الحجاز في كتب الرحالة والمستشرقين
مع رحلات الرحالة والمستشرقين الغربيين إلى الجزيرة العربية وخاصة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة خلال أوقات الحج، يأتون تحت أسماء عربية مستعارة مخفين مسيحيتهم، ويظهرون أنهم مسلمون، ويقومون بتدوين ما يشاهدونه ثم ينشر في كتب حين عودتهم إلى ديارهم.
وقد رصد الدكتور عبد الله العسكر جزءًا من انطباعاتهم بعد زيارة المدينة المقدسة في كتبهم. يحتوي كتاب أوغست رالي A.Ralli الموسوم: (المسيحيون في مكة Christains at Mecca ) على عرض شيق لانطباعات رحالة أوروبيين زاروا هذه المدينة المقدسة بدءًا من سنة 909هـ/1503م وانتهاء بسنة 1312هـ/1894م. ومثله كتاب البرخت زيمة الموسوم (شبه الجزيرة العربية في كتابات الرحالة الغربيين في مئة عام: 1770- 1870م) الذي يحوي مختصرًا لبعض الرحالة الذين زاروا الحجاز، وكتبوا عن مدنه. ومما ذكره المؤلف إشارة مقتضبة عن زيارة الكابتن فيلشتيدت مدينة جدة عام 1247هـ/1831م.
وفيما يلي عرض سريع لأهم الرحلات إلى الحجاز مرتبة حسب تاريخ وقوعها:
لا نستطيع أن نقرر على وجه الدقة تاريخ بداية وصول الرحالة الغربيين إلى بلاد الحجاز، وهناك على كل حال احتمال أن بعض البحارة الأوروبيين، وعلى وجه الخصوص البرتغاليين، قد وصلوا إلى ساحل البحار التي تحيط بالجزيرة العربية. هناك إشارات مقتضبة في أدبيات الرحلات الغربية إلى الجزيرة العربية لأن القبطان والرحالة كابوت john Cabot، الذي يقال إنه زار مكة المكرمة بين سنتي 881 - 896هـ/ 1476 - 1490م، وربما طاف سواحل البحر الأحمر الشرقية، ويُنسب إليه اعتقاده أن جزيرة العرب غير معروفة، لذا أطلق عليها اسم (الأرض الجديدة Newfoundland ) وأعلن عن ضمها لممتلكات الملك هنري السابع. وكذلك البحار البرتغالي جريجوري كوادرا Gregeory da Quadra الذي صحب حجاج زبيد باليمن إلى مكة المكرمة في حوالي عام 906هـ/1500م وفي المدينة المنورة أصابت جريجوري لوثة مشوبة بعاطفة دينية، فأخذ يصيح بأعلى صوته شاتمًا النبي صلى الله عليه وسلم.
ويُعد في طليعة الرحّالة الغربيين الذين زاروا الحجاز الرّحالة الإيطالي لودفيكو دي فارثيما Ludvico di Varthema ـ861 - 932 هـ/ 1456 - 1517م الذي تسمى بالحاج يونس، ورافق قافلة من حجاج الشام في سنة 909هـ/1503م، ومكث في مكة المكرمة عدة أسابيع ووصفها. وقال: إنها تضم 6000 أسرة، وتحدث عن شح المياه فيها، وشبه المسجد الحرام بالكوليزيوم Colloseum في روما، ووصف مناسك الحج والتطهر بماء زمزم، وتحدث عن المدينة المنورة وجدة، ووصف الحياة المعيشية فيهما، وأورد حكايات طريفة. وقدر عدد أسر جدة بخمس مئة أسرة. ونشر عن رحلته كتابه إيتيناريو Itinario باللغة الإيطالية عام 1510م، ولقي كتابه بعد نشره رواجًا كبيرًا، وتُرجم إلى عدة لغات أوروبية. ونقل الدكتور عبدالرحمن الشيخ رحلة فاثيما، ونشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة الألف كتاب عام 1994م.
ومن الأخبار غير الموثقة عن مكة المكرمة، ما كتبه فنسنت لو بلان Vincent Le Blanc، وهو فرنسي من مدينة مرسيليا، في كتابه الموسوم (مسح عام للعالم). والكتاب عبارة عن رحلات وصفية يدعي صاحبها أنه زار مُعظم العالم المعروف في زمنه. ويقول: إنه شاهد الثيران تسحب الماء من بئر زمزم داخل المسجد الحرام.
وفي عام 1012هـ/1604م زار أول رحالة ألماني الحجاز وهو جون وايلد Johann Wild. وقد كان ممن أسر ثم بيع في سوق النخاسة في استانبول إلى تاجر من مصر، فأخذه التاجر معه إلى القاهرة حيث بيع للمرة الثانية لتاجر من فارس، الذي أخذه معه لأداء فريضة الحج. يقول جون وايلد: إن الحجاج الذين رافقهم عانوا في الطريق معاناة كبيرة، ومات منهم عدد عظيم، ونفق من الجمال أعداد لا تحصى. وصف وايلد مناسك الحج من دخول الحجاج مكة المكرمة حتى زيارتهم للمدينة المنورة. وهو قدّر عدد حجاج مصر، وسورية واليمن بأربعين ألف حاج.
وفي عام 1643م زار مكة المكرمة ماثيو دي كاسترو Matheo de Castro وهو مطران كاثوليكي من أصول هندية. وظل سبب رحلته، وكيفية وصوله إلى مكة المكرمة. وتقريره الذي كتبه أسرارًا لم يعرفها أحد حتى يومنا هذا.
وفي سنة 1097هـ/1685م وصل إلى الحجاز جورج بيتس George Pitts، وهو بريطاني الأصل. وكان في بداية رحلته من أوروبا تعرض للأسر في البحر الأبيض المتوسط، وبيع لأحد المواطنين في الجزائر. وقد انتقل بيتس من سيد إلى آخر، فصحبه سيده الأخير إلى مكة المكرمة. وصف بيتس المسلمين ولباسهم وتدينهم كما شاهدهم في مكة المكرمة وفي عرفات. وزار بيتس مع سيده المدينة المنورة. وقد دون ذكرياته عن بلاد الحجاز في كتاب بعد أربعين سنة من وقوع الرحلة.
ولعل العالم الدنماركي كرستين نيبور Carsten Neibuhr الذي وصل إلى جدة في نهاية سنة 1176هـ/1762م مع فريق علمي كلفه إمبراطور الدانمارك فردريك الخامس بدراسة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والجغرافية للحجاز. أقول لعل نيبور من أشهر الرحالة الجادين، وتُعد كتاباته عن بلاد الحجاز رائدة في مجال الاستكشافات العلمية. وكان نيبور دقيقًا في ملحوظاته، كما هو الشأن في كل كتاباته. سجل نيبور معلومات كثيرة من مدوناته ومدونات زملائه في الفريق العلمي. جاءت مكتشفاتهم وملحوظاتهم عن جزيرة العرب في مجلدين كبيرين. ونيبور أول من نقل خبر الدعوة السلفية إلى أوروبا، وهو أول من سماها بالوهابية. وقد قال عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب أخبارًا لا تصح، مثل قوله: إن الشيخ محمد سافر إلى فارس لطلب العلم، وهو قول نشاز لا دليل عليه. مكث نيبور في جدة ستة أشهر على أمل أن يزور مكة المكرمة ووسط الجزيرة العربية.
وفي ظني أن رحلة دومينجو باديا لبليخ Domingo Badia Y Leyblich من أجمل الرحلات وأمتعها. جاء لبليخ إلى الحجاز متظاهرًا بالإسلام، وسمى نفسه علي بك العباسي، وادعى أنه من سلالة بني العباس. يرجع أصل لبليخ إلى مدينة بلنسية الإسبانية. ولاشك أنه كان يعمل لصالح نابليون إمبراطور فرنسا. وصل لبليخ مكة المكرمة عام 1222هـ/1807م. كانت كتابات لبليخ مفعمة بالحيوية. وهو أول من نقل للغرب فكرة منظمة وصحيحة عن مناسك الحج، وعن مكة المكرمة، بل هو أول من حدد موقع مكة المكرمة تحديدًا دقيقًا مستعينًا بأجهزة رصد فلكية. كما أنه الأوروبي الوحيد الذي تمكن من دخول جوف الكعبة، حيث شارك شريف مكة المكرمة الشريف غالب في غسل الكعبة.
يغلب على تقاريره عن الحجاز النزعة الروحية. ومن المهم الإشارة إلى أن لبليخ كان شاهد عيان على تقدّم القوات السعودية إلى مكة المكرمة. وتسنى له مشاهدة الجيش السعودي وقائده الإمام سعود بن عبدالعزيز (1218 - 1229هـ/ 1803 - 1814م)، فوصفه ووصف حجاج نجد، ولاحظ حماسهم الديني، وبساطتهم، وقدّر عددهم بخمسة وأربعين ألفًا، وكان مأخوذًا بحسن أجسامهم، وعيونهم وأنوفهم المستقيمة. ولأن لبليخ يعمل لصالح فرنسا فقد دست له المخابرات البريطانية السم فمات سنة 1233هـ/1818م.
وفي عام 1224هـ/1809م زار مكة المكرمة أولريخ جاسبر سيتزن Ulrich Jasper Ceetzen، وهو من إحدى الإمارات الألمانية التي كانت تابعة لقيصر روسيا، ومن المتخصصين في اللغويات، وهو موسوعي الثقافة. كانت رحلته بدعم من قيصر روسيا. وكان يهدف من زيارة مكة أن يحمل لقب حاج، ليستفيد منه في مهماته القادمة في آسيا وأفريقيا لصالح المخابرات الروسية. وقد تمكن سيتزن من الحصول على اللقب، بعد مشاق عسيرة، منها خضوعه لامتحان في المسائل الدينية. وهكذا بعد انقضاء موسم الحج، غادر سيتزن الحجاز إلى اليمن.
زار الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت Gohann Ludwing Burckhart مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف وجدة وينبع، وتجول فيها مدة من الزمن تبلغ عشرة أشهر، من منتصف سنة 1230هـ/ 1814م إلى الربع الأول من سنة 1231هـ/1815م، وسجل كل ما شاهده، وكل ما عنّ له عن تلك البلاد وأهلها، وأنماط حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. لبوركهارت أربعة كتب هي: (1) رحلات في بلاد الشام (2) رحلات في بلاد النوبة (3) ملاحظات على البدو الوهابيين (4) رحلات في شبه الجزيرة العربية. عرّب الدكتور عبدالله العثيمين الكتاب الثالث. أما الكتاب الرابع فنقله إلى العربية الدكتوران: عبدالعزيز الهلابي وعبدالرحمن الشيخ.
وصل بوركهارت جدة تحت اسم مستعار هو إبراهيم ابن عبدالله الشامي ضمن قافلة من الحجاج النوبيين. يقول الكولونيل ليك Leake عن بوركهارت ومؤلفاته: «لقد قدم بوركهارت للجمعية الأفريقية في لندن أدق المعلومات عن الحجاز، خاصة عن مكة والمدينة، على نحو لم يصل أبدًا إلى أوروبا قبل ذلك. لقد مكنته معرفته باللغة العربية وعادات المسلمين من الظهور بشخصية مسلم بنجاح كبير. لقد أقام في مكة طيلة موسم الحج وقام بأداء مناسك الحج دون أن يثير أدنى شك حول حقيقة شخصيته».. قابل بوركهارت محمد علي باشا في الطائف، حيث كانت الجيوش المصرية تحارب، في جبهات عدة، جيوش الدولة السعودية الأولى. ودوّن بوركهارت بشكل دقيق ملحوظاته عن الدعوة السلفية وأتباعها. قدّر بوركهارت الواقفين في صعيد عرفات بسبعين ألف حاج، يتكلمون أكثر من أربعين لغة.
زار جدة المغامر الألماني إدوارد رابيل Edward Ruppel عام 1247هـ/1831م، وهو يُعد من المستكشفين العظام الذين قدموا للعلم التاريخي الشيء الكثير، وذلك من خلال استكشافه للآثار في مصر وبلاد النوبة، والشام، والساحل الشرقي للبحر الأحمر، وسيناء وأثيوبيا، وكوردفان. وبعد عودته من رحلاته المتعددة، أمضى بقية حياته في مدينة فرانكفورت، وعكف على نشر مذكراته وأبحاثه التاريخية والآثارية والنباتية والحيوانية.
يُعد توماس كيث Thomas Kieth أحد المغامرين والمرتزقة الذين شاركوا الحملة المصرية العثمانية معاركها في الحجاز. وكان توماس كيث يشغل رتبة ضابط في الفرقة الاسكتلندية، وهو من بقايا حملة نابليون على مصر. وكان توماس كيث خبيرًا في إدارة المعارك، ويتصف بالذكاء وحسن التدبير، لهذا عينه طوسون باشا عام 1231هـ/1815م واليًا على المدينة المنورة، عندما غادرها على رأس الجيش إلى نجد. وبهذا التعيين يكون توماس كيث أول أجنبي غير مسلم يتولى إمارة المدينة. ويُقال: إن كيث خلّف بعد وفاته مذكرات عن الحجاز، ولا يعرف أحد عنها شيئًا، وما وصلنا عنها قليل، ومنها يتضح مدى الشك في معلوماته.
ويضيف الدكتور العسكر، ومن أشهر الرحالة الخبير الفرنسي موريس تاميزية Maurice Tamisier الذي وصل الحجاز عام 1250هـ/1834م، وقد جاء مع الحملة المصرية كأمين سر ومساعد للطبيب شيرفو. وكان تاميزية يتصف بالذكاء ودقة الملاحظة، وقد كتب عن رحلته هذه كتابًا عنوانه: (رحلة إلى بلاد العرب Voyage en Arabie).
وتكمن أهمية رحلة تاميزية كون صاحبها سجل بشكل متسق وشمولي أحداث حملة محمد علي على الحجاز وعسير، وتحدث عن قضايا داخلية كثيرة. منها على سبيل المثال: وصف مدينة الطائف، التي قال عنها: إنها مدينة محزنة بسبب الدمار الذي أصابها، وذلك بسبب انتشار وباء الطاعون فيها، وهو داء قضى على عدد كبير من السكان، وكان تاميزية يكن إعجابًا شديدًا للرقعة الخضراء التي تُغطي معظم نواحي الطائف. وفي كتابه حديث شيق عن بيشة وأبي عريش، ثم حديث طويل وممتع عن عسير وتاريخها وصراعها مع محمد علي. وقد عرّب الدكتور محمد آل زلفة كتاب تاميزية عن نص إنجليزي مترجم، ونشرهما في جزأين: الأول تحت عنوان (رحلة في بلاد العرب: الحملة المصرية على عسير 1249هـ/1934م) الرياض 1414هـ. والثاني تحت عنوان: (رحلة في بلاد العرب: الحجاز) الرياض 1421هـ.
ومن أغرب الشخصيات الغربية الذين زاروا مكة المكرمة شخصية الفرنسي ليون روش Leon Roches، الذي قضى ردحًا من الزمن مستشارًا للأمير الجزائري عبدالقادر، ثم تظاهر بالإسلام، وقرر مغادرة الجزائر بعد قصة حب فاشلة، وبعد نشوب معركة بين الجزائريين والجيش الفرنسي، لا يستطيع معها حمل السلاح ضد مواطنيه. وصل ليون روش مكة المكرمة في نهاية عام 1257هـ/1841م في زي حاج مسلم، وتسمى باسم عمر ابن عبدالله، ثم زار المدينة المنورة، وأعجب بالمسجد النبوي وفوانيسه، والكتابات المذهبة على الجدران. ثم عاد إلى مكة المكرمة، وبقي فيها أسبوعين، غادر بعد ذلك إلى الطائف لمقابلة الشريف، الذي أكرم مثواه على أساس أنه عميل سياسي لفرنسا لا أكثر، وبحلول موسم الحج ذهب إلى مكة المكرمة. وكانت تراوده فكرة التحول إلى الإسلام، لكنه بقي على دينه حتى وفاته.
وفي جبل عرفات تعرف عليه بعض الجزائريين فصاحوا: (النصراني.. النصراني) وشعر أن نهايته قد اقتربت، وإذا ببعض الجنود يقبضون عليه، ويقيدونه، ثم يضعونه على ظهر جمل، وعرف أخيرًا أن أولئك الجنود، هم من حرس الشريف، الذي بعثهم لتخليصه، ووضعه في أول سفينة ترسو في ميناء جدة. كتب روش مذكراته بعنوان: (اثنان وثلاثون عامًا في الإسلام) وصدرت في جزأين، ويهمنا الجزء الثاني الذي خصصه للحديث عن مهمته في الحجاز، وقد ادعى روش أنه ثالث نصراني يدخل مكة المكرمة بعد الأسباني دومينجو باديا لبليخ Domingo Badia Y Lebich المعروف باسم علي بك العباسي سنة 1222هـ/1807م، والإنجليزي جون لويس بوركهارت Gohann Ludwig Burckhart ـ1229هـ/1814م.
ويأتي إلى الحجاز ملازم في الجيش الهندي ولكنه من إيرلندا هو ريتشارد بيرتون Richard Burton عام 1270هـ/1853م متنكرًا في صورة حاج من الهند. كانت رحلة بيرتون إلى الديار المقدسة مدعومة من قبل الجمعية الجغرافية البريطانية، لغرض تقديم تقرير عن أحوال الحجاز والمنطقة الواقعة بينه وبين مسقط من كافة الوجوه. وكان الحجاز آنذاك يقع تحت سيطرة الدولة العثمانية. وكانت بريطانيا ترغب في معرفة المزيد عن الأماكن المقدسة لتستخدمها في صراعها السياسي والاقتصادي مع الدول العثمانية. ولكن لسوء الحظ أو لحسنه، فإن التقارير التي كتبها بيرتون، وشكلت كتابًا كبيرًا، لم تكن ذات نفع كبير لحكومة بريطانيا، لأنها تقارير مشوشة وغير دقيقة من الناحية السياسية.
ومع هذا فقد ربحت أدبيات الرحلة الأوروبية سفرًا جميلاً ونفعًا كبيرًا. فقد استطاع بيرتون أن يكتشف بحيرة تنجانيقا. وترجم ألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية، بل ترجم ثلاثين كتابًا من العربية والفارسية، ذلك أنه يتقن خمسًا وعشرين لغة. وكان بيرتون متيمًا بالشرق، وكان يرى أن تقوم الدول الأوروبية بنقل نظم وتراث الشرق. وكان يعتقد أن استيراد الشرق لنظم غربية أمر مضحك، وهو تنبأ أن جهود الدولة العثمانية في الإصلاح بإصدار مجموعات قوانين وتنظيمات مستوحاة من الغرب، وهي المعروفة (بخط كلخانة) أنها لن تؤتي ثمارها المرجوة.
وصف بيرتون المدينة المنورة، وعادات السكان، والحرم النبوي، وكان يستعين بآيات من القرآن الكريم، والحديث الشريف. ثم عرج على مكة ووصفها، ووصف مناسك الحج، وكان في وصفه لتلك المناسك يصدر عن احترام للإسلام وعن تدين. وقد ذكر بيرتون الدعوة السلفية وقال: إن رجالها يتطلعون إلى أوروبا للتحالف معهم من أجل السيطرة على الحجاز. ولا نعلم مصدره في هذه المعلومة، ولكنه يتمتع ببعد نظر، ولهذا فقد صحت توقعاته، فقد تحالف أشراف الحجاز فيما بعد مع بريطانيا ضد الدولة العثمانية. ونقل الدكتور عبدالرحمن الشيخ رحلة بيرتون الممتعة إلى العربية بعنوان (رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز) ونشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة ضمن سلسلة الألف كتاب عام 1994م في ثلاثة أجزاء.
وفي عام 1271هـ/1854م، وصل إلى الحجاز شارل ديدييه Charles Didier وأقام في جدة مدة، ثم غادرها إلى الطائف لمقابلة الشريف عبدالمطلب بن غالب الذي كان يقضي إجازته في قصره بالطائف. جاء ديدييه مبعوثًا سريًّا من الحكومة الفرنسية لمعرفة مدى صلابة الوجود العثماني في الحجاز، لذلك نراه يجتمع ويلتقي بأكبر رجالات الحكومة في الحجاز، وبالتجار وبعض المبعوثين الأوروبيين، وخاصة القنصل البريطاني. كانت حصيلة الرحلة كتابًا كبيرًا عنونه صاحبه (إقامة في رحاب شريف مكة) وفي الكتاب وصفٌ جغرافـيّ وبشريّ لكل من جدة والطائف، وحديثًا عن الجغرافية الاجتماعية لهما. وفي الكتاب أيضًا حديث عن الحياة الاقتصادية في الطائف. وملاحظات عن السكان. وقام الدكتور محمد خير البقاعي بترجمة الرحلة بعنوان (رحلة إلى الحجاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي)، ونشرتها دار الفيصل الثقافية بالرياض عام 1422هـ/2002م.
وفي عام 1277هـ/1860م زار مكة المكرمة البارون مالتزن Baron H. von Maltzan، وكان في ريعان شبابه بصحبة حاج جزائري مدمن تعاطي الحشيش، واتفق مالتزن معه أن يستخدم جوازه للدخول إلى مكة المكرمة مقابل كمية من الحشيش. وهذا ما حدث، واستطاع مالتزن الوصول إلى مكة بجواز مرور مزيف، وبقي صاحب الجواز الأصلي في جدة لا يدري من أمره شيئًا، وكان يعتقد أنه أدى فريضة الحج.
سكن مالتزن في فندق صغير في جدة، وهي مدينة لم يرتح لها، وكانت ليلته في الفندق مزعجة، إذ جاور غرفة مليئة بالدراويش، الذين قضوا ليلتهم في صراخ. لم تترك مكة المكرمة لدى مالتزن أي انطباع إيجابي، وكان يشعر بعدم الراحة النفسية، وهو اعتبر الشعائر الإسلامية طقوسًا مملة، ذات طابع جنوني. وشبّه المسجد الحرام بقلعة الشياطين. وقد صاحب الحجيج في مُعظم مناسكهم ، وبعد الانصراف من عرفات لم يكمل مالتزن بقية النسك. لأنه سمع رجلين من الجزائر يتحدثان عنه، وعرفا أنه على دين النصرانية، لذا فضل مالتزن الهروب إلى جدة، حيث ينتظره صاحب الجواز، وأعاد له جوازه وعليه رسم الدخول إلى مكة المكرمة.
جاء إلى مكة المكرمة الطبيب البريطاني هيرمان بكنيل Herman Bicknell في عام 1279هـ/1862م، كان بكنيل يعمل جراحًا في مستشفى سانت بارثولوميو بلندن. وكان يؤمن أنه من صالح الحكومة البريطانية أن يلم الشعب البريطاني بالمعلومات الموثقة والواسعة عن الدين الإسلامي والمسلمين. ولن تأتي تلك المعرفة إلا عن طريق المشاركة في أكبر موسم يجمع المسلمين، وهو موسم الحج.
لهذا تطوع الدكتور بكنيل بالقيام بالرحلة إلى مكة المكرمة، وتنكر في صورة بريطاني مسلم، لذا لم يضطر لتغيير ملابسه. أنهى الدكتور بكنيل مناسك الحج، وأقام بمكة المكرمة، وقال إن المسجد الحرام يشبه القصر الملكي في باريس. ولم يذهب مع الحجاج الذين رافقهم إلى المدينة المنورة، بحجة أنه لا يستطيع مقاومة موجة الحر. وبعد عودته نشر مقالاً مطولاً عن الإسلام والمسلمين في جريدة التايمز عنوانه (الحج إلى مكة)، ووقعه باسمه الإسلامي المستعار: (الحاج محمد عبدالواحد) وتاريخ المقال هو 25/8/1862.
ويقول الدكتور العسكر، معظم الرحالة الغربيين الذين جابوا مناطق الجزيرة العربية وخاصة بلاد الحجاز عمدوا إلى إخفاء شخصياتهم الحقيقية، وتنكروا خلف أسماء عربية، وأظهروا مهنًا لا يعرفونها أصلاً، نستثني من أولئك نفرًا قليلاً، يأتي على رأسهم البريطاني تشارلز مونتاج داوتي Charles Montage Doughty وهو ليس فقط يعلن عن اسمه الحقيقي في معظم الأحيان، بل فوق هذا لم يأت للجزيرة لحساب دولة أو رئيس دولة، لقد كان داوتي من المغامرين وحسب، كان رجلاً متدينًا، وإن قلت مأخوذًا بقصص العهد القديم لدرجة الذوبان فيها، فلن أتجاوز الحقيقة.
جاء إلى الجزيرة العربية يريد تحقيق أهدافه غير المعلنة، وهي أهداف لا تخرج عن رغبته في تلمس القصص الواردة في العهد القديم، ومعرفتها على الطبيعة، يريد أن يعرف مثلاً الأماكن التي ذكرت في التوراة مثل مدائن صالح، ومعرفة السكان الذين يقطنون تلك الأماكن. لهذا انضم إلى قافلة الحجاج الشامية وتسمى باسم خليل، وهذا لا يعني إخفاءه اسمه الحقيقي، ولكنه من ضرورات السفر في البلاد العربية، وعندما وصلت القافلة إلى مدائن صالح تخلف داوتي، لأن قائد القافلة كان على علم بديانة داوتي وشخصيته الحقيقية، ولهذا رفض مواصلة داوتي السفر إلى المدينة المنورة ثم مكة المكرمة، وصل داوتي مدائن صالح نهاية شهر نوفمبر عام 1293هـ - 1876م، وبقي فيها مدة ينتظر عودة القافلة. فقام بدراسة المنطقة واستنساخ معظم الكتابات والنقوش.
لقد أخذ داوتي يجوب الجزيرة من شمالها مرورًا بوسطها ثم منتهيًا بغربها الشمالي، وكتابه الموسوم (الصحراء العربية Deserta Arabian من أكثر الكتب نفعًا، ومن أكثرها نقلاً للقصص والحكايات التي سمعها، والمعلومات التي أوردها عن شعب الجزيرة معلومات قيمة، وخاصة عن الدولة السعودية الثانية، وهو من أصدق الرحالة الذين وصفوا طبيعة العلاقة بين القبائل العربية في زمن الرحلة.
ولأن داوتي جيولوجي فقد أثر عليه هذا التخصص، لذا فانه لم يجد ما يقوله عن جغرافية الجزيرة، ولكنه كان مأخوذًا بطبيعة البداوة، ومحبًّا للبدو، فوصفهم أدق ما يكون الوصف، في كل مناحي حياتهم العامة والشخصية، ربما لم يصادف أحد من التعاسة، وشظف العيش، وقساوة الرحلة كما صادفها داوتي، وهو يقول:«لقد عشت في الجزيرة العربية يوما سعيدا واحدًا فقط، أما بقية الأيام فكانت كلها سيئة بسبب تعصب الناس».
كانت رحلة الإنجليزي جون كين Gohn Fryer Keane رحلة ذات عبق روحي، ولا غرو في ذلك، فهو ابن قسيس، وتربى منذ شبابه لدى المسلمين، وقد ساعدته تسع سنوات قضاها عاملاً في البحرية الهندية على التعرف الكافي على الدين الإسلامي، ومن ثم جاءت الفرصة عندما أبحرت سفينته إلى الحجاز، فرافق أميرًا هنديًّا وقضى عدة أسابيع في مكة المكرمة، التي وصلها عام 1294هـ/ 1877م.
أحب جو كين مكة المكرمة لدرجة حسب نفسه من أهلها، وقال: إن سحنته الأوروبية لم تثر اهتمام الناس أو فضولهم، ذلك أن الحجيج من كل صوب ولون، وشبّه جمع الناس المختلفين بشخصيات متحف مدام توسو، ووصف كين منظر طلاب المدرسة وهم يجلدون على أقدامهم، وقال: إن كل مجموعة تضم خمسة تلاميذ يتلقون هذا العقاب دفعة واحدة، ووقع له موقف طريف، هذا ملخصه: يقول كين: «إنه يحب مكة المكرمة، ومعجب بالإسلام، ولكن أهل مكة لا يستحقون الحب، فأغلبهم شحاذون، يطلبون البخشيش بسبب أو بغيره، وحدث أن مر يومًا وهو مرتدٍ الملابس العربية الفضفاضة، ويعتمر العمامة أن تقدم له صبي وصاح بدون سبب: «انظروا إلى هذا النصراني» فما كان من أحد المتسولين إلا أن تقدم له وطلب الإفصاح عن هويته، فأخذه كين ورماه أرضًا، ثم تكاثر الناس عليه، فاضطر أن يختطف طفلاً ويجعله واقيًا له من الحجارة التي ترمى عليه، وأسرع إلى مركز الشرطة، حيث شرح لهم قصته، وادعى الإسلام، فتلقى الحماية اللازمة.
لم تكن تلك الحادثة هي آخر معاناة كين، فقد حدث له في الطريق إلى المدينة المنورة قصة كادت تودي بحياته، لما رأى معالم المدينة المنورة تذكر مدينة القسطنطينية، لكنه مثل بيرتون، لم يعجبه طراز ولا ألوان المسجد النبوي، وقال عنهما: إنهما بهرجة لا تنم عن ذوق سليم، كتب كين مذكراته وذكرياته في كتاب يتسم بالذوق الأدبي الرفيع أحيانًا والوضيع أحيانًا أخرى.
ليس من الرحالة الغربيين الذين أقاموا بالحجاز أو بمكة من يدعي معرفتهما مثل ما يعرفهما الرحالة الهولندي كريستان هورخرونية Snouk Horgronje فقد قضى فيهما أكثر من سنة، عام 1303هـ - 1885م. هورخرونية من المتخصصين في اللغات السامية، وأطروحته للدكتوراه عن أصول الحج، ومن عجائب طرقه للحصول على المعلومات هي الارتباط بزيجة في البلد الذي يقيم فيه، لهذا تزوج في مكة المكرمة امرأة من جاوة، وعن طريقها استطاع معرفة معلومات عن المجتمع وعاداته، لا يمكن الوصول إلى معرفتها من دون تلك الزيجة، مثل وصف الزواج في مكة، ووصف العروس، بل أخذ صورة شمسية لها، وليس من المستبعد أن زواجه من سيدة جاوية هو لمعرفة المزيد عن الجالية الجاوية في الحجاز، ولمعرفة ارتباطهم بإندونيسيا التي خضعت للاستعمار الهولندي في ذلك الوقت، اهتم هورخرونية بدراسة العادات في الحجاز، خاصة ظاهرة الزار، ونظرًا للتنافس الغربي، فقد قام القنصل الفرنسي في جدة بتسريب سر وجوده في مكة المكرمة، لذا سارع هورخرونية إلى تركها.
ألف هورخرونية كتاب (صفحات من تاريخ مكة المكرمة) وهو كتاب عظيم الشأن، ويعد بحق مصدرًا لمجمل حالة مكة المكرمة في القرن الثالث عشر الهجري - القرن التاسع عشر الميلادي، خاصة ما يتعلق بالنواحي الإثنوغرافية، ولا نعدو الحقيقة عندما نقول: إنه لم يؤلَّف كتاب عن مكة المكرمة يصف ماهي عليه في القرن الثالث عشر الهجري مثل كتاب هورخرونية، ولا نظن أن أي باحث في تاريخ مكة المكرمة الحديث يستطيع أن يتجاوزه.
وتُعد زيارة المصور الفرنسي المحترف جرفي كورتلمون Gervais Courtellmont إلى مكة المكرمة أول زيارة من نوعها، شجعه عليها أصدقاؤه الجزائريون، لكي يتعرف أكثر على سلوك المسلمين وعاداتهم.
وصل كورتلمون مكة المكرمة عام 1321هـ - 1894م من الجزائر، أخذ صاحبنا عدة صور لمكة المكرمة والبيت الحرام بلغ عددها 34 صورة. ووصف مكة وسكانها، وقال: إن الإسلام دين عظيم وبسيط، ولكنه لا يملك الجرأة الكافية لاعتناقه، وقال: إنه سمع حكاية منتشرة بين السكان مفادها أن من يدفن في مكة المكرمة أو المدينة المنورة يذهب إلى الجنة.
أما الحاج عبدالله وليامسون Williamson فهو بحق مسلم، وحج حجته الأولى عام 1313هـ/ 1895م، وليامسون بريطاني مغامر هرب في مقتبل عمره إلى كاليفورنيا، ثم انضم إلى جماعة المتمردين في الفلبين، وبينما كان يعمل شرطيًّا في عدن، اعتنق الإسلام، ذهب بعد ذلك إلى العراق حيث قضى معظم سنوات عمره، ووظف خبرته لصالح شركة النفط البريطانية، كتب رستانتون هوب قصة حياة وليامسون في كتاب عنوانه: (الهارب إلى الله)، وهي قصة من أجمل قصص المغامرة، وقد ظهر للكتاب ترجمة عربية اطلعتُ عليها.
تغريد
اكتب تعليقك