السيرة الذاتية هل هو أدب اعترافي؟


فن كتابة السيرة الذاتية نوع قديم من الأدب وهو قد مرّ بتغيرات مع مرور الوقت لأن العرب كانوا يعرفون هذا الفن في العصر الجاهلي أيضًا. وهذا يعني أن هذا الفن ليس حديثًا في بل إنه نوع معروف من الأدب العربي.

وكذلك شهد فن كتابة السيرة الذاتية تطورات مع مرور الزمن، وهو لا ينحصر في كتابة تراجم الكتّاب والمؤرخين بل إنه برز في أنواع مختلفة من الأدب مثل التاريخ، واليوميات، المذكرات، والاعترافات، والقصة، والرواية.

ما هي السيرة الذاتية

العصر الروماني منذ وجود الجنس الجديد (السيرة الذاتية) في الأدب اهتم اهتمامًا كبيرًا في الآداب العالمية عامة، والأدب العربي خاصة وبدأ الدارسون يتناولونه في بحثهم فوضعوا له عدة تعريفات، ومع ذلك ما وضعوا له حتى اليوم تعريف واضحًا لحدوده، وقد يعود السبب فيه إلى اتصاله بغيره من الأجناس الأدبية.

وبإلقاء نظرة على تاريخ الظواهر الأدبية في العالم العربي، سنجزم بكون أدب السيرة الذاتية متأصل فيه منذ زمن بعيد، بخلاف الفن الروائي الذي عرف نهضته القوية وتطوره السريع في العالم الغربي، مع صعود الطبقة البورجوازية، التي عبرت به عن كيانها، وذلك قبل أن يتحول إلى أدب مطروق لدى مختلف الطبقات الاجتماعية.

وعلى الرغم من التأثير الغربي، فإن الكتابات الروائية العربية ظلت موسومة بروح السيرة الذاتية، وهذا لا يعني أن هذا التوجه في الكتابة الأدبية ينفرد به المؤلفون العرب وحدهم في العصر الحديث؛ بل حتى كتّاب الرواية الأجانب نهجوا هذا المنحى في التأليف.

وتعد قدم وانتشار كتابة السير الذاتية في مصر والعالم العربي منذ أزمنة بعيدة، ربما تعود إلى عهود أقدم من العهود العربية، عندما كان الإنسان الأول في الحياة المصرية القديمة، أو في العهود البابلية والآرامية يكتب الشعر والاعترافات والرسائل، فكل هذه الكتابات كانت تعبر عن ذلك الإنسان وتفاصيله ووقائعه اليومية مع الطبيعة، أو مع الناس عمومًا، أو مع الله، وكان ذلك الإنسان قادرًا على إنتاج نصوص أدبية تنضح بأخبار الذات بشكل عميق، ونحن تعرّفنا على أخبار ذلك الإنسان الأول من تلك النصوص المتناثرة على جدران المعابد والمنازل، وفي المقابر، ولدينا تراث واسع وعميق نقله لنا علماء الأزمنة القديمة في هذا الشأن.

ولو تطرقنا إلى الأزمنة العربية، سنجد أشكالاً مختلفة من أخبار الذات، مثل أشعار امرئ القيس وعنترة بن شداد. تلك الأشعار التي تصل إلى حد الاعترافات التي تشير إلى قوة الذات أحيانًا، وفي أحيان أخرى إلى ضعفها دون أدنى محاولات لإخفاء الهزائم الذاتية تحت أي مبرر. وتتعدد في ذلك - لو دققنا - أشكالاً من السير. فهناك سيرة تطرح علاقة البطل - أي بطل السيرة - بالطبيعة، أو علاقته بقبيلته، أو علاقته بحبيبته، من ثم فهنا السيرة التي تسرد وتحكي وتتأمل سيرة العاطفة، وهناك السيرة التي تحكي سيرة القوة والبدن والمعارك العنيفة التي خاضها البطل هنا وهناك، والتراث العربي مليء بتلك الأشكال من قصّ الذات والإخبار عن أحوالها في مجالات القوة والضعف والعاطفة والحروب والتأمل والورع أو المروق مثل أشعار أبي نواس. وليس هناك أي مبالغة في وسم تلك الأشعار بأنها كانت تعبيرًا عن الذات في وجه من وجوهها، أما الوجه الأكثر عمقًا واتساعًا هو الإخبار عن تلك الذات عندما تريد أن تشكو أو تبكي أو تزهو أو تتبتل إلى الله وخلافه.

في كتابه "السيرة تاريخ وفن" يقول الدكتور ماهر حسن فهمي حول تطور السيرة الذاتية :«تاريخ السيرة الذاتية هو إلى حد كبير صورة من العقلية الإنسانية في مغامراتها من أجل البحث عن الحقيقة، ومن أجل ذلك كانت جذورها الأولى متشعبة في الحضارات القديمة كالمصرية والبابلية والهيلينية وغيرها، ولا شك أنها ليست سيرًا ذاتية بمفهومها المعاصر، ولكنها ضروب الإحساس بالذات والتعبير عنها فيما يشبه الاعترافات أو المذكرات أو الوصايا».

إن ظاهرة التحول من كتابة السيرة الذاتية إلى الكتابة الروائية في العالم العربي، سجلت حضورها ابتداء من منتصف القرن العشرين، لكن هذا التحول لم يعرفه جميع الكتاب؛ بل إن عددًا منهم هو الذي خاض هذه التجربة، وتحديدًا أولئك الذين مارسوا الكتابة الروائية تقليدًا، واتخذوا من تجاربهم الذاتية، ومن التقاليد الخاصة بكتابة السيرة الذاتية أو التي تسم أحد مكوناتها الكبرى: مذكرات، أو ذكريات، أو اعترافات مادة وصياغة روائية، وهذه إشارة دالة تجعلنا نتساءل من جهة حول مستقبل الكتابة الروائية العربية الإسلامية؟ وعن مدى إمكانية تحولها إلى قناع يتستر خلفه وجه السيرة الذاتية؟

عرض جبور عبدالنور – قبل أكثر من ثلاثة عقود - في معجمه الأدبي تعريفًا للسيرة الذاتية: «كتاب يروي حياة المؤلف بقلمه، وهو يختلف مادة ومنهجًا عن المذكرات أو اليوميات».

فهناك من يقول: «التراجم الذاتية أو الشخصية: هي أن يكتب المرء بنفسه تاريخ نفسه، فيسجل حوادثه وأخباره، ويسرد أعماله وآثاره، ويذكر أيام طفولته وشبابه وكهولته وماجري له فيها من أحداث تعظم وتضؤل تبعًا لأهميته».

ومن يقول: «هو نوع من الأدب يجمع بين التحري التاريخي والإمتاع القصصي».

ملامح السيرة الذاتية

اعتنى النقاد بذكر الفروق الموجودة بين السيرة الذاتية والأجناس الأدبية الأخرى القريبة منها- كالسيرة الغيرية، والتاريخ، والمذكرات، واليوميات، والرواية - وذهب معظمهم إلى إصدار آراء متفقه إلى حد ما بغية الوصول إلى ملامح فنية محددة لهذا الجنس الأدبي؛ فيرى النقاد والدارسون أن السيرة الذاتية تختلف عن السيرة الغيرية، لأن الأولى ذاتيه يكون كاتبها غارقًا في "الأنا" بحيث ينقل نقلاً مباشرًا من داخل الذات بالاعتماد على التذكر القوي لذكرياته، بينما يلجأ الكاتب في الثانية إلى النقل عن طريق الوثائق والمدونات، والمشاهدات، والملاحظات بغـض النظر عن ذاته، ما يجعله موضوعيًّا في كتابة السيرة وإنجازها.

فكاتب السيرة الغيرية في كثير من الأحيان لا يمكنه أن يصف أحاسيس شخصيه وانفعالاتها ولكن كاتب السيرة الذاتية أكثر مقدرة على سبر أغوار ذاته وكشف ما يجول فيها، فهو يقف موقف الشاهد والقاضي، بينما يقف كاتب السيرة الذاتية الغيرية موقف الشاهد فحسب، نظرًا لاستقاء مادته من العالم المحيط به، وبهذا يمكن القول إن كاتب السيرة الذاتية يقدم الشخصية من الداخل إلى الخارج، أما كاتب السيرة الغيرية فإنه يقدم الشخصية من الخارج إلى الداخل. هذا وهناك تطابق بين السارد، والشخصية الرئيسية، والمبدع في السيرة الذاتية؛ ولكن السيرة الغيرية لا يمكن فيها أن يتطابق المبدع مع الشخصية الرئيسية.

أما موقف السيرة بنوعيها الذاتية والغيرية من التاريخ، فإنها في بعض الأحيان تقترب من التاريخ إلى درجه يعدها بعض الباحثين لونًا من ألوان التاريخ ولا غرابة لأنها نشأت في حضن التاريخ، ولكن السيرة الغيرية ألصق بالتاريخ لأن موادها مستمدة من الوثائق التاريخية بخلاف السيرة الذاتية التي تتجه إلى سبر أغوار الإنسان. فالسيرة الذاتية تبتعد عن التاريخ لأن الراوي يعتمد على الذاكرة لإيجاد الأحداث، وإن ظل عاجزًا عن استرجاع الذكريات يلجأ إلى الخيال الذي يعد تشويهًا للتاريخ وتزويرًا له.

والمذكرات تختلف عن السيرة الذاتية لأن مادتها أوسع مدى منها إذ تركز المذكرات على سرد الأحداث العامة والتاريخية دون التعليق على الحياه الشخصية لكاتب المذكرات. واليوميات مع أنها «أكثر قربًا من السيرة الذاتية» ولكنها تختلف عنها باعتبار أحداثها متقطعة غير رتيبة وافتقارها إلى المنظور الاستعادي في القص. وهناك مسافه زمنيه بين لحظة الكتابة ولحظة الحدث بين الجنسين، إذ المسافة الزمنية التي تفصل بين زمن الكتابة وزمن التجربة تكون في السيرة الذاتية أوسع منها في اليوميات، كما أن الإحالة المرجعية في اليوميات تمتاز بالدقة نظرًا لقرب لحظة التدوين من لحظة التجربة.

أما الترجمة الذاتية لها القدرة أن تميل نحو الرواية وتتخذ القالب الروائي لتُوجد جنسًا جديدًا يسمي "برواية السيرة الذاتية" أو "السيرة الذاتية الروائية" وهذا الأمر جعل الرواية «أكثر الأشكال الفنية قربًا من السيرة الذاتية».

السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم

أول مشكلة نجدها عند كل كاتب السيرة، هي: الأسلاف احتجبوا خلف ما كتبوا، وقد يذكر أن بعض الطوائف يحتجبون خلف اعترافاتهم العقلية.

 وهنا تبرز سيرة ابن سينا القصيرة لكن الغنية تجربتها المعرفية.

ولا شك في ذلك بأنّ الشخص العربي كان يمدح قبيلته على كل حال، وكان الشخص العربي يلتزم قرارات قبيلته مهما كانت الظروف وهذا ما يميزه قول دريد بن الصمة:

وهل أنا إ لا من غزية إن غوت

                                         غويت وإن ترشد غزية أرشد

 ويقول عبدالرحمن البدوي إذا لم تصلنا نصوص نثرية مكتوبة سردها إنسان عاش في العصر الجاهلي عن نفسه فذلك الكتابة كانت قليلة في العصر الجاهلي.

 وكان للشاعر الجاهلي مقام كبير في قبيلته لأنه كان يدافع عنها بشعره ويسجل أعمالها، ولذلك قد وصل إلينا الشعر ولم يصل النثر.

والشعر كذلك استطاع أن يشتمل على سيرة ذاتية وإن كانت غير واضحة. أما بالنسبة في العصر الإسلامي فإن أول قطعة وصلت إلينا هي ما رواه سلمان الفارسي عن نفسه، وهذه القطعة ذكرها الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد وأسندها إلى ابن عباس، حينما يذكر فيها السيرة الذاتية عن نسبه، وهذه القطعة قد تعد أول بذرة للسيرة الذاتية في القرن الأول. وبعد ذلك نجد باقة من قطع السير الذاتية متناثرة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ما تتعلق بسيرة الشاعر الأموي نصيب بن رياح وسيرة إبراهيم الموصلي وإسحاق ابن إبراهيم الموصلي. وبعد كتاب الأغاني قد وجدنا السير الذاتية في كتاب آخر هو: (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لموفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي - المعروف باسم ابن أبي أُصيبعة (توفي قرابة عام 1269م) فقد ورد فيها  سيرة ابن إسحاق وابن الهيثم.

وذكر إحسان عباس في كتابة فن السيرة، أن ابن الهيثم كان صريحًا في سيرته إلى درجة تضر بسمعته بين الناس كما أن الحق بين شغل منذ أول أمره باختلاف الفرق، وقد اهتدى بفطرته إلى  معرفة حق الطوائف والملل والمذاهب إنما هو في طريق الوصول إليه، واقتنع بالعلم وبذلك هي التي تقربه إلى ربه، بعث عزيمته إلى هذه المعرفة التي لا تنال إلا بالعلم وبذلك تحدد وسيلته وغايته.

السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث

أما في العصر الحديث فنجد هذا الفن السير الذاتية في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، بعد حملة بونا بارت على مصر في سنة 1797 وسلك المحدثون على طريقة قدمائنا في الترجمة لأنفسهم، بعد الاطلاع وإتقان من اللغات الأجنبية عند العرب وفي هذا المنطلق يكتب محمد بن عمر التونسي في كتابه (تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان) عام 1832م ويحتوي مقدمة هذا الكتاب سيرة المؤلف نفسه، عن الوظائف التي شغل بها، ثم تحدث عن رحلته إلى بلاد السودان.

وكتاب تخليص الإبريز لرفاعة الطهطاوي فقد يُعده الباحثون من الكتب الأساسية في فن السيرة الذاتية، والحقيقة بأنه محتجبًا عن عيون الناس مدة من الزمان وغرض رفاعة من هذا الكتاب، هو ذكر رحلته إلى فرنسا و هذا قد يفيد للدارسين الذين سوف يسافرون إلى فرنسا أو انجلترا.

وفي رأي إحسان عباس حول الكتاب (الأيام) لطه حسين هو أول كتاب في السير الذاتية الحديثة ولا يتسابق معه كتاب آخر من أدبنا العربي، وله ميزات عديدة منها: الطريقة البارعة في القصص، والأسلوب الجيد، وكذلك العاطفة المكنونة، والقدرة على السخرية.

وكذلك نجد السيرة الذاتية لابن حز م الأندلسي في كتابه طوق الحمامة في الألفة والآلاف و يتزين هذا الكتاب بالأحداث التاريخية وقد يتصور القارئ بأن أمامه يجري الحوادث مثل الأفلام الجارية على الشاشة ونحن نرى في العصر الحديث بعض الناثرين ينسجون ترجمتهم في نسيج قصصي، منهم: الشدياق، وتوفيق الحكيم، والجدير بالذكر أن طه حسين تأثر من روسو واعترف بالصراحة. بيد أن طه حسين قد أبدع في هذا الميدان وفي مجال النقد الأدبي مع ذلك كان موهوبًا في مجال القصة والرواية.

وكذلك قد تأثر أحمد أمين بكتاب الأيام ومشى على منوال طه حسين حينما كتب سيرته في حياتي وليس سبب التأثر هو شهر ته الأدبية فحسب، بل أثرت شخصيته في نفسيته.

"حياتي" لأحمد أمين قد يمثل فيه العلاقات الخارجية بالناس والأماكن ويميل إلى ذكر الحقيقة وأسلوبه جميل وإخباري ومرتبط بين السيرة الذاتية والتاريخ ومبتعد عن الناحية الفنية. وكذلك نجد في العصر الحديث أيضًا في أدبنا السير ذاتية للأديب توفيق الحكيم في كتابه "رواية عصفور من الشرق". أما عباس محمود العقاد نراه مختلفًا في أسلوبه في كتابة سيرته الذاتية واختلف اختلافًا تامًا عن طريقتي وأسلوبي طه حسين وأحمد أمين.

نـجد عند العقاد أسلوبًا تـحليليًا تفسيريًا، وهو تعود عليه وكتب مقالاته على هذا الأسلوب.

متى تُكتب السيرة الذاتية

لايري النقاد والدارسون لصاحب السيرة الذاتية أن يبدأ بكتابة سيرته في عمر محدد وسن معينة بل يقدمون الأمثلة للذين بدأوا في وقت مبكر، ومن هذا المنطلق يقول إحسان عباس: «وليس لدى الكتّاب من عمر محدود يقفون عنده لكتابة سيرهم، فإن نيتشة كتب سيرته وهو في الأربعين، وكتبها سلامه موسى حين بلغ الستين؛ وأحمد أمين حين تجاوز هذه السن أيضًا؛ ولكن لا ريب في أن الإسراع إلى كتابة الترجمة الذاتية، في سن مبكرة، يفوت على كاتبها أمورًا كثيرة، فقد يكتبها قبل أن تتضح له نتائج تطور خطير في حياته، وقد يكتبها قبل أن تقف مبادئه في الحياة واضحة جلية لعينيه. وهناك خطر آخر: وهو أنه يحشد في سيرته تجارب كان من الممكن أن يفيد منها في بناء عدة قصص، وفي إيجاد عدة شخصيات، وفي نظم عدد من القصائد أو استغلالها في أي فن أدبي آخر؛ وهذا ما وقع فيه الدكتور طه حسين في "الأيام"، فإنه قد "جمّد" تجاربه دفعه واحده».

أما البارودي فإنه يقدم تجربه إحصائية للسير الذاتية في الأدب العربي المعاصر، ويرى أن «أكثر من 62 % من كتاب السيرة الذاتية العربية أصدروا مؤلفاتهم في بداية الشيخوخة أو في نهايتها و25 % من هؤلاء الكتاب صاغوا سيرهم الذاتية في أواسط العمر». فإن البارودي يعتقد بشكل غير مباشر أن كتابة السيرة في أواسط العمر وفي السن المبكرة أمر محدود لأن معظم السير الذاتية التي كتبت في الأدب العربي الحديث إثارة للجدل هي تلك التي كتبت في أواسط العمر، ويذكر "الأيام" لطه حسين تأييدًا لهذا القول.

السيرة الذاتية عند أدباء الغرب

يقول د. حسن فتح الباب: إن السيرة الذاتية عند أدباء الغرب كثيرًا ما تكون اعترافات يميطون فيها اللثام عن مساوئهم التي تصل إلى حد الخطايا لا الأخطاء وحدها، ولا يتورعون عن الكشف عن مباذلهم الجنسية، ويحضرني هنا مثال صارخ لذلك هي اعترافات القديس أوغسطين، وكذلك السيرة الذاتية للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (اعترافات فتى العصر) أما في الأدب العربي فلا نجد كاتبًا سجل ما ارتكبه من آثام، باستثناء الكاتب المغربي محمد شكري في كتابه (الخبز الحافي) ذلك لأن أدباءنا يراعون التقاليد الاجتماعية والدينية خشية نبذهم من الرأي العام الجمعي، فـ"طه حسين" في (الأيام) لم يفصح عن علاقاته بالمرأة، ود. أحمد أمين في (حياتي)، ود. عبد الرحمن بدوي الذي برأ نفسه في مذكراته من كل العيوب وألصق عيوبًا كثيرة بالآخرين، بل إن سلامة موسى - رغم تحرره وإيمانه بالمثل الغربية - لم يتناول في مذكراته ما وقع فيه من أخطاء، وفي رأيي إنه ينبغي على الأديب الذي يتصدى لكتابة سيرته الذاتية أن يكون صريحًا، وإلا كان مزورًا مثل الكثير من رجال السياسة الذين كتبوا مذكراتهم، فجنوا على التاريخ وأحاطوا أنفسهم بهالة من الأكاذيب.

ويرى الناقد والمترجم د. رمسيس عوض أن الكاتب العربي - مهما توخى الصراحة - محكوم بقيم المجتمع وعاداته وأعرافه، حتى لويس عوض الذي تجرأ وتجاوز هذه الحدود، لم يتجاوزها إلى آخر المدى كما يفعل الغربيون، ففي الغرب لا يجدون أي غضاضة في أن يكشفوا عن خبيئة أنفسهم، بل ويفضحوا أنفسهم، لأن الثقافة الغربية لا تجد غضاضة في مثل هذه الصراحة، ومن النادر أن نجد أدباء غربيين يحاولون إخفاء أسرار حياتهم وما قد يشوبها من شذوذ.

ويضيف عوض قائلاً: لعل أبشع أنواع الاعتراف بالذنوب والخطايا، ما نجده في أدب جان جنين، إذ يشعر القارئ بأنه يحاول أن يجعله يتقزز من كتبه، الأمر نفسه بالنسبة للكثير من كتاب الغرب الذين تُعد اعترافاتهم نوعًا من التمرد على أخلاقيات الطبقة الوسطى وما فيها من زيف وادعاء.

اختلاف قديم

ويرجع الكاتب يوسف الشاروني جذور الحكاية إلى الاختلاف بين التماثيل الفرعونية والشرقية بوجه عام وبين الإغريقية، إذ نجد الاحتشام وتغطية الجسد في تماثيل الفراعنة والشرقيين بينما الجسد البشري متاح بصريًّا في التماثيل الإغريقية.

ويواصل قائلاً: في المجتمعات العربية والشرقية ثمة سير ذاتية، لم تتحدث إلا عن التاريخ العمومي ووقائع الحياة، أما الآن فيوجد نوع من الانفراجة، فنجد طه حسين يتحدث عن عاهته، واعتبرنا هذه جرأة غير مألوفة. جان جاك روسو في اعترافاته يتحدث عن أمور يخجل منها الإنسان في الشرق، ولا يمكن أن يتناولها أدبنا العربي، لدينا الآن جرأة أكثر مما كانت قبل ذلك في التراث العربي القديم.

بولدوين الكاتب الزنجي الأمريكي كتب سيرة حياته، فجاءت مجرد حكايات جنسية، بحيث لا يمكن ترجمتها إلى العربية، الفرق أننا نراعي الآداب العامة، بينما لديهم في الغرب لا يوجد سقف أو حدود.

وجهة النظر التي يتبناها الشرق هي احترام المسائل الجنسية وعدم الحديث عنها، فهي تمثل خصوصية بينما الغرب يعتبرها أمرًا عامًا وهذا ليس فقط في الروايات أو في السير الذاتية، ولكن نلاحظ ذلك في الفن أيضًا، أقصد الفن التشكيلي والفن السينمائي.

ويختتم الشاروني بقوله: أخيرًا أنا رجل شرقي لا استطيع أن أكتب مثلما كتب روسو.

ويقول الناقد العراقي عبدالله إبراهيم «أدب الاعتراف موجود، وفي مقدمته السيرة الذاتية، يتلقّى إمّا بوصفه جملة أسرار، وإما على أنّه مدونة فضائح ينبغي التستر عليها، فسوء الظن يتربص بالكتّاب والقراء على حدّ سواء، ولا غرابة في أن نجد ندرة فيه (في أدب الاعتراف) في الأدب العربي قديمه وحديثه، فلا يقبل الكاتب البوح بالجوانب الشخصية، فالخوف يعمق رغبته في الصمت، فيتجنب الكاتب ذكر الوقائع الصريحة، ويطمر ذلك في طياته تزييفًا للتاريخ الشخصي، ويجعل من خداع الذات سلوكًا مقبولاً، فتتوارى الوقائع المهمة في حياة الكاتب، وهذا يخالف وظيفة أدب الاعتراف وهي استبطان المناطق المخفية من حياة الأشخاص».

ويقر إبراهيم بأن أدب الاعتراف مازال مبعدًا عن السياق الرسمي للأدب العربي، وفي الكثير من الأحيان يوصم المعترف بأنه شخص غدر بمجتمعه، وتنكر له بأن فضّل اختيارًا فرديًّا تاركًا الجماعة خارج اهتمامه، أو أنّه فضح البطانة الخفية المسكوت عنها.

ويضيف «أدب الاعتراف محطّ شبهة وموضوع ارتياب، لأن الجمهور لم يتمرس بقبول الحقائق، فيرى في جرأة الكاتب على كشف المستور سلوكًا غير مقبول، وإفراطًا في فضح المجهول، فالاعتراف محاط بالكثير من ضروب الحذر في مجتمعات تقليدية تتخيل أنها بلا أخطاء، فتبالغ في ذكر نِعم الله عليها، وكأنها هبات خصّت بها دون سواها، وتتحاشى ذكر عيوبها، وتتوهّم أنّها تطهّرت من الآثام التي واظبت على اقترافها مجتمعات أخرى، فتدفع المخاوف الكثير من الكتّاب إلى اختلاق تواريخ استرضائية لمجتمعاتهم، وابتكار صور نقية لذواتهم، متجنبين كشف المناطق السرية في تجاربهم، فصمتوا عمّا ينبغي عليهم قوله أو زيّفوا فيه، وربما أنكروا وقوعه، يريدون بذلك الحفاظ على الصور الشفّافة لهم ولمجتمعاتهم».

 

المصادر:

1 - يحيى إبراهيم عبدالدايم، الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث. بيروت: دار إحياء التراث الأدبي  1974م.

2 - محمد الباردي، عندما تتكلم الذات: السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث. دمشق: منشورات اتحاد كتاب العرب 2005م.

3 - جبور عبدالنور، المعجم الأدبي. الطبعة الأولى. بيروت: دار العلم للملايين 1979م.

4 - رشا رمضان، دعاء هيكل – صحيفة اليوم - 3 أكتوبر 2005 العدد 11798.

5 - خلود الفلاح، أدب السيرة الذاتية عند العرب بين الإفصاح والارتياب، صحيفة العرب اللندنية، العدد: 10596، في 8/4/2017.

6 - عبد الفتاح أفكوح، ديوان العرب، آفاق تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، نشر في 29 كانون الثاني/يناير 2007، http://www.diwanalarab.com/spip.php?article7666

7 - السيرة تاريخ وفن، دكتور ماهر علي حسن، مكتبة النهضة المصرية، 1970، ص219.

8 - د. عبدالمجيد البغدادي، مجلة القسم العربي، جامعة بنجاب، لاهور- باكستان، العدد الثالث والعشرون، 2016م.


عدد القراء: 20347

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-