دون ديليلو .. العيش في الأوقات الخطرةالباب: مقالات الكتاب
أحمد الماجد العراق |
حريص بقوة على أن يظل مسيره عكس اتجاه الأضواء، فهو لا يكتب إلا للأدب، حتى أنه في كل مؤتمر رغم ندرة حضوره، يحمل بطاقة تعريف على صدره كتب عليها: "لا أرغبُ في الحديث عن أعمالي"، بيد إن الشهرة لا تكف عن مطاردة الزاهدين فيها، ليذيع صيته ويعلو كعبه كمبدع روائي فذ، اختار العزلة طواعية ونأى بنفسه عما يلهث إليه الآخرون، على الرغم من أنه ظل مصرًا على عدم الاعتراف بعزلته: "أنا لست في عزلة ولكن هناك أشياء أفعلها بشكل مختلف، والدعوات أتجنبها مع تنقلاتي الكثيرة هنا وهناك".
من أجل ذلك يعتبر الكاتب الروائي الأمريكي دون ديليلو غير مهتم بجوهر الحياة الأدبية الأمريكية وما يدور في نطاقها، ويذكر جيرالد هوارد محرر رواية "ليبرا" التي كتبها ديليلو أنه كان يجلس إلى جواره في حفل تقديم جوائز الكتاب الوطنية لعام 1985، عندما فاز ديليلو بجائزة عن روايته "ضوضاء بيضاء"، وطُلب من الروائي إلقاء خطاب قبول للجائزة، فانبعث ديليلو واقفًا وقال: "يؤسفني أنني لم أستطع أن أكون موجودًا هنا الليلة، ولكنني أشكركم جميعًا لحضوركم"، ثم عاد إلى الجلوس في مكانه.
هكذا هو المهاجر الإيطالي الذي التحق ببلاد العم سام في العام 1936، والذي ما يزال رغم شهرته الواسعة، يحفظ الجميل للآلة الكاتبة قديمة الطراز "أولمبيا" التي ولدت حروفه الأولى فوقها، والتي هي أيضًا من نقش بأزرارها رواية "ضوضاء بيضاء" في العام 1985 والتي نال من خلالها الاعتراف الرسمي بكونه كاتب روائي عميق ومجدد.
لا تجذبه التكنولوجيا بشتى أشكالها وزخارفها، فهو لا يشاهد التلفزيون إلا ما ندر، لبعض البرامج الرياضية أو الوثائقية، وقد اختار الابتعاد عن كل ما هو إلكتروني حتى بريده، عاش بمحبة مع زوجته المهندسة في نيويورك، حيث صارت هي لهجته الدارجة والتي ينسب إليها بعد مقطع أو مقطعين من أي حديث.
تعد روايات ديليلو صور للعديد من الرموز التي يرسمها عن هموم الإنسان المعاصرة، وبحثه المستمر عن المعنى والمغزى في هذا العالم المضطرب والفوضوي. ويؤكد بنفسه على أنه يمكن اختزال جميع أعماله دون استثناء في فكرة واحدة وهي: "العيش في الأوقات الخطرة"، والتي عبر عنها خلال لقاء أجري معه وقال فيه إن اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي عام 1963 كان بداية الانطلاق في مرحلة الانحدار والعنف في جميع أنحاء العالم. فرواياته بالفعل تشريح للذعر والخوف والقلق في الحياة اليومية الأمريكية، وكتاباته تشير إلى الأشياء، ولا تكشف أغوارها، وهو يؤكد في كل مقابلة له على أن وظيفة الكاتب استشراف المستقبل قبل الآخرين، منهاجه في الكتابة يتسم بالتركيز على أشكال الحروف والكلمات، ويحكم على كل عبارة بمظهرها البصري وكذلك بإيقاعها ووضوحها، فهو يحب مجموعات الكلمات، التي تحيط فيها كلمة بأخرى. ديليلو يبحث عميقًا مثل دوستويفسكي في الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وقد حقق أعمالاً رائعة على مدى حياته المهنية الطويلة والهامة، وألهم قراؤه بتنوع مواضيعه وبراعته الفنية الراقية حبًّا لا حدود له لكل ما هو جميل في هذا الكون، وأبطال رواياته كما يتحدث عنها، حالة أدبية يفرضها التدفق المستمر لمجمل ما يعانيه المجتمع، وردود أفعالهم عن ذلك الكمّ من العنف والدمار، محكوم وبلا معنى في مواجهة النظم المعولمة التي تلتهمهم، وهم عاجزون عن تصوُّر أي نوع آخر من الردِّ على ذلك، إذ تبدو الشخصيات وكأنها مُجْبَرة على تعميم الأدوات الخاطئة الميؤوس منها تلك المتعلقة بالطيش المقبول، وحضور البديهة في محاولة لفهم شيء عن العالم الذي هو في الغالب غير مفهوم، وغير قابل لأن يتاخمه أحد. ويرى ديليلو أن وظيفة الكاتب الاستمرار بالعمل حتى لو لم يحصل على الاعتراف الكامل بكتاباته، فهو يرى أن الفكرة هي بالكيفية التي نحافظ على الرواية ونبقيها على قيد الحياة ولربما سوف تصبح أغلى مما كانت عليه في أيام مجدها وسطوعها.
شهرة ديليلو جاءت بعد ولوجه في مواضيع العنف والإرهاب الذي باتت تشكو منها أمريكا والعالم حيث أخذت كتاباته تتناول ذلك الطابع الذي فرض نفسه بقوة على المشهد الروائي، فقد تناول ضمن ما تناوله من أحداث يعيشها العالم المشاكل التي تعرضت لها اليونان أواخر العام 1970 وأهوال الإرهاب نتيجة لضرب برجي التجارة العالمي في أمريكا الذي أيقظهم فراحوا يفتشون عن منابعه في بقاع كثيرة من العالم، ومنذ ذلك الحين ازدادت قامة ديليلو الأدبية شموخًا إلى حد أن الكتب البحثية التي ألفت حول أعماله تجاوزت عدد رواياته. أهم أعماله: "ضوضاء البيضاء" 1985،"الميزان" 1988 "الرذيلة" 1997، وهي من كلاسيكيات ما بعد الحداثة جنبًا إلى جنب أكثر من اثني عشر رواية أخرى شملت موضوعات عن النزعة الاستهلاكية، الرياضة، الفساد السياسي، الشركات واللحظات الكارثية في التاريخ الحديث، واعتبر ديليلو واحدًا من أكثر الكتاب تأثيرًا في الولايات المتحدة.
ففي "ضوضاء بيضاء" ومن المترجمين من يفضل ترجمتها بضجة بيضاء"، يتناول ديليلو حكاية عالِم جامعي يحدث تسرُّب كيميائي في معْمله يقلب حياته رأسًا على عقب، فيفقد زوجته، إلا أنه يقوم بالاتصال بها روحيًا من خلال ظاهرة إلكترونية صوتية يكتشفها فيما بعد، يشرح تفاصيل الوجود الأمريكي المعاصر، في لغة استثنائية مميزة، والتي ذكر النقاد عنها أنها رواية محفزة ومرعبة وفكاهية، حيث تتلاقى الكوميديا الاجتماعية مع الخيال العلمي والموت، لكاتب في قمة قوته يسعى إلى تحليل الوسائل التي تعمل من خلالها الثقافة الأمريكية على تغريب البشر عن تجاربهم الحياتية. ويقول مترجم "ضوضاء بيضاء" إلى اللغة العربية يزن الحاج، عن أعمال ديليلو: "أهم سمات أعماله هي الكتابة عن الحاضر مع إسباغ سمات غير موجودة فيه، سمات مستقبلية تخيّليّة، أو الإفراط في المبالغة في التوصيف بحيث يبدو الحاضر السردي لديه بمثابة صورة سوداوية للحاضر الفعلي. والأهم أنّ هذه الصورة السوداوية ستتحقق لا محالة، لا بمعنى النبوئيّة، التي يتجنّب توصيف أعماله بها، بل بمعنى دقة الرؤية وجموح الرؤيا، بحيث يمكن قراءة أي عمل له بعد عقود كأنه كُتب بالأمس".
وصل ديليلو مرتين لقائمة الترشح النهائي لجائزة بولتزر للرواية عن عمله "ماو الثاني" في العام 1992، وفازت ذات الرواية في ذات العام بجائزة "بين فوكنر"، وحصد العديد من الترشيحات من قبل الجائزة نفسها عن عمله "الملاك إزميرالد1"، في العام 2012. كما تم منحه جائزة" بين سول" للإنجاز في مجال الرواية الأمريكية في العام 2010، وحصل على جائزة مكتبة الكونغرس للرواية الأمريكية في العام 2013.
قرأ ديليلو لعدد من الكتَّاب وتأثَّر بهم ومن بينهم: جيمس جويس، ويليام فولكنر، فلانري أوكونور، وأرنست همنغواي، الذي كان له تأثير كبير على محاولاته المبكِّرة في الكتابة أواخر سنوات المراهقة، كما تأثر بالموجة الروائية الحداثية، وقد استشهد أيضًا بالتأثير الذي أحدثته موسيقى الجاز، إضافة إلى تأثره بسينما ما بعد الحرب. رواياته تعتبر مرآة للواقع لا للوهم، وعلى الرغم من ذلك لا يعتبر نفسه كما يروج عنه بالكاتب المتنبئ أو المتبصر أو المريض بجنون الشك، لاسيما أن الأحداث التي شهدها في مختلف أنحاء العالم لم تكن من النوع التي تُخشى ألا تقع، وهذه الأحداث هي التي دخلت في تركيبة رواياته، يقتبسها شأنه شأن معظم الكتاب مما يجري حوله، غير إن صفة التنبؤ التي أطلقوها على رواياته إنما تأتي بسبب سعيه الحثيث نحو الحقائق التي لم تجد طريقها كمادة إلى الروايات، وسعيه أيضًا إلى وصف ورسم ما هو غير ملحوظ أو غير ذي أهمية بالنسبة للآخرين، ولكنه موجود هنا وهناك، يعترف أن الخيال هو طريقته في النظر إلى العالم، ويعتبر من وجهة نظره أن الكاتب هو رجل الظلام، حيث إن خياله هو طريقه للنضال نحو دروب الإنسانية والنور والفضيلة.
تغريد
اكتب تعليقك