غيابُ العدالة.. وسيكولوجية الغِنى والفقرالباب: مقالات الكتاب
حسام خليل مصر |
إليزابيث كولبرت
ترجمهُ: حسام خليل
في العام 2016، كان أعلى الموظفين دخلًا في ولاية كاليفورنيا هو «چيم مورا»، مدرب فريق كرة القدم بجامعة كاليفورنيا – لوس أنجلوس (قبل أن يرحل عن الفريق)، حيث تقاضى في ذلك العام 3.58 مليون دولار أمريكي. وحلَّ ثانيًا، براتبٍ سنويٍّ مقداره 2.93 مليون دولار، «كونزو مارتن»، الذي كان إذ ذاك يشغل منصب المدير الفني لفريق كرة السلة (رجال) بجامعة كاليفورنيا – بيركلي. كما تشير الأرقام إلى أن الدخل السنوي لكبير أطباء الأسنان بمستشفيات وزارة الخارجية الأمريكية، ويُدعى «ڤيكتور خليل»، كان قد بلغ في ذلك العام 686 ألف دولار، وبلغ دخل «آن نيڤيل»، مديرة مركز كاليفورنيا للأبحاث، 135 ألف دولار، بينما لم يزد دخل «چون سميث»، الذي يشغل وظيفة كتابية موسمية بأحد مكاتب الضرائب بالولاية عن 12,900 دولار سنويًا.
هذه الأرقام مستقاة من قاعدة بيانات مملوكة لصحيفة «ساكرامنتو بي»، وهي قاعدة بيانات مفتوحة، تتيح لعموم المستخدمين البحثَ بالاسم أو الجهة الحكومية، وتشتمل على معلومات دقيقة عن رواتب أكثر من 300 ألف موظف يعملون بولاية كاليفورنيا. أحسبُ أن غالبية موظفي الولاية باتوا على علمٍ بأمر قاعدة البيانات هذه، بعدما لم يكن يُسمع بها، لدى إنشائها عام 2008، إلا في دوائر محدودة. ما يعني أن الظروف قد تهيَّأت لإجراء تجربة علمية.
أجرى التجربة أربعةٌ من الاقتصاديين، بهدف اختبار النظريات التي تبحث الأبعاد المختلفة لظاهرة غياب العدالة، وتتباينُ فيما بينها أشدَّ التباين. فبحسب إحدى تلك النظريات، ويُطلق عليها «نموذج التحديث العقلاني» (rational-updating model)، يميلُ الشخص إلى تقييم راتبه من زاوية الفُرص التي قد تسنح له. فلو أنه اكتشف أنه يتقاضى أجرًا أقلَّ من أقرانه، فسوف «يُحدِّث» (update) توقعاته لما سيكون عليه دخلُهُ فيما بعد، ويخلُصُ إلى أن ثمة فرصةً سانحة وإمكانيةً قائمة لزيادة دخله مستقبلاً. والعكسُ بالعكس، فلو اتصل بعلمه أنه يتقاضى أجرًا يفوق ذلك الذي يتقاضاه أقرانه، فسوف يقعُ الخبرُ منه موقعًا غير حسن، ويُحدِّث توقعاتِه في الاتجاه المضاد.
وفي مقابل هذه النظرية، ذهبت نظرية أخرى إلى أن استجابة المرء لشعوره بغياب العدالة لا تكون عقلانية، وإنما عاطفية. فلدى اكتشافه أنه يتقاضى أجرًا أقلَّ من قرنائه، لن يقع هذا في روعِهِ باعتباره إشارةً تُنبئ بزيادة دخله مستقبلاً، وإنما أمارةً على أنه لا يَلقى من التقدير ما يستحق (فيما يُطلِق عليه الباحثون «نموذج الدخل النسبي» (relative income model). وعليه، فبحسب هذه النظرية، لو نما إلى علم أحدهم أنه من ذوي الدخل المحدود، فسوف يعتريه شعورٌ بالحُنق والضيق، أما إذا اكتشف أنه من أصحاب الدخل المرتفع، فسوف يتملَّكه شعور بالرضا والارتياح.
شرع الاقتصاديون الأربعة في إجراء دراستهم، فبعثوا رسالة إلكترونية إلى آلاف الموظفين في ثلاثٍ من كليات جامعة كاليفورنيا- هي كليات «سانتا كروز»، و«سان دياغو»، و«لوس أنجلوس»- بقصدِ لفت انتباههم إلى وجود قاعدة البيانات آنفة الذكر. وسرعان ما شهِد الموقع الإلكتروني قفزةً ملحوظةً في عدد الزيارات، إذ طفِق الموظفون يتفقدون رواتب بعضهم البعض.
وما هي إلا أيام قلائل حتى أعقب الباحثون رسالتهم برسالةٍ أخرى، تضمَّنت هذه المرَّة بعض الأسئلة، منها: «ما مدى رضائك عن عملك؟» و«ما مدى رضائك عن الأجر/الراتب الذي تتقاضاه لقاءَ هذا العمل؟». ثم كان أن بعثوا بهذه الرسالة الثانية إلى مجموعةٍ أخرى من الموظفين، غير أولئك الذين أوعزوا إليهم بارتياد قاعدة البيانات، وعقدوا مقارنةً بين نتائج المجموعتين. والحقُّ أن النتائج التي انتهوا إليها لم تتطابق- التطابق التام- مع مقولاتِ أيٍّ من النظريتين اللتين أسلفنا الإشارة إليهما.
صدَّقت النتائج على إحدى مقولتي نموذج الدخل النسبي؛ فالموظفون الذين تبيَّن لهم أنهم يتقاضون أجورًا تنخفض عن أجور أقرانهم، انتابهم شعورٌ بالاستياء، كما دلَّت على ذلك أجوبتهم، إذ تبيَّن أنهم- قياسًا إلى المجموعة الضابطة-أقلُّ رضاءً عن وظائفهم، وأحرَصُ على تركِها والبحثِ عن وظائف جديدة. أما أصحابُ الدخول المرتفعة، فقد خاب تنبُّؤ نموذج الدخل النسبي بشأنهم. فخلافًا لما قال به هذا النموذج، لم تظهر دلائل الارتياح، ولا علائم الحبور، في أجوبة أولئك الذين انكشف لهم أنهم أحسنُ حالاً من زملائهم؛ بل كانوا إلى عدم المبالاة أقرب. في الورقة التي نُشرت حول هذه الدراسة، صاغ الاقتصاديون الأربعة النتيجة التي خلُصُوا إليها بقولهم إن تفقُّد قاعدة البيانات «كان له أثر سالب على العاملين الذين تنخفض أجورهم عن متوسط الأجور في نفس الوحدة الإدارية وعند نفس الفئة الوظيفية»، لكن «لم يُلحظ له أي أثر على العاملين الذين ترتفع أجورُهم عن هذا المتوسط.»
أما الخلاصةُ التي خرج بها الباحثون من دراستهم، فهي أن لدى أرباب العمل «حافزًا قويًا» لإخفاء رواتب موظَّفيهم، والإبقاء عليها في طيِّ الكتمان. وإذا صحَّ أن ننظر إلى موظفي ولاية كاليفورنيا باعتبارهم عيِّنة ممثلة لعموم الأمريكيين، وأمكن-من ثم-تعميم نتائج هذه التجربة عليهم، فسوف نخرج بخلاصةٍ أوسع في دلالتها، وأدعى إلى القلق. ففي مجتمع تتركز فيه المكاسب الاقتصادية عند قمة هرمه- في مجتمعٍ كمجتمعنا، بعبارة أخرى-نكاد ألا نجد مَن يمكن اعتبارُهُ بهذا المعنى رابحًا بحقّ، بينما الخاسرون كُثُر.
يذكُر «كيث پاين»، الباحث في علم النفس، تلك اللحظة التي أدركَ فيها أنه فقير: كان تلميذًا بالصف الرابع الابتدائي، يتخذ موقعه بين أترابه المصطفِّين داخل الكافيتريا المدرسية، في مدرسته الواقعة غربي مدينة «كنتاكي». لم يكن «پاين» يدفع ثمن وجبته المدرسية، ذلك أنه نشأ في أسرة فقيرة، فكانت تُصرف له وجبة مجانية. ولمَّا كان الأمر كذلك، فقد جرت العادة على ألا تطالبه موظفة الكاشير بثمن الوجبة، وإنما تسمحُ له بالمرور، بإشارةٍ صامتةٍ من يدها. حتى كان ذلك اليوم، عندما استُبدلت الموظفة بأخرى، وإذا بالموظفة الجديدة تطالبُه بدفع دولارٍ ورُبع: مبلغٌ كبير على مَن خلا مِن المالِ جيبُه! فأُسقط في يد الطفل، وغمره شعورٌ بالخزي. أدرك من توِّه-وعلى نحوٍ مفاجئ-أنه لم يكن مثل غيره من الأطفال، الذين اصطفُّوا معه، أمامه وخلفه، وفي جيوبهم ما يكفي لنقد ثمن الوجبة المدرسية.
في كتابه: «السُّلَّمُ المكسور: أثر غياب العدالة على طريقة تفكيرنا وحياتنا وموتنا»، يتذكَّر «كيث پاين» تلك اللحظة قائلاً: «غيَّرت هذه اللحظةُ نظرتي إلى كل شيء.» فرُغم أن شيئًا لم يتغير من وجهة النظر الاقتصادية المحضة (إذ لم يتغير دخلُ الأسرة في ذلك اليوم عن دخلها في اليوم الذي سبق)، كانت تلك اللحظةُ داخل الكافيتريا خليقةً أن تبيِّن لـ «پاين» موضعه من السُّلم، فصار من يومه واعيًا إلى تلك الدرجة - من دَرَج السُّلم - التي يقفُ عليها. أورثه هذا الوعيُ شعورًا بالخجل، تمكَّن منه وملَكَ عليه أمره؛ صار يتحرَّج من ملابسه، وطريقته في التحدُّث، وحتى من قَصَّة شعره، الذي كان يقُصُّه في المنزل، مستعينًا على ذلك بالنظر في طاسٍ معدني، عوضًا عن المرآة. يقول «پاين» متذكرًا: «لازمني هذا الخجل في طفولتي، وأسلمَني إلى صمتٍ ثقيلٍ قلَّما زايلَني إبَّان تواجدي بالمدرسة».
«كيث پاين»، الذي يعملُ حاليًا أستاذًا لعلم النفس بجامعة شمال كاليفورنيا الكائنة في مدينة «تشابل هيل»، تكونت لديه قناعةٌ ألا شيء يُؤذي الفقراء - لاسيما في بلد كالولايات المتحدة، حيث تجد أن حتى أولئك الذين يقعون تحت خط الفقر، بحسب ما أورد «پاين» في كتابه، غالبًا ما يملكون أجهزة تلفاز وميكرويف وهواتف نقالة - لا شيء يُؤذي هؤلاء الفقراء أكثر من «شعورهم» الذاتي بأنهم فقراء. وليس هذا الشعور قصرًا على الأفراد المنتمين إلى الشريحة الاقتصادية الدنيا؛ ففي عالم يقيِّم فيه المرءُ نفسه بالقياس إلى الأقران والجيران، لا يبعُدُ أن يكون أحدُهُم ميسورًا، ويحسب نفسه مع ذلك في عِداد المحرومين. يقول «پاين»: «بخلاف دفاتر الحسابات المصرفية، حيث التصنيفات ثابتة والقوائم صلبة، تجد أن نظرة المرء إلى وضعه المادي أبعدُ ما تكون عن الثبات والصلابة، بل هو أقربُ إلى هدفٍ متحرك على الدوام، يُحدَّد تبعًا للمقارنات المستمرة مع الآخرين».
ثم إن للشعور بالفقر عواقبَ وتداعياتٍ تتجاوزُ مجرد الشعور؛ فالأشخاص الذين يقعُ في روعهم أنهم فقراء يتخذون قراراتٍ مغايرة: هي في الغالب الأعمِّ قراراتٌ أسوأ، وأبعدُ عن الصواب. ولتنظر إلى لُعبة اليانصيب على سبيل المثال: أن يُنفق أحدُهُم دولارين على شراء ورقة يانصيب «پاوربول»، بينما فُرص الفوز لا تتجاوز واحدًا من ثلاثمائة مليون، لا يبدو قرارًا صائبًا أو حصيفًا؛ لاسيَّما إذا كان ذلك المقامِر ممَّن يكابدون شظف العيش، وقِصَرَ ذات اليد. على أن الأرقام تُفصح عن أن محدودي الدخل من الأمريكيين أكثرُ إقبالاً على شراء أوراق اليانصيب، إلى حد أن البعض يُشيرون إلى هذا النشاط برُمَّته على أنه «ضريبةٌ على الفقراء».
ومردُّ هذا السلوك من جانب الفقراء، بحسب أحد التفسيرات، إلى أنهم أجرأ على المجازفة، والانخراط في الأنشطة التي تنطوي على مخاطرة؛ بل يمكن القول إن هذا هو السبب الذي إليه يُعزى فقرُهم في المقام الأول. وهكذا، فإن هذه الطريقة في التفكير، وفقًا للتصور الذي يطرحه «پاين»، هي ما تعكس الصورة المفترَضة، وتقلبُ الأمور رأسًا على عقب. وفي هذا الصدد، يتناول في كتابه دراسةً عن القِمار، أجراها باحثون كنديون في علم النفس. فبعد أن توجَّهوا إلى الأشخاص الذين خضعوا للدراسة ببعض الأسئلة الاستقصائية، دارت في جملتها حول أوضاعهم المادية، طلبوا إليهم تقييم أنفسهم وحالتهم الاقتصادية وفقًا لما أطلقوا عليه «المقياس المعياري لفائض الدخل». وهو، في الحقيقة، لا يعدو كونه مقياسًا وهميًا، وُضعت له القيمُ والدرجاتُ كيفما اتفق. ذلك أن الباحثين لم يكونوا في حقيقة الأمر معنيين ببحث الأوضاع الاقتصادية لمَن شمِلتهم الدراسة، بحد ذاتها، وإنما برصد انطباعاتهم وتصوراتهم عنها: خرج المشاركون من تلك المناقشة وقد انطبع في نفوس بعضهم أن فائض الدخل لديهم يفوقُ ذلك الذي يتوفَّرُ عليه أقرانُهم، وخرج البعضُ بانطباع معاكس. وفي الأخير، مُنح كل مشارك عشرين دولارًا، وتُرك له الاختيار بين الاحتفاظ بها، أو المراهنة بها في لُعبة ورقٍ حاسوبية. ومن عجبٍ أن المشاركين الذين سجَّلوا لأنفسهم درجةً منخفضة على مقياس فائض الدخل كانوا أميَل من غيرهم إلى المراهنة بنقودهم، وأشدَّ إقبالاً عليها. يخلُصُ «پاين» من هذه الدراسة إلى أن «الشعور بالفقر هو ما دفع هؤلاء المشاركين نحو مزيدٍ من المقامرة.»
وفي دراسةٍ أخرى، أجراها هذه المرة «پاين» بمشاركة عدد من زملائه، قُسِّم المشاركون إلى مجموعتين، وعُقدت مراهنةٌ فيما بينهما، إذ تنافست المجموعتان على عددٍ من الرهانات المتوالية. وحيالَ كلِّ رهان، تعيَّنَ على كل مجموعة أن تختار بين خيارين: إما مكسب منخفض ومخاطرة منخفضة (وليكن المكسب 15 سنتًا وفرصة الفوز به 100%)، أو مكسب مرتفع ومخاطرة مرتفعة (كأن يكون المكسب دولارًا ونصفًا وفرصة الفوز به 10%). وقُبيل انطلاق المراهنة، نقل الباحثون إلى المجموعتين - كُلاً على حِدة - صورتين مختلفتين (ووهميتين أيضًا) عن مُجريات المراهنات السابقة؛ فأخبروا المجموعة الأولى أن الفرق في المكسب بين الرابح والخاسر في تلك المراهنات لم يزد على سنتاتٍ قليلة، وأخبروا الثانية أن الفارق كان شاسعًا. وانطلقت المراهنة، فإذا المنتمون إلى المجموعة الثانية يُظهرون في رهاناتهم قدرًا من المجازفة يفوقُ بكثير ذلك القدر الذي أظهره أفرادُ المجموعة الأولى. يؤكد «پاين» أن هذه التجربة «تقدم أول دليل فعليٍّ على أن اللامساواة-من حيث هي-كفيلةٌ بدفع الأشخاص نحو سلوكٍ يتسم بالمجازفة.»
يذهب «پاين» إلى أبعدَ من ذلك، فيقول بوجود ارتباط بين موقف المرء من الأجناس، وتعرُّضه لتجربة حرمان. ويستدلُّ على ذلك بدراسة أجراها باحثون في علم النفس بجامعة نيويورك، حيث وزعوا كل فردٍ من أفراد الدراسة عشرة دولارات لإنفاقها على واحدةٍ من تلك الألعاب التي تُلعب عبر شبكة الإنترنت. ثم كان أن انتخبوا مجموعةً من هؤلاء الأفراد، وأخبروهم أنهم كانوا ليُمنحوا مائة دولار، لو أنهم أوفرُ حظًا. ثم عُرض على المشاركين، وجميعُهُم من ذوي البشرة البيضاء، عددٌ من صور الوجوه (لم تكن في واقع الأمر سوى صور مُركَّبة ومعدَّلة بطُرقٍ شتَّى)، وطلبوا إليهم اختيار الصورة «الأشد سوادًا». فكان أن وقع اختيار أفراد المجموعة «التي لم يحالفها الحظ»- في المتوسط- على صورٍ أغمقَ من تلك التي وقع عليها اختيار المجموعة الضابطة. علَّلَ «پاين» ذلك بأن «الشعور بالغُبن قد عزَّز قدرتهم على إدراك الفوارق بين الأجناس».
وهكذا، يزخر كتاب «السُّلَّم المكسور» بدراسات مماثلة؛ بعضُها أكثرُ إقناعًا من البعض. وفي غير قليلٍ من الأحيان، ترى «پاين» وقد شطح باستنتاجاته إلى أبعدَ مما تحتمل النتائج. إنما تكمُنُ قيمة الكتاب في غزارة الحُجج والبراهين التي تحتشدُ بين دفَّتيه. إن الشخص الذي يقعُ- أو يُوقَعُ- في روعه أنه محروم، عادةً ما يرى أنه تعوزُه القدرة والكفاءة، ويكونُ أقربَ من غيره إلى تبنِّي نظريات المؤامرة. بل ويكون أكثر عُرضة للمشاكل الصحية؛ فقد توصَّلت دراسة أُجريت على عينةٍ من الموظفين الحكوميين في بريطانيا إلى نتيجةٍ مُفادُها أنَّ تقييم الشخص لوضعه المادي يُعد مؤشرًا أصدقَ على حالته الصحية من درجته العلمية أو دخله الفعلي.
أما الخلاصةُ التي يخرج بها «پاين» من كل تلك الدراسات والتجارب، فهي أننا ماضون في طريقٍ لا يُبشر بخير، وإنما يدعو إلى القلق. صحيحٌ أن الولايات المتحدة ضمن البلدان التي تحتلُّ قمة الهرم العالمي من حيث متوسط دخل الفرد، إلا أنه، وبالنظر إلى تلك الفجوة الآخذة في الاتساع ما بين شريحة الـ 1% الأعلى ثراءً وبين سائر شرائح وطبقات المجتمع، لا عجب أن تتفشَّى تلك الانطباعات الذاتية التي تُوقِع في نفوس الناس أنهم فقراء. يقول «پاين»: «إنَّ لغيابِ المساواةِ على النفسِ وقعًا يُشبه وقعَ الفقر؛ الأمرُ الذي يجعل الولايات المتحدة. . . - في غيرِ قليل من الوجوه- أقربَ شبهًا إلى البلدان النامية منها إلى القوى العظمى».
وهذه باحثةٌ أخرى معنيَّة بدراسة مسألة غياب المساواة، هي «راشيل شيرمان»، أستاذةُ علم الاجتماع بجامعة «نيو سكول» بنيويورك؛ غير أنها تركز في بحثها على نطاقٍ بحثي أضيقَ كثيرًا مما رأينا في حالة «پاين». في مقدمة كتابها: «طريقٌ غيرُ مفروشٍ بالورود: متاعبُ الثراء»، تقول «شيرمان» إنه «على الرغم من أن صور الأثرياء تتصدَّر واجهات الصُّحف، وتعُجُّ بها وسائل الإعلام المختلفة، لا نكادُ نقفُ على كُنه هذا الثراء؛ لا نعرفُ ماذا يعني أن تكون ثريًا في هذه اللحظة التاريخية الراهنة.»
أوَّلُ ما اكتشفَتْهُ «شيرمان» عن الأثرياء أنهم لا يرغبون في الحديث إليها، أو التجاوب معها. وحتى أولئك الذين قبِلوا بإجراء مقابلات بحثية معهم، توقفوا فجأةً عن التواصل، وانقطعوا عن الرد على رسائلها. من هؤلاء، على سبيل المثال، سيدةٌ اعتذرت عن المُضي في إجراءات عقد المقابلة، متعللةً بأنها «غارقة حتى أذنيها» مع أطفالها؛ لتعلم «شيرمان» بعد ذلك أن الأطفال إنما كانوا في معسكر مدرسيّ. غير أنها، بعد جُهدٍ مُضنٍ، وقَطعِ مسافاتٍ طويلةٍ سيرًا على الأقدام، اجتمع لها خمسون من عِلية القوم في منطقة «مانهاتن» وفي محيطها، يتحصَّل غالبيتهم على دخلٍ أسريٍّ سنوي يتجاوز خمسمائة ألف دولار، فيما يتقاضى نصفُهم تقريبًا دخلاً سنويًا يربو على مليون دولار، أو يمتلكون أصولاً تتجاوز قيمتها ثمانية ملايين دولار، أو يجمعون بين هذا وذاك. (على الأقل، هذا ما قرره أفراد الدراسة أنفسهم؛ أمَّا الباحثة، فسرعان ما ذهب بها الظن إلى أن هذه الأرقام لا تعكس الحقيقة، وإنما تنخفض عنها انخفاضًا يسيرًا أو كبيرًا.) وقد أظهر أفراد الدراسة حرصًا شديدًا على التكتُّم والسرية، ما اضطرَّ الباحثة إلى حجب أيةِ تفاصيلَ من شأنها أن تُفصح عن هويتهم لشخصٍ ربما حلَّ بهم ضيفًا في منازلهم الفاخرة، أو التقاهم في متنزهاتهم الباذخة. التمستْ الباحثة أفراد الدراسة في مظانِّهم، وبلغ بها الأمرُ حدَّ ارتياد حماماتهم الوثيرة. تقول: تحدثتُ إلى بعضهم «وهم في أحواض الاستحمام وحمامات البخار. وأجريتُ مقابلاتٍ في مطابخَ مكشوفة، عادةً ما كانت مكسوَّةً برُخام الكرارة الأبيض الفاخر، أو مُزدانة بالطوب الأحمر يدويّ الصُّنع.»
أما النتيجة الثانية التي خلُصت إليها «شيرمان» من دراستها، والتي ربما لا تبعُد عن الأولى، فمُفادها أن الموسرين يُفضِّلون ألا ينظروا إلى أنفسهم على أنهم كذلك. هذه سيدةٌ تمتلك شقة مُطلة على نهر «هودسون»، ومنزلاً آخرَ في منتجع «هامتونز»، وتتوفر على دخلٍ أسريٍّ لا يقلُّ عن مليوني دولارٍ سنويًا، تُخبر الباحثة أنها تُعِدُّ نفسها من الطبقة الوسطى. تقول: «لديَّ انطباع أنه، مهما بلغت ممتلكاتك، ثمة مَن يملك منها مائة ضِعفًا!» وسيدةٌ أخرى، لها دخل أسريّ مُقارب، يتحصَّل عليه زوجها الذي يملك مكتب محاماة، تصفُ الوضع المادي لأسرتها بأنه «لا بأس به»، ثم تُردفُ قائلةً: «إليك، مثلاً، مدراءَ البنوك .. الهُوَّةُ واسعةٌ فيما بيننا وبينهم، حتى أننا لا نكادُ ندنو من أدناهم!» وسيدةٌ ثالثة، تتوفَّر على دخلٍ أسريٍ أعلى- يبلغ مليونين ونصف مليون دولار سنويًا- تحتجُّ على استخدام الباحثة لفظَ «ثرية»، وتستدركها بالقول: «الثراء مسألة نسبية»، مشيرةً إلى أن بعض أصدقائها يسافرون لقضاء عُطلاتهم على متن طائرات خاصة، وتُعقِّب: «ذلك هو الثراء حقًا!»
وما نرى إلا أن موقف السيدات الثلاث يتجاوب مع تحليل «پاين»، وينسجم مع رؤيته إلى حدٍّ بعيد. فإذا كان الأمرُ كلُّه نسبيًا، وإذا كان الثراء إنما ينبُعُ من عين الرائي، بحيث يتوقف تحقُّق الثراء من عدمه على زاوية النظر التي يتخذها الشخص لإطلاق هكذا حُكم، فلا عجب أن تجد مِن فاحشي الثراء- حين يضعون أنفسهم في كفَّة، وفي الأخرى أُناسًا يفوقونهم غِنىً وثراء- مَن يأسفون لأنفسهم، وينعَون حالهم. فإذا عُدنا إلى السيدة التي تُبدي اعتراضًا على نعتها بالسيدة الثرية، على سبيل المثال، وجدنا أنها تضع نفسها عند «الدرجة الدنيا من قاع» فئة الـ 1%، وتستطردُ قائلة: «إن الفرق شاسع ما بين قمة هذه الفئة وقاعها!».
أما «شيرمان» فتذهب في التحليل مذهبًا مغايرا: إذ أرجعت نفور أفراد الدراسة من نعتهم بالثراء إلى رغبتهم في أن ينأوا بأنفسهم عما قد يكون لهذا الوسم من تضمينات. كتبت تقول: «إن ثمة نزوعًا بين سكان نيويورك إلى أن يروا أنفسهم "أشخاصًا صالحين"؛ والشخص الصالح يتفانى في العمل، ويتحلى بالحكمة والرشاد، ويعيش في حدود إمكاناته . . . لا يزهو ولا يختال.» وفي موضع آخر من كتابها، أبدت الباحثة «اندهاشها» من تكرار بعض التعبيرات على ألسنة أفراد الدراسة، عَكَست في جملتها أفكارًا متضاربة، ومشاعرَ مختلطة، عن طُرق الإنفاق. تقول: «بمُضيِّ الوقت، تراءى لي أن هذه المشاعر المختلطة تمثِّل في جوهرها صراعاتٍ أخلاقيةً حول كون المرء محظيًا من الأساس».
هذا الانزعاج الذي وثَّقته «شيرمان» في دراستها- سواءً كان مصدرَه الحسدُ أو الوازعُ الأخلاقي- يتسق مع نتائج الدراسة التي أجرتها جامعة كاليفورنيا. من الواضح أن غياب المساواة يُنتج أثرين غير متناظِرين: فرُغم كل ذلك الضيق الذي تُصيب به القابعين عند القاع، لا تجلبُ مِن البهجة لأولئك الذين يعتلون القمة إلا قليلاً.
وليس يخفى على الآباء أن لحظات توزيع الحلوى تحظى من أطفالهم بعناية خاصة. قبل بضعة أعوام، أجرى فريق من الباحثين في علم النفس دراسةً على الأطفال- حديثي السن إلى حدٍ لا يؤهلهم لأن يطلقوا صرخةً مثل: «ليس هذا عدلاً!»- للتعرُّف على ردود أفعالهم حيال غياب العدالة. جمعوا إليهم عددًا من أطفال الحضانة (مرحلة ما قبل المدرسة)، وقسَّموهم إلى أزواج، ثم وزَّعوا عليهم مُكعَّباتٍ بلاستيكية ليلهَوا بها. وبعد بُرهة، طلبوا إليهم التوقُّف عن اللعب، وإعادة المكعَّبات إلى مكانها، ورصدوا لهم مكافأة على ترتيب الغرفة، عبارةً عن مُلصقات صغيرة. وبقطع النظر عن المساهمة الفعلية لكل طفل في أعمال الترتيب، مُنح أحد الطفلين في كل زوجٍ أربعة مُلصقات، ومُنح الآخر مُلصقين اثنين. بحسب مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC)، يُفترض ألا يستوعب الأطفال فكرة الأعداد قبل بلوغهم السنة الرابعة. غير أنه قد لوحظ أن حتى الأطفال الذين لم يتجاوزوا عامهم الثالث قد فطنوا إلى ما وقع عليهم من ظلم. فراح غالبية الأطفال الذين حصلوا على مُلصقين فقط يرمقون مكافآت رُفقائهم المحظيين بنظراتٍ حاسِدة؛ فيما طالب البعض بالمزيد. أما الحاصلون على أربعة مُلصقات، فقد غضب بعضهم، إما لسببٍ من طريقة التوزيع، أو بسبب الاعتراض الذي أبداه رُفقاؤهم، فقرروا التخلي عن بعضٍ من مُكتسباتهم. في البحث الذي نُشر حول هذه الدراسة، كتب فريق الباحثين: «نستطيع أن . . . نقول بشيء من الثقة إن هذا السلوك نابعٌ من إدراك الأطفال لمفهوم المساواة، لاسيَّما إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه في جميع الحالات التي قرر فيها الأطفال التخلي عن بعض مكتسباتهم، لم يتخلَّ الطفل لرفيقه إلا عن مُلصق واحدٍ فقط، لتصير المكافأتان بذلك متساويتين.» انتهى الباحثون إلى أن «الاستجابة الشعورية لغياب العدالة تظهر في سنٍ مبكرةٍ للغاية.»
فإذا كانت هذه الاستجابة الشعورية قد رُصدت في الأطفال وهُم في مثل تلك المرحلة العمرية المبكرة، فأكبر الظن أننا بإزاء غريزة إنسانية- أي أنها من منتوجات التطوُّر، أكثر من كونها خِلقةً مُكتسبة من الثقافة المحيطة. يُجري عُلماء مركز «يركس الوطني لأبحاث الرئيسيات»، الواقع خارج مدينة «أطلنطا»، أبحاثًا على قرود الكابوتشين بُنِّية اللون، التي تستوطن أمريكا الجنوبية. درَّب العلماءُ مجموعة من القرود على مقايضة شرائح الخيار بقطعٍ معدنية؛ بحيث يُمنح القرد عن كل قطعةٍ معدنية شريحة خيارٍ واحدة. ثم قسَّموا المجموعةَ إلى أزواج، واختصُّوا قردًا واحدًا من كُل زوج بمكافأة أقيَمَ من شريحة الخيار: كانت حبَّة عِنب. أما القرود التي وقع حظها على شرائح الخيار- والتي كانت من قبلُ تلتهمها التهاما، وتلُوكها في غايةٍ من الابتهاج والسرور- إذا هي الآن غاضبةٌ حانقة: امتنع بعضها عن إعطاء ما لديها من قِطع معدنية، ورفض البعض أن يتقبَّل شرائح الخيار، وقِلَّة منها قذفت بشرائح الخيار في وجوه الباحثين، الذين سجَّلوا في دراستهم أن القرود «تنظر إلى المكافأة- على ما يبدو- من منظورٍ نسبيٍّ مقارَن»، مثلها في ذلك مثل البشر أنفسهم.
من الأطفال ناعِمي الأظفار، إلى قرود الكابوتشين بُنِّية اللون، إلى موظفي ولاية كاليفورنيا، إلى الطلاب الجامعيين الذين خضعوا للتجارب السيكولوجية- نكادُ ألا نجد أحدًا لا يترك فيه غيابُ العدالة شعورًا بالحُنق والاستياء؛ هذا على الرغم من أن بواعث هذا الشعور تتفاوتُ من مكانٍ إلى آخر، ومن نقطةٍ زمنية إلى أخرى. فكما أوضح «پاين»، لو أننا وضعنا «توماس چيفرسون»- الرئيس الثالث للولايات المتحدة وأحدَ الآباء المؤسسين، الذي كان يعيش في «مونتسيللو» بدون إضاءة كهربية أو سخان مياه- لو أننا وضعناه على مقياس الحياة الأمريكية المعاصرة، لعُدَّ «أفقرَ من فقير». ما من شكٍّ في أن غياب العدالة- الذي يذهب الكثيرون إلى اعتباره شرطًا أساسيًا لقيام الحضارة- هو ما تُعزَى إليه شتَّى صنوف الابتكارات التي أضحت ترسمُ شكل حياتنا اليومية المعاصرة؛ هي ما جعلت من الأدوات الصحية والكهربية، وأجهزة التبريد المختلفة، وأنظمة التدفئة المركزية، وشبكات «واي-فاي»- جعلت منها، عبر القرون المتعاقبة، ضروراتٍ حياتيةً في الوعي الأمريكي العام.
على أنه لا يزال ثمة مُتسعٌ للاختيار: فمشروع القانون الضريبي الذي أقرَّه الكونغرس مؤخرًا لا يفعلُ أكثر من تكريس المكتسبات- على كل نحوٍ ممكن- في خزائن الطبقة العُليا المتنفِّذة. يُصرُّ المؤيدون على أن إجراءً كهذا من شأنه أن يُسهم في تعزيز الرفاهِ العام، وهو ما يصبُّ بدوره في مصلحة الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. هَب أن هذا صحيح- ولو أن الشواهد التي بين أيدينا ترجِّح غير ذلك- يبقى أن هذا الإجراء لا يتعاطى مع المشكلة الحقيقية. لكي يعُمَّ الشعور بالثراء، لا نحتاج إلى مراكمة الثروة، بقدر حاجتنا إلى تعزيز العدالة.
المصدر:
نُشرت المقالة في مجلة «النيويوركر» في عددها الصادر بتاريخ 15 يونيو 2018، تحت عنوان «الشعور بالدونية» (Feeling Low)، ونُشرت على الموقع الإلكتروني للمجلة تحت عنوان: «سيكولوجية اللامساواة»
(The Psychology of Inequality):
https://www.newyorker.com/magazine/2018/01/15/the-psychology-of-inequality
تغريد
اكتب تعليقك