
متعة القراءة في عصر التشتت
يعتقد كثير من الناس أن القراءة، لا سيما القراءة النقدية، في تراجع. إذ يرى البعض أننا نقضي وقتًا طويلًا مشتتين بين أجهزتنا، وحين نغلق هذه الأجهزة ونجد وقتًا لقراءة كتاب، فإننا نستهلك ما يعادل “الوجبات الفكرية السريعة”.
لكن الكاتب آلان جاكوبز يتخذ موقفًا مضادًا تمامًا في كتابه «متعة القراءة في عصر التشتت»، حيث يرى أن القراءة ليست فقط على قيد الحياة في أمريكا، بل إن ما نعانيه في الحقيقة هو فقدان الثقة بالنفس: نحن نتساءل ما إذا كنا نقرأ بطريقة جيدة، بتركيز حقيقي وانتباه واعٍ، وبتمييز ناضج.
رسالة جاكوبز بسيطة: «اقرأ ما يُبهجك، وافعل ذلك من دون خجل».
ويقدم كتاب جاكوبز طرحًا مخالفًا للنهج المنهجي والإرشادي الذي نجده في كتاب مورتمر أدلر الكلاسيكي كيف تقرأ كتابًا، والذي يهدف إلى تعليم القراءة الذكية.
يقول جاكوبز: «ولهذا أقول للذين يسألونني: بالله عليكم، لا تجعلوا من القراءة معادلًا فكريًا لتناول الخضروات العضوية، أو (لأستخدم استعارة أخرى) موعدًا صارمًا مع جهاز المشي الذهني، حيث تُعدّ الصفحات أو الكلمات كما يُراقب بعضهم مؤشر “السعرات الحرارية المحروقة’ – تمرين مجهد ومرهق يُتيح لك أن تنظر إلى هزيمتك لـ ميدلمارش بشيء من الرضا الكئيب. كم هو أمر مُحبط. فهذا لا يُعدّ قراءة على الإطلاق، بل هو ما أطلق عليه سي. إس. لويس يومًا ‘النظافة الكونية والأخلاقية”».
الكتب العظيمة
يكتب جاكوبز عن الكتب العظيمة قائلًا: «اقرأ ما يُبهجك -على الأقل معظم الوقت – وافعل ذلك بلا خجل. وحتى إن كنت من تلك الفئة النادرة من الناس الذين يجدون المتعة في ما يسمى بـ «الكتب العظيمة»، فلا تجعلها غذاءك الفكري اليومي، تمامًا كما لا تتناول وجبة فاخرة كل يوم. سيكون الأمر أكثر من اللازم. الكتب العظيمة عظيمة جزئيًا بسبب ما تطلبه من قارئها: فهي ليست سهلة التناول، ولا يسهل الحكم عليها».
وليس جاكوبز وحده في هذا الرأي. فقد كتب الشاعر دبليو. إتش. أودن ذات مرة: «حين يفكر المرء في القدر من الانتباه الذي تتطلبه القصيدة العظيمة، يصبح من الترف حقًا أن نتخيل قضاء كل يوم بصحبتها. التحف الفنية يجب أن نحتفظ بها لأعياد الروح – لأعياد الميلاد والقيامة الشخصية، لا لأي أربعاء عادي».
متعة الكتب
وماذا ينبغي لك أن تفعل إذا كنت تقرأ كتابًا لا يُمتعك؟
«فإن لم يمنحني هذا الكتاب بعينه متعة الآن، فقد يفعل لاحقًا، إذا سمحت له بذلك. ربما فقط يبدأ ببطء وسيتسارع لاحقًا؛ ربما لم أتمكن بعد من فهم لغته الخاصة وسأفعل لاحقًا؛ وربما المشكلة ليست في الكتاب بل في قدرتي على التركيز لأن نومي كان متقطعًا الليلة الماضية…
هناك احتمالات عديدة. ولكن في كل الأحوال، عليّ أن أقرر ما إذا كنت سأواصل. ولوقت طويل، كانت قاعدتي الأساسية هي الاستمرار. بل لم أترك كتابًا بدأته إلا حين كنت في العشرين من عمري: كان الاعترافات، رواية كتبها وليم غاديس، واستسلمت بعد فترة طويلة من التردد الأخلاقي عند الصفحة 666. في ذلك اليوم حزنت، شعرت أنني سقطت عن منصة نبيلة؛ لكنني استيقظت في اليوم التالي وروحي تغني. فصحيح أنني لن أستعيد الساعات التي كرّستها لتلك الصفحات الـ666، لكن الساعات التي كنت سأقضيها في كفاح ممل مع الأربعمئة صفحة الباقية صارت الآن ملكي، أستثمرها كما أشاء. لقد مُنحت الزمن كهدية خالصة وحلوة».
أدلة القراءة
وعن كتب الإرشاد مثل كيف تقرأ كتابًا، يقول جاكوبز: «وأحد الأسباب الأساسية لعدم ثقتي في كتب مثل كيف تقرأ كتابًا، هو أنها تعدنا بمساعدتنا على التهرب من المسؤولية عن قراءتنا: فهي تقول ضمنًا إننا لسنا بحاجة إلى معرفة الذات أو التمييز لأن هناك خبراء سيقومون بذلك نيابة عنا».
ولمن يريد التعمق أكثر في هذا الموضوع، يوصى بقراءة متعة القراءة في عصر التشتت بالتوازي مع كيف تقرأ كتابًا. أما من يرغب في فهم أعمق لتأثير التكنولوجيا على القراءة – فإن جاكوبز من محبّي القارئ الإلكتروني كيندل – فعليه أن يضيف إلى قائمته كتاب الضحالة (The Shallows)، وكتاب الفائض المعرفي (Cognitive Surplus). ولا شك أن هذه الكتب لن تتفق في آرائها، لكنها ستفتح أمامك نوافذ لرؤى مختلفة.
المصدر:
عدد التحميلات: 0