الناس بالراحة حينما يحكمهم إله أبدي، وليس إنسان فان.
ديون: مفهوم! ليس الأمر بهذه البساطة إذن. وأنا الذي لم أكن أظن أن في إمكاني إنقاذ سيرفيليوس، فكان ذلك أبسط من البساطة، أما بيبول المخلص، فقد تذللت أمامك من أجله نصف يوم.
دوميتيان: فلتقل إذن إنك تحسد سيرفيليوس. كلكم صنف واحد!
ديون: (بتقزز) دوميتيان! يجب أن يتحلى المرء بالضمير.
دوميتيان: ماذا؟ ألم تفهم لم سامحته ورفعته؟ بل وتستاء لما أظنه من تواضع فى رأسك؟
ديون: لا يمكن ألا تكون قد فهمته بعد كل شيء؟!
دوميتيان: بل كنت أفهمه قبل ذلك، أهدأ. وبالطبع أنا أحتقره، ومهما كان ذلك أمرًا غبيًا، إلا أنني أحترمك. إلا أن هذا التابع بدوره يحترم رؤساءه، وهو الأمر الذي لا يمكن قوله عنك. تلك ميزته عنك.
ديون: ما هذا الذي تقوله؟ أيقظوني أيها الناس! ومن الذي كتب القصائد تمجيدًا لـ«لو سيوس أنطوني»؟!
دوميتيان: هو، هو. لأن لوسيوس كان رئيسه حينها. إذا أردت، فإن خيانته كانت على العكس دليلاً على نيته الصافية في الإخلاص، ودليلاً على ولائه لي فيما بعد. بالطبع ما دامت إمبراطورًا، فإذا لم أعد كذلك، فاحكم بنفسك، من هو سيرفيليوس بالنسبة إليّ؟ هل أصبحت الأمور أوضح بالنسبة لك؟
ديون: (مشتتًا) وأي وضوح!
دوميتيان: أخيرًا بدأت في التفكير، كان الأدعى أن تفكر قبل ذلك.
ديون: التفكير دائمًا مفيد أيها القيصر. الآن أفكر كيف سيضحك على الأحفاد؛ سينفجرون من الضحك؛ سيقولون "كيف كان العالم آنذاك؟! مذهلاً وغير مفهوم!
وقد ورث المسرح الروماني سابقه المسرح الإغريقي الذي نشأ بدوره في أحضان الديانات الإغريقية القديمة، وترعرع في ظل الديمقراطية الأثنية، حتى أصبح شكلاً من أشكالها ومنبرًا من منابرها. فالإغريق يطرحون على أنفسهم في المسرح ذات الأسئلة التي يطرحونها في الدين والفلسفة والسياسة؛ فهم يريدون أن يعرفوا أنفسهم، ويكشفوا دخائلهم، ويتبينوا ما يحركهم من حب وكراهية وخوف وطمع. وهم يسألون المنابر عما تُخبئه لهم من مصائر، وتنصب في طرقهم من فخاخ، وهم يتطهرون بالأحاسيس التي تخالجهم والعواطف التي تهزهم في المأساة والملهاة على السواء؛ فنحن نشفق على أنفسنا في المأساة ونضحك على أنفسنا في الملهاة4.
لم تكن هناك حدود دستورية تحد من سلطة الإمبراطور، إلا أن أوتوقراطيته (سلطته الاستبدادية) كانت محدودة مع ذلك، فإنه كان يعترف على الدوام بما عليه من التزام أن يحترم القوانين الرئيسية للشعب الروماني. كما أنه كانت تكمن في أعماق الأنفس الفكرة القائلة بأن السيادة للشعب، وكل ما في الأمر أن الشعب فوض سلطته للإمبراطور. وكان العرش في المقام الأول انتخابيًا، فقد كان من لهم حق انتخاب الإمبراطور هم: السناتور والجيش وشعب القسطنطينية. فلم يكن مفر من أن ينادى كل من هذه الهيئات بكل إمبراطور ثم يمارس التتويج، وعندئذ يصير حكمه مطلقًا ما دام مستوجبًا لرضا الناس؛ على أنه إن أظهر أنه غير مقتدر جاز لأي واحدة من السلطات الثلاثة الناخبة أن تعلن بدلاً منه إمبراطورًا جديدًا. وكان الذى يقوم بذلك عادة هو الجيش أو فريق من الجيش5.
الهوامش:
1 - وليم شكسبير، حلم ليلة صيف، دار الألف كتاب للنشر والتوزيع، القاهرة 2015، ص 131.
2 - يونيد زورين، الكوميديا الرومانية (ديون)، ترجمة محمد صالح، سلسلة من المسرح العالمي، العدد 416، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت يناير 2023.
3 - نبيل بهجت، المسرحيات القصيرة في المسرح المصري (دراسة ونصوص)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2020، ص28.
4 - أحمد عبدالمعطى حجازي، في معبد الفنون، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2022، ص 128.
5 - ستيفن رنسيمان، الحضارة البيزنطية، ترجمة عبدالعزيز توفيق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2010، ص ص 68-77.
تغريد
اكتب تعليقك