ما لا يعرِفُهُ الذين يعرفون كلَّ شيء: ملاحظاتٌ حول القُدرة المتوهَّمةالباب: مقالات الكتاب
حسام خليل مصر |
ما لا يعرِفُهُ الذين يعرفون كلَّ شيء: ملاحظاتٌ حول القُدرة المتوهَّمة1
كيت فيلهابر2
ترجمهُ: حسام خليل3
ذات صباحٍ من العام 1995، سَطَا شخصٌ على مصرِفين اثنين في مدينة «بِتسبِرغ» بولاية بنسيلفانيا الأمريكية. كان رجلاً هائلاً بدينًا، في أواسط العمر، مضى في واضحة النهار سافِرَ الوجه، بغير قناعٍ أو ما يُشبه القناع. لم يتكلَّف التخفِّيَ على أي نحوٍ كان. وقبل أن يغادر المصرف، شَخَصَ ببصرِه إلى كاميرات المراقبة، وأرسل ابتسامةً واثقة، ثم ولّاها ظهره ومضى. وفي المساء، داهمت قوات الشرطة منزله، وألقت القبض عليه، وواجهته بصورته التي التقطتها الكاميرات. فما كان من الرَّجُل، ويُدعَى «ماكارثر ويلر»، إلا أن حدَّق في الصورة، وقد اتسعت عيناه دَهَشا، وغمغم قائلاً: "لكنني ارتديتُ قناع الليمون!" كان على قناعةٍ أنه إذا ما دلَّكَ جِسمَه بالليمون، فسوف يختفي عن الكاميرات. ولِمَ لا؟ أليست عُصارة الليمون من مكوِّنات الحبر السِّري؟ فطالما أنه يتجنب الحرارة الزائدة، فسوف يظل مختفيًا عن الأنظار والكاميرات!
لم يكن السيد «ويلر» مجنونًا أو مخمورًا، بحسب ما توصَّل إليه المحققون، وإنما كان رجلاً أخطأ التقدير. ويا له من خطأ!
استرعتْ الواقعةُ انتباهَ البروفيسور «داﭬيد دانِنغ»، أستاذِ علم النفس بجامعة كورنيل، فكلَّف أحد مساعديه - ويُدعى «ﭽاستن كروغر»، طالب الدراسات العليا بالجامعة - بتقصِّي هذه الواقعة. خلُصَ الاثنان إلى نظريةٍ مُفادُها أنه بينما ترتسمُ في مخيلة عموم الناس صورةٌ ذاتية إيجابية عن قدراتهم الذهنية والاجتماعية، ثمة أشخاصٌ يتجاوزون هذا الهامش الطبيعي إلى حدِّ خداع الذات، ورسم صورٍ عن أنفسهم هي أبعدُ ما تكون عن الحقيقة، وتقييم قدراتهم بأعلى كثيرًا مما هي عليه في واقع الحال. هذه «الثقة المتوهَّمة»، التي يُطلَق عليها في بعض الدوائر العلمية «تأثير داننغ-كروغر» (Dunning-Kruger effect)، هي ما تفسِّر ذلك النزوع الإدراكي لدى البعض إلى تضخيم الذات، والمبالغة في تقييم أنفسهم وإمكاناتهم.
ومن أجل تقصِّي هذه الظاهرة، وبحثِها بحثًا علميًّا تطبيقيًا، أجرى الباحثان عددًا من التجارب العلمية الشائقة. ففي دراسة أُجرِيَت داخل إحدى قاعات المحاضرات، طَرَحَا على الطلاب طائفةً من الأسئلة المتنوعة، شمِلَت اللغة والمنطق والأحاجي الفكاهية، وطلبا إلى كلِّ طالب أن يُقيِّم إجاباته، وأن يضع لنفسه ترتيبًا بين أقرانه المشاركين. ومِن عجبٍ أن الطلاب الذين أخفقوا في الإجابة عن معظم الأسئلة، التي ترمي أساسًا إلى قياس مهاراتهم الإدراكية، اختصُّوا أنفسهم بأعلى التقييمات، وبالغوا فيها مبالغةً بعيدة. فما استقر في وعي هؤلاء الطلاب، الذين يمثلون الشريحة الرُّبعية الدُّنيا من حيث عدد الإجابات الصائبة، أنهم أظهروا براعة استثنائية جعلتهم يتفوَّقون على ثلثي الطلاب الآخرين!
هذه «الثقة المتوهَّمة» ليست حبيسةَ قاعات المحاضرات، ولا محدودةً بحدودها. كلا، بل تتجاوزها لتطالَ تفاصيل حياتنا اليومية. ففي دراسة تكميلية، غادر الباحثان مكتبيهما بالجامعة، وخرجا قاصدَين أحد ميادين الرماية، حيث التقيا عددًا من ممارسي الرماية وهواة الأسلحة، ووجَّها إليهم أسئلة تتعلَّق بقواعد السلامة الواجبِ مراعاتُها لدى استخدام السلاح. لم تختلف نتائج هذه الدراسة عن سابقتها، فأصحابُ الرصيدِ الأقل من الإجابات الصائبة منحوا أنفسهم تقييماتٍ سخيَّة، وبالغوا في تقدير معرفتهم بالأسلحة وقواعد التعامل معها مبالغةً شديدة. فإذا ما تخطَّينا حيِّز المعرفة المعلوماتية، التي ترتكز على حقائقَ موضوعيةٍ كتلك التي ركَّزت عليها الدراستان آنفتا الذكر، لَمَا شَقَّ علينا أن نلحظ «تأثير داننغ-كروغر» في تقييم الأشخاص لأنفسهم عندما يتعلق الأمر بغير ذلك من القدرات والمهارات الشخصية. لو أنك من متابعي أيٍّ من تلك البرامج التليفزيونية التي تقومُ على تنظيم مسابقات للمواهب، فسوف تلحظُ تلك الصدمة التي تعلو وجوه المتسابقين حينما يرفضهم المُحكِّمون، ويُعلنون استبعادهم من المسابقة. قد تبدو لنا هذه الصدمةُ هزلية، أو مدعاةً للضحك والتندُّر، غير أنها - في حسبان هؤلاء المتسابقين أنفسهم - أبعدُ ما تكون عن الهزل والضحك؛ إنهم في حقيقة الأمر غيرُ واعين إلى مبلغ التضليل النفسي الذي جَناهُ عليهم شعورُهم الزائفُ بالأفضلية.
والحقُّ أن المبالغة في تقييم القدرات الشخصية أمرٌ شائع، إن لم يكن طبيعيًا. ففي دراسة أجريت على قائدي السيارات، انتهى الباحثون إلى أن 80 بالمائة منهم يرون أن مستواهم في القيادة «أعلى من المتوسط» - وهي نتيجةٌ لا تقبلُها قواعد الإحصاء. وانتهت دراساتٌ أخرى إلى نتائج مماثلة، عندما طُلب إلى المشاركين تقييمُ قدراتهم الذهنية، أو مقدار ما يتمتعون به من قَبولٍ شخصي. الإشكالية إنما تكمُن في أن هؤلاء الذين تعوزُهُم القدرة أو الكفاءة قلَّما يَعُون ذلك، ومن ثم ينتهون إلى استنتاجاتٍ مغلوطة، أو يُقبلون على خياراتٍ خاطئة، أو يتخذون قراراتٍ غيرَ ملائمة. والأنكى من ذلك، والأمضُّ، أنهم يُحجَبون عن رؤية أنفسهم وإمكاناتهم بما هي عليه، فكأنما تُنزع منهم القدرةُ على إدراك أخطائهم والوقوف عليها. في دراسة أُجرِيَت على عينةٍ من الطلاب الجامعيين، استغرق العملُ عليها فصلاً دراسيًا كاملاً، أظهر الطلابُ الأعلى تحصيلاً قدرةً أكبرَ على التنبؤ بمستوى أدائهم في الاختبارات، وما يتلقَّون من تقييمات الأساتذة والمشرفين، وما يتحصَّلون عليه من درجاتٍ وتقديرات. أما ذوو التحصيل المنخفض من الطلاب فكانوا على النقيض من ذلك؛ إذ بدا أنهم غيرُ مدركين لحقيقة وضعهم الدراسي، هذا على الرغم من كثرة ما وُجِّه إليهم من تعليقات وملاحظات دلَّت في جُملتها على أن أداءهم الدراسيَّ لم يكن يرقى إلى المستوى المطلوب. فالأشخاصُ منعدمو الكفاءة أو فاقدو الأهلية لا يُدركون أنهم كذلك. وبدلاً من أن يتولاهم الارتباك والتردد، وبدلاً من أن يثوبوا إلى شيء من التفكُّر والمراجعة الذاتية، إذا هم يُصرُّون أنهم على صواب، وأن طريقهم هو الطريق القويم. ولعلَّنا نتذكَّر هنا قول تشارلز داروين في كتابه «أصل الإنسان»، الصادر عام 1871: "إن الجهلَ أقدرُ من العلم على بثِّ الثقة في النفوس."
ومما تجدُرُ الإشارة إليه أن هذه الظاهرة ليست قصرًا على منعدمي الكفاءة ومحدودي الذكاء؛ الأذكياء أيضًا يعجزون عن تقييم قدراتهم وإمكاناتهم التقييمَ الدقيق. فبقدر ما يميل الطلاب الذين تنحصرُ تقديراتهم الدراسية بين «ضعيف» و«مقبول» إلى المبالغة في تقييم قدراتهم، نلحظ أن المتفوقين، الذين يُحصِّلون أعلى التقديرات، يَجنحون إلى الحطِّ من قدراتهم، أو تقييمها بأقل مما ينبغي لهم. فمن بين النتائج التي رصدها «داننغ» و«كروغر» في دراستهما الرائدة التي أسلفنا الإشارة إليها، أن الطلاب الذين حلُّوا في الشريحة العليا، من حيث عدد الإجابات الصائبة، وضعوا لأنفسهم ترتيبًا متأخرًا نسبيًا قياسًا إلى ترتيبهم الحقيقي. ذلك أنهم افترضوا أنه إذا كانت تلك الأسئلة يسيرةً عليهم، فلابد أن تكون يسيرةً كذلك على أقرانهم، إن لم تكن أيسر. يمكن النظر إلى هذه الظاهرة، التي يُطلق عليها «متلازمة المحتال» (imposter syndrome)، باعتبارها مقابلاً موضوعيًا لـ «تأثير داننغ-كروغر»؛ حيث يعجز المتفوقون عن إدراك قدراتهم ومهاراتهم، ويحسَبون أن الآخرين يتوفَّرون على مثل ما لديهم من أسباب القدرة والكفاءة. بيدَ أنَّ ثمة فارقًا بين الفئتين: فبينما يستطيع الأكفاء أن يُعدِّلوا نظرتهم إلى أنفسهم، إذا ما تلقَّوا التعليقاتِ الخليقةَ أن تعينَهُم على ذلك، يعجز الأشخاص الذين تعوزُهم المعرفة أو الكفاءة عن إجراء مثل هذا التعديل.
ذلك هو السبيل إلى تجنُّب مصير ذلك اللص الأخرق الذي أقدَمَ على السطو على مصرفين متشجِّعًا بقناعٍ من عصير الليمون! إننا نسعى في طُرُق شتَّى، ونبذل محاولاتٍ متباينة، تكون لبعضها نتائجُ إيجابية، أما بعضُها الآخر فيقتربُ - قليلًا أو كثيرًا - من فكرة قناع الليمون: مجرَّدُ محاولات خرقاء، أو غير عقلانية، أو عديمة القيمة، أو محضُ حماقات. العِبرة إنما تكونُ بألا تنطليَ علينا - فضلاً عن أن تتمكنَ منَّا - أوهامُ التفوُّق والأفضلية الزائفة. فما أحوجَنا إلى توطين النفس على مراجعة حدود قدراتنا بين الحين والحين، وما أحوجنا إلى أن نتذكَّر ذلك القولَ الحكيمَ المنسوبَ إلى كونفوشيوس: إنَّ المعرفةَ الحقةَ هي معرفةُ المرءِ بمدى جهله.
تغريد
اكتب تعليقك