المعارك الأدبـية في القرن العـشـرين


خاص – مجلة فكر الثقافية

كانت المعارك الأدبية المشتعلة بين لفيف من الأدباء مظهرًا من مظاهر التوهج والتجديد والانطلاق في عالم الفكر والأدب، وهي تعكس الرغبة في فرض الرؤى الجديدة أو ترسيخ الرؤى الكلاسيكية تحت دعوى المحافظة على الذات ضد خطر الاستلاب – كل بحسب اتجاهه - كما تعكس الرغبة في تكريس الذات واستراتيجية السيطرة باعتبار الكتابة، سلطة وباعتبار النص فضاء يحجب ويطمس بقدر ما يصرح ويعلن.

ولا شك أن ازدهار الصحافة في النصف الأول من القرن العشرين، وتنوع الصحف بين سياسية ودينية وأدبية، يومية وأسبوعية، نصف شهرية أو شهرية ووجود مساحة عريضة من القراء والمتابعين أولئك الذين يشكلون موردًا ماليًا للجريدة شجع ذلك كله حمى الصراع الفكري والأدبي ومحاولة كل طرف فرض وصايته أو تكريس ريادته وسلطته وهيمنة لقبه مثل: عميد الأدب العربي، عملاق الأدب والفكر، أمير البيان العربي.

وبقدر ما اتسمت تلك المعارك بالخصوبة والغنى، فقد أثرت مساحة النقد والفكر والإبداع، وكانت محفزًا لظهور مؤلفات أدبية وفكرية عديدة بل كانت موضوعًا لأطاريح أكاديمية استلهامًا من أجواء تلك المعارك وتوسيعًا لها من دائرة الصحافة إلى دائرة التأليف.

معركة الأدبية بين عباس العقاد وأحمد شوقي

يمكن القول إن المعركة التي وقعت بين عباس العقاد وأحمد شوقي، والتي جرت من جانب واحد، كانت واحدة من أشهر المعارك الشعرية، وقد وصفها الكاتب الكبير أنور الجندي في مقالة نشرت بعدد أبريل 1967 من مجلة «الهلال»، فأوجز وأوفى بقوله: «بدأها العقاد بمقالاته في «الديوان»: 1922، ووسّعها بنقده في يوم تكريمه والاحتفال بيوبيله عام 1927، ثم والاها بنقده رواية «قمبيز في الميزان»، ومما قاله العقاد في «الديوان» ومثّل رأيه في شوقي ما يلى: «كنا نسمع الضجة التي يقيمها شوقي حول اسمه في كل حين، فنمرّ سكوتًا، كما نمّر بغيرها من الضجات في البلد، لا استضخامًا لشهرته، ولا لمنعة في أدبه عن النقد، فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق، هدمه في اعتقادنا أهون الهينات، ولكن تعففًا عن شهرة يزحف إليها زحف الكسيح، ويضن عليها من قوله الحق ضن الشحيح» «عباس محمود العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني: الديوان في الأدب والنقد، ص27»، ويلخص العقاد رأيه في شعر شوقي فيقول: «فالقصيدة إما بيت حذفه وإثباته سواء، أو بيت حذفه أفضل»! «المرجع السابق: ص ص 37-38»، ولقد واصل العقاد هجومه على شعر شوقي في شتى المناسبات، حتى في مناسبة تكريمه بإطلاق لقب أمير الشعراء عليه، حيث كتب العقاد في عدد صحيفة «البلاغ» الذى صدر في صبيحة الأحد الأول من مايو 1927 مقالاً جاء فيه ما يلي: «إن لنا في شعر شوقي وفى صاحب الشعر رأيًا معروفًا، لا يحولنا عنه ما يحول الناقدين والكاتبين في هذه البلاد، أما الشعر فمجمل رأينا فيه أنه لم يرتفع بنفس قارئ واحد إلى أفق فوق أفقه، ولم يفتح لقارئ واحد نهجًا من الإحساس أوسع من نهجه، ولم يعلم أحدًا كنه الحياة، ولا زين لأحد شيئًا من صور الحياة» «أنور الجندي: معارك العقاد الصحفية، الهلال، إبريل 1967، ص 51»، لذلك خلص الدكتور أسامة موسى إلى أن مدار القضية بين العقاد وشوقي، تمثل في نظرتيهما لقيمة الشعر وغايته، «فالشعر عند العقاد هو التعبير عن الحياة وعن الوجدان الإنساني»، بينما الشعر عند شوقي هو: «مهارات لفظية ولغوية وبلاغية غايتها أن تبهر السامعين» «د. أسامة موسي: الناقد المقاتل... قسوة الرأي وشجاعة المواجهة، الهلال، مارس 2014، ص80».

المعركة الأدبية بين زكى مبارك وطه حسين

وتعد المعركة التي وقعت بين الدكتور زكي مبارك وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، أكبر معركة أدبية وقعت في تاريخ الأدب العربي المعاصر، حيث امتدت وقائعها خلال الفترة من عام 1931 وحتى عام 1940، وبدأت بعودة زكى مبارك إلى مصر في عام 1931، وبعد حصوله على الدكتوراه من السوربون في «النثر الفني في القرن الرابع الهجري»، حيث عيّن بعقد للعمل في الجامعة المصرية، فلما نما إلى ما وقع من خلاف رأى بينه وبين المستشرقين في السوربون، ذلك الخلاف الذى واصله زكي مبارك حتى بعد عودته لمصر، وتوّجه بكتاب عنوانه «النثر الفني في القرن الرابع الهجري»، الذى لقى من النقد الكثير، حتى إن طه حسين أهمله تمامًا وأعرض عن التحدث عنه، متجاهلاً عنوان الكتاب واسم الكاتب ومعبرًا عن ازدراء وتحقير وتنقيص لقيمة الكتاب، وهو ما يستدل عليه من إشارة د. طه إلى الكتاب ومؤلفه بقوله: «كتاب من الكتب ألفه كاتب من الكتّاب»! «أنور الجندي: المعارك الأدبية، ص670»، فلما أحيل طه حسين في التاسع والعشرين من شهر مارس 1933 إلى التقاعد من منصب عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية، وكان زكي مبارك يعمل آنذاك بوظيفة مدرس بكلية الآداب، جاءت إقالة طه حسين من العمادة بين توابع أزمة كتاب «الشعر الجاهلي»، التي توالت منذ صدوره في عام 1926، حيث تبارى الجميع أثناءها في العصف بالكتاب وصاحبه، وكان زكي مبارك بين قلة ممن دافعوا عن طه حسين على صفحات الصحف، فلما عاد طه حسين إلى عمادة كلية الآداب إثر إثارة قضية كتابه في البرلمان، كان رفضه تجديد عقد زكي مبارك للعمل بوظيفة مدرس بكلية الآداب، بين أول ما اتخذ من قرارات، ويمكن القول إن حيثيات ذلك القرار تنحصر في نفوذ المستشرقين وانحياز بعض المثقفين ممن درسوا في الغرب- لأفكار الغربيين وثقافاتهم، وهو قرار كان بمثابة شرارة فجرت أحداث المعركة الأدبية الأكبر في تاريخ الأدب العربي المعاصر، واصطدم طه حسين مع زكي مبارك اصطدامًا قويًا شديدًا عنيفًا. كانت المواجهة بين الرجلين فكرية ثم تحولت إلى خلاف شخصي حاد دام ما يقرب من 9 سنوات، وعُرِفَتْ في الأدب العربي بمعركة لقمة عيش،تلك المعركة التي افتتحها زكي مبارك بمقالة جاء فيها الآتي: «لقد ظن طه حسين أنه انتزع اللقمة من يد أطفالي، فليعلم حضرته أن أطفالي لو جاعوا، لشويت طه حسين، وأطعمتهم لحمه، ولكنهم لن يجوعوا ما دامت أرزاقهم بيد الله»! «أنور الجندي» المرجع السابق، ص671»، ثم توالت مقالات زكي مبارك التي وقفها للهجوم على طه حسين وكل ما يصدر عنه من كتابات وآراء، وهي مقالات بلغ الإسفاف فيها حدًا شنيعًا.

فالخلاف الفكري بين طه حسين وزكي مبارك يرجع إلى أمرين؛ كان طه حسين يرى أن العقل اليوناني هو مصدر التحضر وأن عقلية مصر هي عقلية يونانية ولا بد لمصر أن تعود إلى احتضان ثقافة وفلسفة اليونان، في حين كان زكي مبارك ضد هذه النزعة اليونانية واتهم طه حسين بنقل واتباع آراء المستشرقين والأجانب.

أما الأمر الثاني فيتعلق بأطروحة النثر الفني؛ فحسب زكي مبارك، فإن أصل النثر الفني عند العرب يمتد إلى ما قبل الإسلام، على عكس طه حسين الذي ذهب مذهب المستشرقين ودافع عن الرأي القائل إن النثر الفني فن اكتسبه العرب بعد الإسلام ولم يُعرَفْ إلا في أواخر العصر الأموي حين اتصل العرب بالفرس.

معركة بين نجيب محفوظ وعباس العقاد

كما أن من بين المعارك أيضًا التي دارت، كانت بين الأديب العالمي نجيب محفوظ والأديب الكبير عباس العقاد، ودارت تلك المعركة في شهور عام 1945، حينما كتب المفكر الكبير العقاد، في كتاب «في بيتي»، بعضًا من آرائه، متصورًا أنه يجري حوارًا مع نفسه، وقد سألتْه نفسه عن سبب قلة الروايات في مكتبته، فقال لها: إن الشعر أنفس من الرواية بكثير، و«محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة»، وحينها ردّ الأديب الناشئ آنذاك نجيب محفوظ، في صرامة وحِدَّة، معتبرًا ما كتبه الكاتب الكبير في السن والمقام العقاد، اتهامًا موجهًا لما يكتبه شخصيًا، ويعتبره طريق حياة، حيث كتب مقالًا اسمه «القصة عند العقاد».

 وفى النهاية لم يردَّ العقاد على نجيب محفوظ، واكتفى بالصمت، ربما عن تعال واستصغار لشأن أديب ناشئ.

معارك أحمد زكي باشا

وتبدو شخصية أحمد زكي باشا شيخ العروبة واضحة في معركتين هامتين الأولى معركة الفراعنة وهل هم عرب أم أتراك، والثانية معركة «ما كان لبنان معلّمًا لمصر» وفي كلتيهما تبدو قوة عارضته وأسلوبه الساخر في المساجلة.

وقد رأى أحمد زكي باشا حول المسألة الأولى أن الفراعنة مصريون، وإذا أردنا أن نعرف منشأ المصريين وجب علينا الرجوع أولاً إلى أقوال العلماء الباحثين النقّابين ثم الإدلاء برأينا الشخصي الذي تؤيده ملامح الوجوه وأساريرها.

أما حول المسألة الثانية فقد نشأت عن مقال وجهه مجد الدين حفني ناصف إلى الآنسة مي بمناسبة اختيارها رئيسة للمجمع الصحفي فذهب في القول وأسرف وحاول أن ينسب إلى لبنان أوليات كثيرة منها حروف الطباعة العربية ودائرة المعارف العربية وإنشاء الصحف اليومية والمجلات العلمية وترجمة الروايات وأجواق التمثيل وإدخال الرقص والغناء.

يتصدى أحمد زكي باشا لهذا المقال فيكتب مقالاً آخر في «الأهرام» يقول فيه: «إلى الآنسة مي، هل أعجبك ذلك الكلام المرصوص؟ لقد أراد أن يتغنى بمناقبك فأساء إليك وإلى بلادك وقومك باتخاذكم جميعًا وسيلة للإساءة إلى التاريخ وتشويه الحقائق، ثم إلى طعن قومه وبلاده بالزور والباطل. نعم للبنانيين أفضال أنا أول من يعرفها ويشهد بها، ولكنها لم يكن لها وجود في أول عهد النهضة المصرية وفي جميع مناحيها. بل بالعكس كانت مصر هي التي ربّت أبناء لبنان فعادوا لها فيما بعد، أي في عصر إسماعيل.

«لقد أساغ لنفسه أن يتوهم أن لبنان هو المعلم الأول لمصر، لماذا؟ لأن رجلاً من رجال الأموال رسا عليه المزاد أيام محمد علي من أجل التزام جمرك الإسكندرية، نعم لأن محمد علي أرسل ثلاثة من أولاد المسابكي، فعادوا وكانوا أول من أنشأ حروف الطباعة العربية في بولاق..

«هذه دعوى ملفقة لا دليل عليها. فليس هناك برهان أو شبه برهان على إرسال أبناء المسابكي لأوروبا. وعلى فرض أنهم سافروا فبمال مصر ومن خير مصر ثم عادوا إلى مصر، فليس لعاقل أن يزعم أنهم أول من أسس المطبعة.. ثم ماذا؟ لأن أحمد فارس الشدياق نقل جريدة الوقائع المصرية من التركية إلى العربية. ذلك لم يحصل، وعلى فرض حصوله فهل يكون هو لهذا السبب المعلم الأول لمصر؟ ثم لماذا؟ لأن المعلم بطرس البستاني قد حظي بنظرة من نظرات إسماعيل، وببدرات من أموال مصر، فشمّر عن ساعد الجد والإقدام لعمل مشروع ضخم وهو (دائرة المعارف). ولكن مات إسماعيل ومات البستاني وابنه وابن ابنه والمشروع لا يزال مبتورًا، وعلى فرض إكماله، فهل يكون البستاني لهذا السبب المعلم الأول لمصر؟.

معركة سلامة موسى مع أحمد الحوفي وعباس محمود العقاد

معركة أخرى حامية الوطيس دارت عقب صدور كتاب سلامة موسى (البلاغة العصرية واللغة العربية) وشارك فيها أحمد الحوفي وعباس محمود العقاد.

نشر سلامة موسى كتابه المذكور عام 1945 فأثارت الآراء التي تضمنها في مهاجمة اللغة العربية غيرة الباحثين.

وكان مجمل آراء سلامة موسى:

أولاً: الدعوة إلى الأسلوب التلغرافي ومهاجمة الأسلوب البياني.

ثانيًا: الدعوة إلى إلغاء كلمات الحرب والعرض من اللغة.

ثالثًا: الدعوة إلى إدخال الكلمات الأعجمية دون قيد.

رابعًا: الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية.

وقد تصدّى الدكتور أحمد الحوفي لهذه الآراء جميعًا وفنّدها ومما ورد في مقاله الذي نُشر في مجلة «الرسالة» «ماذا يريد سلامة موسى بالأسلوب التلغرافي؟ إنه يريد أن يكون الأسلوب خاليًا من الروعة والبراعة والجمال والموسيقى، مع أن الأديب، شاعرًا أو كاتبًا، إنما يفتن القلوب ويسحر العقول بألفاظه، وليس اللفظ رمزًا يشير إلى فكرة ومعنى وحسب، بل هو مجموعة من صور ومشاعر أنتجتها التجربة الإنسانية وبثّها اللفظ فزادت خصبًا وحيوية..

ويرد على قول سلامة موسى: «ويجب أن يكون المنطق أساس البلاغة الجديدة وأن تكون مخاطبة العقل غاية المنشئ بدلاً من مخاطبة العواطف» بالقول: «هذه فكرة عاسفة تهدم أساس الشعر والنثر والفنون الجميلة عامة، لأن الفنون وليدة العواطف واستجابة لنوازع نفسية لا صلة للمنطق بها، ولو أنّا أخضعنا كثيرًا من النصوص الأدبية التي تروقنا للمنطق لوجدناها هباءً. بل إننا لو اتخذنا المنطق وحده دعامة للأدب لانقلب إلى حقائق جافة لا خيال فيها ولا جمال ولا سحر، ولكان أحرى به أن يُسمى علمًا لا أدبًا لأن خصيصة الأدب في العالم كله أن معانيه خيالية. وليست معنى هذا أنها بمعزل عن منطق الحياة أو فيها خلط واضطراب، ومازال العالم يكبر ما خلّفه هو ميروس واليونان من تراث».

ويدافع الحوفي عن اتهام سلامة موسى للغة العربية بأنها وليدة مجتمع أرستقراطي حربي ديني: «إنها جرأة ودعوى باطلة، فلم تكن الأمة الإسلامية في العصر العباسي الذي يقصده الكاتب أرستقراطية حربية دينية وحسب، وإلا فبأية لغة ترجم المسلمون تراث اليونان والفرس والهنود والنبط؟ أتتسع اللغة العربية للتعبير عن فلسفة أفلاطون وأرسطو والتعليق عليها وشرحها، ثم تُتَّهم بأنها لغة مجتمع أرستقراطي حربي ديني وحسب – فليست صالحة لنا؟ وبأية لغة ألّف المسلمون في الفلسفة والجغرافيا والفلك والرياضة والمنطق والأخلاق والكيمياء والبلاغة؟.

برأي سلامة موسى كتّاب مصر متخلفون رجعيون لأنهم يعنون بالبحث في الماضي وهذا برأي الحوفي محض افتراء: لقد كتب العقاد عن الماضي ولكن بروح العصر وثقافة العصر والطرق الحديثة في البحث والتحليل. وربما دار بخلدي أن يُلحى العقاد وهيكل وطه والحكيم وغيرهم لأنهم كتبوا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) كتبًا تخضع لطرائق البحث الحديث، ولكنهم جلّوا نواحي من عظمته وأبرزوا طرفًا من سموّ رسالته ولم يجمح بأحدٍ قلمُه فيتقوّل أو يتهجّم. ثم كتب العقاد وهيكل في أبي بكر وعمر وخالد. وكتب العقاد في علي والحسين وعائشة. فلا والله ما وجدوا إلا صحائف من ذهب تنبلج بالعظمة والبطولة والنبالة.

«ولكن هل كتابنا اقتصروا على الماضي وحده كما يزعم؟ هذا الزيات يترجم «آلام فيرتر» لجوته، و«رافائيل» للامرتين. وها هو العقاد يؤلف عن شعراء مصر وبيئاتهم والحكم المطلق في القرن العشرين، وله مئات المقالات في شتى الموضوعات.. وهذا هيكل يؤلف في روسو.. فأي منصف بعد ذلك يتجنّى على كتّاب مصر بأنهم يحيون وعيونهم مشدودة إلى الماضي وحده، ومن ذا الذي يجحد فضلهم في مسايرة الثقافة ومواكبة الحياة المتجددة المتطورة؟ ولمَ لا يعاب كتّاب الغرب وهم ما فتئوا يكتبون عن هوميروس وأفلاطون وأرسطو والإسكندر»؟.

وقد دعا سلامة موسى في كتابه إلى إدخال الكلمات الأعجمية في اللغة العربية على حالها، واستدلّ بأن العرب أدخلوا في لغتهم في العصر العباسي كلمات أعجمية. «ولكنه نسي أن العرب استعاروا كلمات من الفرس واليونان والهند بعد أن صقلوها أولاً صقلاً عربيًا لتلائم منطقهم، وقلما استعملوا الكلمة الأجنبية على حالها. على أنهم عرّبوا حيث افتقروا إلى كلمات تؤدي معاني خاصة ليس في لغتهم ما يؤديها. وإذا كان الأستاذ يستدلّ على جمودنا ومرونة الإنجليز بأن في لغتهم نحو ألف كلمة عربية، فليدلنا على كلمة واحدة ينطقها الإنجليز كما ينطقها العرب. وما من شك في أننا إذا أبحنا لأنفسنا استعمال الكلمات الأعجمية على حالها وبغير ضرورة إلى استعمالها، فقد حفرنا للغتنا وقوميتنا قبرًا بأيدينا، لأنه لن يمضي قرن واحد حتى تصير لغتنا خليطًا مشوَّهًا من عربية مهزومة وعامية مختلفة باختلاف الأصقاع والبيئات، وأعجمية غازية متفشية، ثم بعد قرن واحد تندثر العربية والعامية ونتفرنس أو نتأنجلز ويصيبنا ما أصاب إخواننا العرب في تونس والجزائر والمغرب».

ويفنّد الحوفي آراء سلامة موسى الداعية إلى إحلال اللهجة العامية محل اللغة العربية: «ما دامت اللغة العامية محرّفة عن الفصحى، فلمَ نفضّل الدخيل على الأصيل؟ ولمَ لا تكون الفصحى أحقّ بالاستعمال مادام القرّاء يفهمونها؟ ليست اللغة الفصحى هي المحشوة بالغريب، ولا العويصة التركيب، وإنما هي التعبير الصحيح الجاري على قواعد اللغة وإن كانت مفرداتها في متناول الجميع فلن تنفصل الفصحى إذن عن المجتمع، ولن تصير كلغة الكهّان التي لا تتلى إلا في المعابد، فإن الشعب كله يفهمها، ورقيّ الشعب يقرّبها إليه ويقرّبه منها».

ولعلّ أطرف ما حصل خلال هذه المعركة التي جذبت إليها كثيرين من الكتّاب، كان مداخلة عن عباس محمود العقاد التي قيل إنه ما أن قرأها سلامة موسى حتى لاذ بالفرار في مزرعة له بريف مصر كان يربّي فيها الخنازير، وهو ما أشار إليه العقاد في ردّه الذي ورد فيه:

«عُني الأديب الفاضل الأستاذ الحوفي بالردّ على اللغط الذي يلوكه باسم التجديد ذلك الكاتب الذي يكتب ليحقد، ويحقد ليكتب، ويدين بالمذاهب ليربح منها، ولا يتكلّف لها كلفة في العمل أو في المال. وقد يشتري الأرض ويتّجر بتربية الخنازير، ويسخّر العمّال، ويتكلم عن الاشتراكية وهو يعيش في التقتير عيشة القرون الوسطى في الأحياء العتيقة، ويتكلم عن التجديد والمعيشة العصرية، وهو ينعى على الحياة الآسيوية، وإنه لفي طواياه يذكرّنا بخلائق البدو المغول في البراري الآسيوية».

وذكر الذين أرّخوا لهذه المعركة أن سلامة موسى ابتعد عن القاهرة لعدة أسابيع ولم يعد إليها إلا بعد أن نسي الناس كلمة العقاد عنه..

الرافعي والعقاد أعنف المعارك الأدبية في القرن العشرين

كانت حياة مصطفى صادق الرافعي سلسلة من المعارك، فما يكاد ينتهي من معركة إلا ليبدأ في معركة جديدة، لكن يتفق النقاد والأدباء على أن معركته مع عباس العقاد كانت من أعنف المعارك التي خاضها الرافعي في حياته، بل تعد أعنف معركة في ميدان الأدب بوجه عام، ذلك لأن العقاد كان -آنذاك- له شهرته المدوية وتاريخه المعروف في الدفاع عن الرموز الإسلامية، والثقافة الإسلامية الأصيلة، كما كان له في مجال الشعر قصائد ودواوين ومواقف وآراء لا يستهان بها.

وإن شئت قل: كان العقاد قد بلغ أعلى مراتب المجد والشهرة لدى جماهير القراء!

والمعركة التي قامت بين الأديب مصطفى صادق الرافعي والأديب عباس محمود العقاد كانت من أقوى المعارك وأكثرها حدة. حيث انتقل ميدان المعركة من الجانب الأدبي الذي بدأت فيه، حتى وصلت إلى الجانب الشخصي، فحدثت بينها عددًا من التطاولات التي تجاوزت مستوى الرقي الأدبي وقواعد الخلاف.

وقد كان سبب بداية هذه المعركة الأدبية الحادة هو انتقاد الأديب عباس محمود العقاد لما كتبه الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتاب إعجاز القرآن والبلاغة النبوية والذي ادعى العقاد أن الرافعي قد سرق هذا الكتاب من كتاب سعد زغلول.

وعندما عرف الرافعي باتهام العقاد، نشط للرد عليه، فألف كتاب (على السفود) والذي أغلظ فيه الرد على العقاد. كما وجه الرافعي للعقاد ولأدبه العديد من الانتقادات الشديدة، وقد خرجت المعركة عن الميدان الأدبي بعد صدور هذا الكتاب.

معارك محمود محمد شاكر الأدبية وأثرها على الحركة الثقافية في مصر

في أواخر سنة 1926م أصدر طه حسين كتاب (في الشعر الجاهلي)، جمع فيه المحاضرات طه حسين في الشعر الجاهلي، وعندما نشرت فصول منه في الصحف والمجلات صُدرت مؤلفات عديدة في الرد على الكتاب بأقلام محمد فريد وجدي ومحمد لطفي جمعة، وشكيب أرسلان، ومحمد عبدالمطلب وعبد ربه مفتاح، ومصطفى صادق الرافعي، واغلبهم كانوا أصدقاء للأستاذ محمود شاكر. وقد حدثت الحوادث في مصر متعلقة بكتاب (في الشعر الجاهلي)، وكان الأستاذ شاكر موجودًا في مصر ولكنه لم يتقلم فيه.

كتب محمود شاكر اثنتي عشرة مقالة في صحيفة البلاغ بعنوان (بيني وبين طه حسين)، وواجه فيها الدكتور طه بثلاث حقائق:

1.    أن طه في أكثر أعماله «يسطو» على أعمال الناس سطوًا عريانًا أحيانًا او سطوًا متلفِّعًا بالتَّذاكي والاستعلاء والعجب أحيانًا أخرى.

2.    أنه لا بصر له بالشعر، ولا يحسن تذوقه على الوجه الذي يتيح للكاتب.

3.    أن منطقه في كلامه كله مختل، وأنه يستره بالتكرار والترداد والثرثرة.

ومن أهم القضايا التي ينتقد بها الأستاذ شاكر على طه حسين، قول الدكتور طه في أن المتنبي كان لا يعرف أباه وأمه، وشكوكه في نسب المتنبي وفى علويته، وخطأ الدكتور طه في فهم شعر المتنبي متعلقًا بعلويته. وأبطل الأستاذ شاكر في مقالاته الحجج التي أدت به طه حسين إلى القول بأن المتنبي «لقيط» وبين هناك تناقض رأيه في اثبات ما يزعمه أن المتنبي «قرمطية». ثم انتقد فيها ما قال طه في أشعار المتنبي ورفض منهج طه في دراسة أشعار المتنبي وأثبت منهج الأستاذ شاكر «التذوق». وأشار الأستاذ شاكر تلك المقالات إلى مواضع التحريف من طه حسين في الأخبار المروية عن المتنبي. وأثبت سطو طه حسين على المستشرق «بلاشير» في قوله على قرمطية المتنبي.

كان لا يجد بدًّا من معركته مع طه حسين لأنه في يوم فارق الجامعة فارقها مع ذل العجز على مواجهته برأي في تفاصيل السطو الذي يتهم به طه حسين. ولأنه يخاف وجود «السطو» عنده مع أنه على خلاف ذلك، ولأن طه حسين هدم نفسه هدمًا وفجر أدبه (المتنبي) تفجيرًا، وهذه الأمور ترك في ضميره غصة تأبى أن تزول. ومع أن كل من كتب بعدُ في نقد كتاب (في الشعر الجاهلي) قد واجه الدكتور بهذا «السطو» مواجهة مكشوفة علانيةً، وكان محمود شاكر عاجزًا في مواجهته حين كان طالبًا في الجامعة، والآن حصل منهج خير من منهج طه في دراسة الشعر العربي. ولأن طه نشر كتابه (في الأدب الجاهلي) نفس كتاب (في الشعر الجاهلي) بتغير عنوانه وحذف بعض فصول وإضافة بعض فصول. وكان ذلك زيادة في الادعاء بأنه قد امتلك ما سطا عليه امتلاكًا لا ريب فيه، وذلك دليل على أن طه حسين لا يبالي أقل مبالاة ما سمعه من أنه سطا على مقالة مرجليوث. كان طه حسين في رأي محمود شاكر يسن سنة متلفة مفسدة للحياة الأدبية والحياة العقلية والحياة النفسية في الجيل البائس الذي كان محمود محمد شاكر منه.

معركة محمود شاكر مع لويس عوض

بدأت معركته مع لويس عوض -المستشار الثقافي للأهرام -عندما نشرت بحوثه التسعة في مجلة (الأهرام) بين 16 أكتوبر و11 ديسمبر 1964م ثم جمعت هذه البحوث في كتاب (على هامش الغفران). ومن زعمه أن فكر أبى العلاء المعري وفلسفته ليست أصيلة عنده، وإنما هي مأخوذة عن فكر أجنبي يوناني. ويحاول أن يثبت بأن العبقرية العربية ليست عبقرية خلاّقة وإنما هي عبقرية تابعة وناقلة، وهكذا نجد آرائه كثيرةً في كتبه من الادعاءات ضد العربية والإسلام، ومحمود شاكر يردد تلك الادعاءات في مقالاته. وكتب محمود شاكر مقالته ردًا له في مجلة (الرسالة) ثم جمعت هذه المقالات في كتابه (أباطيل وأسمار) الجزءان الأول والثاني سنة 1972، من مطبعة المدني في القاهرة. وكانت معركة الأستاذ شاكر مع لويس عوض ليست في آرائه القبيحة في شيخ المعرة وحدها بل في جهود لويس عوض أن يبدل كتابة العربية من فصاحتها إلى العامية.

وذهب لويس عوض في مقالته إلى تأثر المعري باليونانيات، كما ألمح إلى أثر الأساطير اليونانية في الحديث النبوي، وهذا ما دفع الأستاذ شاكر إلى العودة الكتابة والمعارك بعد عزلة التي اختارها على نفسه، كتب مقالته لبيان خطأ لويس عوض ومنهجه نجد محمود شاكر في معركته مع لويس عوض ينتقل من الصراع الأدبي إلى بحوثه عن الفكر والثقافة في العالم العربي والإسلامي وما طرأ عليها من غزو فكري غربي.

مقالات لويس عوض كانت عند محمود محمد شاكر ملأت بالخلط والتدليس والتزوير، وهذا الأخطاء المقصودة وغيرها تدل على ان لويس عوض يفتقد ابسط مبادئ الأمانة العلمية ويفتقر إلى منهج البحث العلمي الدقيق.

ومن قول الأستاذ شاكر بعد بيان أخطاء لويس عوض العلمية والفكرية، إن هذا الرجل (لويس عوض) يزعم بأن له منهجًا خاصًا كالأساتذة الجامعين في دراسة تاريخ شيخ المعرة، ولكنه بقي إلى اليوم لا يدري ما هو؟ ولا كيف يكون. ويوضح الأستاذ شاكر في ردوده أنه يجهل المناهج الدراسية الأدبية جهلاً تامًا.

كان مجموع عدد المقالات التي كتبها الأستاذ شاكر في تلك القضية، خمس وعشرين مقالةً نشرت في مجلة الرسالة، ويوماً قد دخل الناقد محمد مندور عند محمود شاكر وطلب منه أن يوقف مقالاته دون جدوى، وأصاب لويس عوض الذُعْر والهَلَع من مقالات محمود شاكر التي فضحته بين أوساط المثقفين، وكشفت عن ضعف ثقافته حتى في تخصصه في الأدب الإنجليزي حين كشف شاكر عن فساد ترجمته العربية لمسرحية «الضفادع» لأرسطوفان، وراح لويس عوض يطوف على المجلات والصحف يستنصرهم ضد شاكر ويزعم أن المعركة بينهما معركة دينية، ولكن العلامة شاكر لم يتوقف عند كتابة مقالاته حتى أغلقت مجلة الرسالة نفسها، وألقي بشاكر في السجن لمدة سنتين وأربعة أشهر من آخر شهر أغسطس سنة 1965 حتى آخر شهر ديسمبر سنة 1967.

ولقد وقف إلى جانب محمود شاكر عدد كبير من الأدباء وخاصة في مجلتي الرسالة والثقافة، وأسهموا في كشف أخطاء لويس عوض وخطاياه. وحاول لويس عوض أن يحول هذه المعركة الأدبية الثقافية سياسيةً بين الرجعية والتقدمية أو بين أعداء النظام من الرجعيين (يمثلهم الأستاذ شاكر ومن معه) وبين مؤيدي النظام الاشتراكيين التقدميين ومن هؤلاء محمد مندور ومحمد عودة ومحي الدين محمد وغالي شكري، وكتاب مجلة (روز اليوسف) وصحيفتي الأهرام والجمهورية.

الرد على مقالة (صورة الأدب ومادته) لطه حسين

في أواسط الخمسينيات، رد عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، وهما من أعلام اليسار والحركة الشيوعية المصرية، على مقال لطه حسين نشر في جريدة (الجمهورية) بعنوان (صورة الأدب ومادته) بتاريخ 5-2-1954، هاجما من خلاله- بحماسة وثقة الشباب وقناعة صلبة بأن الواقية الاشتراكية هي المنهج الأمثل لدراسة الأدب-هجومًا عنيفًا على طه حسين وعباس محمود العقاد بأنهما سبب القصور والجمود الذي يعرفه الأدب العربي المعاصر، وأنهما يمثلان المدرسة القديمة في النقد الأدبي، ثم بشرًا ودافعًا عن مفهوم جديد للأدب قوامه أن الأدب تعبير عن موقف اجتماعي أو إن المضمون، أي الموقف الاجتماعي للكاتب، هو الذي يحدد الأدب.

رد طه حسين على نقاد الواقعية كعادته بسخرية وتهكم في مقاله المشهور (يوناني فلا يُقْرَأْ)، بمعنى أن كلامهما لا يُفهم ويتميز بالرطانة، ثم مقال (واقعيون) الذي نشر في (الرسالة الجديدة) (5-3-1954) الذي بلغ قمة السخرية.

 

المصادر:

- د.نبيل حنفى محمود، المعارك الأدبيـة.. إبـداع له تاريـخ، صحيفة الأهرام.

https://n9.cl/l8cs

- إبراهيم مشارة، المعارك الأدبية بين الذاتية والموضوعية، ميدل إيست أونلاين، 2021/03/06.

https://n9.cl/yb3w1

- المعارك الأدبية، فيض الخاطر/ احمد امين، pdf

https://www.uoanbar.edu.iq/eStoreImages/Bank/7144.pdf

- جهاد فاضل، الجسرة الثقافي، المعارك الأدبية الساخنة في القرن العشرين “1 – 3”

 https://n9.cl/a67tg

- د.أبوبكر اي كي، معارك محمود محمد شاكر الأدبية وأثرها على الحركة الثقافية في مصر، مجلة اللغة، 2015-10-07

https://www.allugah.com/post.php?id=57

- محمد بكري، أشهر معارك طه حسين الأدبية والفكرية، اللغة والثقافة العربي، 9 يونيو 2020، https://cutt.us/2I2Uq


عدد القراء: 5100

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-