الترجمة وإثراء المعرفة


يقول بوشكين شاعر روسيا الكبير : «المترجمون هم خيول بريد التنوير».

تاريخ الترجمة في الثقافة العربية

تعود أولى أصول حركة الترجمة في العالم العربي إلى القرن التاسع ميلادي، وبالتحديد مع «العصر الذهبي» لبغداد، في عهد الخليفة المأمون، الذي بنى أكبر معهد للترجمة في ذلك العصر، سماه «بيت الحكمة». كان ذلك أول اشتباك ثقافي بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى.

ومن بين أهم الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تفعيل حركة الترجمة في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، كان سببًا خارجيًّا غير مباشر، وآخر داخلي مباشر. فالأول كان نتيجة إلى وجود المدارس القديمة التي تمثل عصر ازدهار الثقافة اليونانية من جهة ودور السريان الذين يمثلون حلقة الوصل بين العرب وبين لغة اليونان من جهة أخرى. حيث كانت اللغة اليونانية شائعة التناول في مدارس السريان. وعندما فتح العرب المسلمون بلاد العراق والشام ومصر، واحتكاكهم بثقافات تلك المدارس المسيحية، طلبوا من السريان أن ينقلوا التراث العلمي والفكري اليوناني إلى اللغة العربية.

ارتكزت حركة الترجمة في تلك الحقبة، على نقل الفلسفة اليونانية والعلوم الهندية والأدب الفارسي إلى اللغة العربية، من خلال السريانيين والذين يتقنون لغات الإغريق والفرس من غير العرب المتواجدين داخل كنف الدولة العباسية.

وقد بدأت حركة الترجمة بشكلها العلمي إلا في العصر الأموي. حيث بدأت فيه نقل بعض العلوم إلى العربية. وكان خالد بن يزيد بن معاوية (85 هـ/704م) المُلقب بحكيم آل مروان، عندما أُبعد عن الخلافة، اتجه صوب العلم واهتم بالكيمياء لرغبته الشديدة في تحويل المعادن إلى ذهب. وهكذا أمر بعض علماء اليونان الذين كانوا في الإسكندرية أن ينقلوا له من اليونانية إلى العربية كُتب الكيمياء. كما وأمرهم بترجمة "الأرغانون" وهي مجموعة كُتب أرسطو في المنطق.

ويقول ابن النديم البغدادي (380 هـ/900 م) عن خالد بن يزيد: "وكان فاضلًا في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة (الكيمياء) فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصّح بالعربية، أمرهم بنقل الكُتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي. وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة".

ومن بين الذين ترجموا إلى خالد بن يزيد هما: أصطفن القديم، والراهب مريانوس. وبرغم إنه قد تم ترجمة كُتب في الفلك والطب أيضًا، لكن هذه التراجم لم يكن لها شكلًا رسميًّا إلا في العصر العباسي (132-656 هـ/750-1258 م). حيث اهتمت بها الدولة اهتمامًا قويًّا، كما في الجانب الفردي والجماعي. حتى بلغت الترجمة عصرها الذهبي في عهد المأمون (198-218 هـ/813-833 م) الذي كان يرسل البعثات العلمية لجلب العلوم من مواردها الأصلية في أمهات الكًتب.

وهكذا أصبح "بيت الحكمة" أول جامعة في بغداد، وأعظم مكتبة في العالم الإسلامي ترعاها الدولة. حيث يجتمع فيها العلماء والفلاسفة للدرس والمناظرة، ويؤمها الطلاب والباحثون من مختلف الأوطان والأمصار الإسلامية. بل هي أول نبراس ينتقل فيه الفكر والعلم من الاستماع إلى الاجتهاد، ومن الترجمة إلى التأليف. وبذلك انطلق الفكر في العالم الإسلامي ليصل فيما بعد إلى أعلى درجات الازدهار العقلي.

وكان لبيت الحكمة دور محوري في الإشعاع الحضاري لبغداد خلال ذلك العصر، والذي امتد ليصل الأندلس، فبرزت مجموعة من المدارس والاتجاهات الفكرية في الثقافة الإسلامية المتأثرة بالثقافة اليونانية، كالمعتزلة والصوفية، مثلما ظهر ثلة من الفلاسفة والمفكرين، الذين ساهموا في تنوير الثقافة العربية في عصرهم من خلال ترجماتهم، بدءًا من الجاحظ وابن المقفع والكندي مرورًا إلى الفارابي والرازي وانتهاء بابن رشد وابن سينا. كان لهؤلاء الفضل في حفظ الإرث اليوناني من الاندثار، قبل أن ينتقل إلى أوروبا مع عصر الأنوار.

غير أن هذا الإشعاع الحضاري لم يستمر طويلًا، فما لبثت أن سقطت بغداد على يد المغول عام 1252، لتنتهي حقبة العصر الذهبي لحركة الترجمة العربية.

وطوال تسعة قرون لم يحدث أي اتصال بين العرب والغرب حتى القرن الثامن عشر الميلادي، مع قدوم حملة نابليون بونابارت العسكرية إلى مصر. وعلى الرغم من إنها لم تستمر سوى ثلاث سنوات، إلا أن العرب فطنوا آنذاك لحجم الهوة بينهم وبين الغرب فكريًّا وعسكريًّا، فبادر الحكام المحليون إلى البحث عن المعرفة في أوروبا، فأنشأ محمد علي، حاكم مصر في القرن التاسع عشر "مدرسة الترجمة" إلا أن المعارف المترجمة كانت حينها منحصرة عند النخبة من أبناء عائلات المال والجاه والحكم.

لكن مع موجة الاستعمار الأوروبي للبلدان العربية في القرن العشرين، وجلبهم المطبعة والصحف للمنطقة، نهضت حركة الترجمة من جديد، وتم ترجمة مجموعة من روائع الفكر الأوروبي، من أعمال لافونتين، كورناي، فيكتور هوغو، لامارتين، موسيه، فينيي، بودلير، شكسبير، ميلتون، كيتس، بتلر، شيلي وكيبلينغ، على سبيل المثال.

واقع الترجمات العربية اليوم

بعد الحرب العالمية الثانية، استمرت حركة الترجمة العربية، مستفيدة من وسائل الاتصال والنظام العولمي الجديد، وشهدت تحسنًا تصاعديًّا بالمقارنة بما كانت عليه من قبل، غير أنها تبقى ضعيفة للغاية بالنظر إلى سياق هذا العصر.

في دراسة صادمة أنجزتها اليونسكو حول الحصيلة الكلية للترجمة العربية، تفيد بأن ما ترجم إلى اللغة العربية، منذ عصر المأمون سنة 813 إلى اليوم، لم يتجاوز العشرة آلاف كتاب، وهو عدد يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة فقط. وما تترجمه الدول العربية مجتمعة في السنة الواحدة لا يعادل خمس ما تترجمه اليونان وحدها في العام.

ويبلغ متوسط ما يترجمه العالم العربي على مدى خمس سنوات هو 4,4 كتاب مترجم لكل مليون مواطن عربي، بينما متوسط الترجمة في هنغاريا يصل إلى 519 كتاب مترجم لكل مليون مواطن هنغاري في نفس المدة.

تؤكد هذه الوضعية التي تعيشها الترجمة العربية دراسة إحصائية أخرى أعدها فريق من الباحثين، بتكليف من «اتحاد المترجمين العرب»، حول الكتب المترجمة في دور النشر ومراكز الترجمة العاملة في بيروت، خلال الفترة ما بين 2000 و2009، والتي توصلت إلى أن مجموع الكتب المترجمة إلى اللغة العربية لم يتعد الثلاثة آلاف طوال عشر سنوات، في حين تترجم إسبانيا عشرة آلاف كتاب في السنة الواحدة، وهو العدد المترجم للعربية منذ بداية تاريخها.

وبطريقة أخرى، إذا ما أردنا معرفة حجم الخصاص الهائل الذي تعاني منه الخزانة العربية، فإن مجمل الكتب العربية المترجمة خلال عشر سنوات لا يعادل نسبة %1 من الكتب الصادرة سنويًّا في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وللقارئ أن يتصور حجم المعارف والكتب الغائبة عن إدراك القارئ العربي.

أسباب تخلف وضعف حركة الترجمة العربية

لا يمكن فصل التأخر الكبير لحركة الترجمة العربية عن السياق العام، الذي يعيشه العالم العربي، وما يشهده من تخلف على جميع الأصعدة.

ولعل أبرز الأسباب المسؤولة عن تخلف نشاط الترجمة في العالم العربي، كما يراها العديد من الباحثين، هو افتقاد لمشروع تنموي واضح وشامل، يتناول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن ثم غياب الإرادة السياسية لدى الدول العربية في تنمية وعي شعوبها، والارتقاء بهم إلى الوعي الإنساني الذي راكمته البشرية.

يساهم العامل الاقتصادي أيضًا في تعطيل عجلة الترجمة العربية، إذ يتسبب نقص التمويل في إجهاض العديد من مشاريع الترجمة، مما يقلل الإنتاج المترجم باللغة العربية. ويرجع ذلك إلى عدم ثقة الدولة والنخب المالية في الاستثمار بمراكز الترجمة، كمشاريع منتجة.

وبما أن عملية الترجمة هي جزء من الإنتاج الثقافي، فبالتأكيد، يتعلق الأمر كذلك بضعف الوعي الثقافي لدى البلدان العربية، وما يعني من ضعف في ثقافة القراءة ورداء في أنظمة التعليم، وتشوهات نفسية وفكرية ناتجة عن التربية، الشيء الذي يقود في النهاية إلى تشكيل بيئة كارهة للفكر الجديد، وغير مشجعة على الإبداع والإنتاج والاستهلاك الثقافي.

وتعود أسباب الضعف في الترجمة إلى أسباب عدة، من أهمها ارتباطها بواقع الأمة المتخلفة على المستوى الثقافي والحضاري، الذي وصفه عضو جمعية الترجمة باتحاد الكتاب العرب، الأستاذ جمال دورمش بأنه مؤلم جدًّااً ويتسم بالفوضى والعشوائية، بالإضافة إلى نقص الحريات وتغليب المصالح الربحية والتجارية على البعد الثقافي، عدا عن طبيعة الشعوب العربية البعيدة عن ثقافة القراءة، وإهمالها بشكل عام. علاوة على ذلك تعاني اللغة العربية ذاتها من ضعف لسان الناطقين بها، فأصبحوا غير قادرين على مواكبة العلوم والتخصصات، لأن الترجمة تحتاج إلمامًا كبيرًا بالعلوم المتخصصة الأخرى، وثقافة ومعرفة كبيرة في اللغتين من أجل حسن الصياغة ومتابعة كل جديد، مما ينعكس على جودة الترجمة واحترافها.

على سبيل المثال، جل الكتب المترجمة للغة العربية لا تدخل في باب العلوم، وإنما يحظى الأدب بالقسط الأوفر، نظرًا للهاجس التجاري الذي يقض مضجع دور النشر.

كما أن حوالي %90 من الكتب المترجمة تقتصر على نقل ما كتب بالإنجليزية والفرنسية، في إغفال تام للغات الأخرى، ولا سيما منها اللغات الحية مثل الإسبانية والألمانية واليابانية، مما يحرم القارئ العربي من التعرف على أفكار وعلوم من إنتاج دول غير ناطقة بالإنجليزية أو الفرنسية.

من جهة أخرى، لم تصل حركة الترجمة العربية إلى مستوى الاحترافية بعد، إذ غالبًا ما تكون نتاج مجهودات فردية، وقليلة هي المؤسسات العربية المتخصصة في الترجمة، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى ظهور ترجمات بينها وبين النص الأصلي هوة شاسعة، وأخرى يتوغل فيها البعد الأيديولوجي بشكل ظاهر، وذلك لعدم نضج أعراف تقليدية وقواعد ثابتة تنظم حقل الترجمة في العالم العربي.

بالإضافة إلى ذلك، لا تنفتح الترجمة العربية بما فيه الكفاية على اتجاهات الفكر الغربي المتنوعة، مثلما تتفادى معالجة نوعية بعينها من الإنتاجات، المرتبطة بالدين والسياسة، نظرًا لنقص الحريات بالعالم العربي. وطالما تتدخل الدولة في اختيار نوعية الكتب المترجمة الممكن نشرها، فإن هناك الكثير من المعارف والأفكار ستبقى غائبة عن وعي الجمهور العربي.

من جانب آخر أيضًا، لا توجد هناك ترجمات عكسية، أي ما يترجم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، إذ تبقى الكتب المترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى ضئيلة.

وبالرغم من الكمية المحدودة من الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، فإنها لا تجد لها جمهورًا واسعًا من القراء، باعتبار أن هناك شبه غياب لثقافة القراءة بالعالم العربي، ناهيك عن أن نصف مواطنيه أميون، مما ينعكس في النهاية على الإنتاج الثقافي بصفة عامة، والترجمة العربية بشكل خاص.

وقد نشر موقع الجزيرة عما ورد في بيان مؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب أن العرب – الذين يتجاوز عددهم 270 مليون نسمة – لا يترجمون سنويًّا سوى 475 كتابًا، في حين أن إسبانيا تترجم 10 آلاف عنوان سنويًّا وعدد سكانها 38 مليونًا، وكذلك إسرائيل التي تترجم حوالي 15000 كتابًا سنويًّا.

ونقل عن تقرير التنمية الإنسانية العربية أن متوسط عدد الكتب المترجمة في العالم العربي هو 4.4 كتابًا لكل مليون مواطن سنويًّا، في حين يحظى كل مليون مواطن في المجر بنحو 519 كتابًا سنويًّا.

وفي الوقت الذي يسعى فيه الغرب إلى توسيع رقعة الترجمة في كافة المجالات، يركز العرب في أحيان كثيرة في عملية الترجمة على الأدب، ويهملون الفلسفة والعلم بآفاقه الواسعة.

وتشير البيانات إلى أن كل ما يستخدمه العرب من ورق سنويًّا لا يكاد يساوي ما تستخدمه دار نشر فرنسية أو روسية واحدة. كما أن الغرب يسعى على توسيع رقعة الترجمة في كافة المجالات، بينما يركز العرب أحيانًا كثيرة في عملية الترجمة على الأدب وإهمال الفلسفة والعلم بآفاقه الواسعة، إضافة إلى الفوضى العارمة في مشروعات الترجمة العربية. تدل هذه الأرقام على الفارق الحضاري الكبير بين العرب والغرب ضمن صراع الوجود في عالمنا المعاصر. فالترجمة جزء من منظومة حضارية وثقافية ضخمة.

الحاجة إلى ترجمة البحوث العلمية

ازدادت في العقود الأخيرة الحاجة إلى ترجمة ونقل الكتب والبحوث والدراسات الأكاديمية من اللغة الإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى إلى اللغة العربية. كما ازداد الطلب كثيرًا في السنوات الأخيرة على الترجمة في العالم العربي، وخصوصًا في المجالات النشطة مثل العلاقات الدولية والاقتصاد والعلوم والتقنية.

لذلك تم التأكيد على أهمية الترجمة في نقل التكنولوجيا الغربية والتقدم العلمي إلى العالم العربي، حيث أثبتت الدراسات الحديثة بوضوح أن ثاني أكبر دافع لتعلم لغة أجنبية هو الترجمة. يشعر المفكرون العرب أن هناك نقصًا حادًّا في الترجمة من وإلى العربية في جميع المجالات، ويشعرون بحاجة أكبر لترجمة الأدب العربي للإنجليزية واللغات الأخرى.


عدد القراء: 9039

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-