نصيحة حول كتابة روايةالباب: مقالات الكتاب
ميادة خليل هولندا |
جوزيف كونراد
ترجمة: ميادة خليل
1905
"لم أقرأ كتب هذا الكاتب، ولو قرأتها لنسيت عمّا تدور حوله"
ورد أن هذه العبارة قد تم النطق بها بيننا منذ وقت ليس طويل، علنًا، في المحكمة، ومن قبل قاض مدني. تحظى عبارات حكّامنا المحليّون بالإجلال والاهتمام بقدر أكبر عن سائر البشر. ذاك أن حكّامنا المحليّون يمثلون أكثر من أي فئة أخرى من المحافظين والمدراء مقياسًا لمتوسط الحكمة، والمزاجية والإحساس والفضيلة في المجتمع. ولابد أن هذه العبارة العامة التي قيلت بحزم لصالح العدالة الأبدية (ولصالح صداقة حديثة العهد) لا تسري على الولايات المتحدة الأمريكية، فهناك؛ في حال صَدّق المرء السخط البائس طويل الأمد في صحافتها الأسبوعية واليومية، يظهر أن غالبية الحكّام المحليين لصوص من نوع خاص متعذر السيطرة عليهم. إلا أن هذه نقطة جانبية في الموضوع. ما يقلقني هو أن هذه العبارة قد صدرت من قبل جماعة ثرية وجليلة ذات طبيعة وسطيّة وحكمة وسطيّة، ونطق بها جليًا حاكم مدني دون خوف ودون لوم.
أُقرّ أن مزاجه ذا الطابع المتحرز قد سرّني؛ "لم أقرأ الكتب" ثم يضيف مباشرة بالقول: "ولو قرأتها لنسيتها"؛ إنه تحذير متقن. ولقد أحببت أسلوبه غير المصطنع المنطوي على سمة من الصدق الرجوليّ. وكمثل قراءة نص نثري، فإن من السهل قراءة هذا التصريح وليس من الصعب تصديقه. ذاك أن الكثير من الكتب لم تُقرأ، والأكثر منها قد تم نسيانه. وكونه نص خطابي مدني فإن هذا التصريح مؤثر على نحو مدهش. معّد بدقة ليتوافق مع قدرة الفكر الرائج، وضليع بكل شكل من أشكال النسيان. تتضمن هذه العبارة أيضًا القدرة على تأجيج انفعال أَريب فيما تُشغّل سلسلة من الأفكار؛ وأي قوة أعظم يمكن توقعها من الخطاب البشري؟ لكن من الطبيعي أن يكون هذا التصريح مبهج للغاية، لأن من الطبيعي أن ينسى مسؤول محلي جليل الكتب التي قرأها ربما فيما مضى ـ منذ فترة طويلة ـ في عهد شبابه الطائش.
والكتب المعنية في التصريح هي روايات، أو كُتبت على أنها روايات. لذا أواصل الحديث حذرًا (أسوة بمثالي معرض الحديث) ولكي أتجنب الخوف ورغبة مني في الاستمرار دون لوم قدر المستطاع؛ أعترف بأني لم أقرأ هذه الكتب.
لم أقرأها؛ ومن بين مليون شخص أو أكثر صرحّوا قراءتهم لها، لم ألتقِ حتى الآن شخصًا واحدًا موهوب في تقديم شرح واضح ومفهوم ومتطور كفاية ليمنحني فكرة متصلة بالموضوع الذي تدور حوله الكتب. لكنها كتب؛ جزء لا يتجزأ من الإنسانية، ونظرًا لجمهورها المتباري والمتزايد، فإنها تستحق الاحترام والإعجاب والتعاطف.
التعاطف على وجه الخصوص؛ فقد قيل قديمًا أن للكتب مصيرها الخاص الذي يشبه إلى حد كبير مصير الإنسان. إذ تشاطرنا الكتب شكنا العارم بالعار أو المجد؛ العدالة المتزمتة والاضطهاد النزق، الافتراء وسوء الفهم، والخجل من نجاح غير مستحق. الكتب هي الأقرب إلينا من بين جميع الجمادات، ومن بين جميع الإبداعات البشرية، لأنها تحوي بين طياتها فكرنا وطموحاتنا وسخطنا وأوهامنا، ولائنا للحقيقة، وميلنا الدائب إلى الخطيئة. لكن الأهم من كل ما ذُكر هو تشابهها معنا في كونها لا تحكم قبضتها على الحياة. فالجسر الذي بُني وفقًا لقواعد الفن المتعلق ببناء الجسور هو بلا ريب نتيجة سيرة طويلة ومشرّفة ونافعة. إلا أن الكتاب الجيد مثله مثل الجسر؛ قد يهلك على نحو مبهم في يوم ولادته؛ لأن أسلوب مبدعه لم يكن كافيًا لمنحه حياة أطول. والكتب التي تولد من ضجر وإلهام وخيلاء عقول البشر؛ تلك الكتب التي تفضلها آلهة الإلهام أحرى بها أن تظل مهددة أكثر من غيرها تحت وطأة موت مبكر. ستنقذهم عيوبها أحيانًا. وأحيانًا أخرى قد يُعد الكتاب "المقبول" ــ ها أنا استخدم تعبيرًا متغطرسًا ــ كتابًا لا يتمتع بروح فريدة. فمن الواضح أن كتابًا من هذا النوع لا يمكن أن يموت؛ عدا أن يتفتت إلى غبار. إلا أن أفضل الكتب هي تلك التي تستمد قُوُتها (أسباب عيشها) من عطف وذاكرة البشر الذين عاشوا على شفى الهاوية؛ لأن ذاكرة البشر قصيرة، وعطفهم ــ علينا الاعتراف بذلك ــ إحساس متقلب ومجرد من الأخلاق.
لا يمكن العثور على سر لنيل الحياة الأبدية لكتبنا بين وصفات الإبداع، ولا لأجسادنا بين مجموعة أدوية موصوفة. ليس ذاك لأن بعض الكتب لا تستحق حياة أبدية، بل لأن وصفات الإبداع تعتمد على عوامل متغيّرة وغير مستقرة وغير جديرة بالثقة؛ إنها تعتمد على عطف البشر، وعلى الأحكام المسبقة، وعلى الحب والكراهية، وعلى شعور الفضيلة وشعور الانضباط، وعلى المعتقدات والنظريات الغير قابلة للفناء في حد ذاتها ودائمًا ما تغيّر من شكلها وغالبًا على مدى حياة جيل واحد عابر.
من بين جميع الكتاب فإن الروايات التي لابد أن آلهة الإلهام تعشقها، دافعت دفاعًا جادًا عن أحاسيسنا. فحرفة الروائي بسيطة، إلا أنها في الوقت نفسه الأكثر تمويهًا من بين جميع الفنون الإبداعية، والأكثر عرضة للتعتيم بسبب وساوس مؤلفيها والمعجبين بها؛ إنه القدر الأسمى المكتوب لجلب الشقاء إلى عقل وقلب الفنان. كما أن إبداع عالم ليس بالمهمة البسيطة، ما عدا ربما لمن يتمتع بموهبة إلهية. وفي الحقيقة، يجب على كل روائي البدء في ابتداع عالم خاص به، معقد أو بسيط؛ عالم يستطيع أن يصدقه هو بكل أمانة. هذا العالم الذي لا يمكن إبداعه بصورة مختلفة عن صورته الخاصة؛ من المقدر له أن يبقى شخصي وغامض بعض الشيء، ومع ذلك يجب أن يتشابه مع شيء مألوف لتجربة وأفكار وأحاسيس قارئه. ففي جوهر الأدب القصصي ــ حتى الأقل جدارة بهذه التسمية ــ يمكن العثور على ما يشبه الحقيقة ــ ويا حبذا لو أن الحقيقة مجرد حماسة صبيانية مصطنعة في لعبة الحياة كما هو الحال في روايات ألكسندر دوما الأب. غير أن الحقيقة المنصفة عن هشاشة البشر يمكن العثور عليها في روايات السيد هنري جيمس. أما الحقيقة الفكاهية المرّوعة عن جشع البشر المنبجس بين أنقاض الوجود فتعيش في العالم الشنيع الذي ابتدعه بلزاك؛ ذاك أن السعي وراء السعادة بواسطة طرق شرعية وغير شرعية؛ عن طريق الاستسلام أو التمرد، بواسطة الخداع الحاذق فيما يتعلق بالمعاهدات، أو عن طريق التشبث الجاد بأطراف آخر النظريات العلمية؛ هو الموضوع الوحيد الذي يستطيع الروائي تطويره على نحو شرعي؛ لأن الروائي هو المؤرخ لأحداث مغامرات البشرية وسط مخاطر العيش في مملكة الأرض. ومملكة هذه الأرض ذاتها؛ الأرض التي تقف فوقها شخصياته، وتتعثر، أو تموت، لابد أن تنضم إلى مشروعه المدون في سجله المعتمد. وأما الإحاطة بكل ما سبق في مفهوم مُتّسق فهو عمل بطولي عظيم، وحتى محاولة إحداث هذه الإحاطة عمداً وبنية جادة ــ وليست نتيجة تحريض وسوسة عبثية في قلبٍ جاهل ــ هو تطلعٌ مشرّف. لأن الأمر يتطلب بعض الشجاعة للخطو نحوه بهدوء فيما يحرص الحمقى على الاندفاع. وبصفته روائي فرنسي بارز وناجح أبدى ملاحظة ذات مرة حول رواية "قلب الظلام".
لابد أن يشك الروائي بقدرته على التعامل مع مهمته؛ إنه أمر طبيعي؛ إذ يتصوّر بأنها أضخم مما هي عليه. ورغم أن الإبداع الأدبي هو الشكل الوحيد من الأشكال المشروعة من النشاط البشري الذي لا تظهر قيمته إلا باستبعاد الاعتراف الكامل بجميع االنشاطات الأخرى الأكثر تميزًا، فإن هذا الشرط يُنسى أحيانًا من قبل الكاتب الذي غالبًا ما يميل إلى ادعاء امتلاكه موهبة استثنائية في السيطرة على جميع المهام الأخرى للعقل البشري، خاصة في مرحلة شبابه. ولعل تراكم النثر والشعر يلتمع هنا وهناك في عقله مع وهج شرارة سماوية، إلا أن نتاج الجهد البشري ليس ذا أهمية خاصة. كما لم يعد ثمة شكل مُبرر لوجوده يتعدّى أهمية الإنجازات الفنية الأخرى. ومقدّر له أن يُنسى مثل بقية الإنجازات دون ترك أي أثر يُذكر. وحيثما يتمتع الروائي بامتياز شرف الحرية على العاملين في مجالات فكرية أخرى؛ حرية التعبير وحرية الاعتراف بمعتقداته القلبية، يتوجب مواساته جراء عبوديته الشاقة للقلم.
يجب أن تكون حرية الخيال أثمن قيمة يمتلكها الروائي. ذاك أن محاولة الكتابة الحرّة طوعًا كشف العقائد الجامدة لبعض مذاهب الرومانسية أو الواقعية أو الطبيعية عن إيحائها الخاص هي خدعة يستحقها العناد البشري، الذي بعد ابتداعه أمور لا جدوى منها، سعى إلى العثور على أصل لها بين أسلافه المتميزين. إنه عجز العقول المنقادة؛ فحين لا تكون الحرية أداة ماكرة بيد أولئك غير الواثقين بموهبتهم، سيتم إضافة بريق لها عن طريق سلطة المذهب. كما فعل كبير الكهنة الذي أعلن بأن ستاندل هو نبي المذهب الطبيعي. رغم أن ستاندل نفسه لم يكن ليقبل أي قيود تُفرض على حريته. لأن عقل ستاندل من الطراز الأول. ولا بد أن روح الرب في الأعلى تستشيط غضبًا الآن ضد الازدراء والسخط الستاندلي الاستثنائي. ففي الحقيقة هناك أكثر من نوع واحد من الجُبن الفكري يتوارى خلف العبارات الأدبية. ولأن ستاندل شجاع في المقام الأول، كتب بروح تحررية لا تعرف الخوف روايتيه العظيمتين، اللتان قرأهما قلة من الناس.
يجب ألاّ يُفترض أني أطالب بحرية العدمية الأخلاقية للكاتب في مجال الأدب القصصي. بل سأطلب منه جُملة من العبادات في طليعتها التعلق بأمل لا يموت؛ ورجاء يضم كل ما يخص التقوى من مثابرة وتخلي. وأما الثقة التي قذفها في قلوبنا الرب تجاه قوة السحر والإلهام فهي شكل ينتمي إلى الحياة على هذه الأرض. فنحن نميل إلى نسيان أن سبيل التفوق يكمن في الخضوع الفكري، تمييزًا له عن الخضوع العاطفي. وإن تعبير المرء صراحة عن شعوره بالحرمان على نحو يائس ما هو إلا انعكاس لجبروته. يبدو الأمر كما لو أن الإبداع قد صنعه عدد من الرجال في أزمان مختلفة، ذاك أن هناك الكثير من الشر في العالم كان مصدرًا للفخر والابتهاج الشيطاني حتى لبعض من الكتّاب العصريين. هذا المزاج غير ملائم للتعامل مع أدب القصّ؛ إنه يمنح الكاتب ــ والرب وحده يعلم السبب وراء ذلك ــ شعور بالزهو لتفوقه. ولا شي أكثر خطورة من شعور الغبطة لذلك الولاء المطلق تجاه مشاعر وأحاسيس يتوجب على الكاتب ادخارها إلى أكثر لحظاته الإبداعية بذخًا.
لكي تكون متفائلاً بالمعنى الفني، لا يتحتم عليك الاعتقاد أن الكون خيّر؛ بل يكفيك الإيمان بأن جعله خيّرًا ليس أمرًا مستحيلاً. إذ قد تسمح الفكرة الخيالية بارتقاء العديد من الأخلاقيات الحالية بين البشر إلى مستوى أفضل، إلا أن الروائي الذي يعتقد بأنه ذا روح تسمو على أرواح البشر الآخرين، يفتقد إلى أهم شرط يخص مهنته؛ إذ أن امتلاك موهبة الكلمات ليس بالأمر العظيم. إن الشخص المجهز بسلاح بعيد المدى لن يصبح صيادًا أو محاربًا بمجرد امتلاكه سلاح ناري؛ فهو بحاجة إلى مميزات شخصية ومزاجية عديدة تجعل منه صيادًا أو محاربًا. وأما إذا أصابت إحدى عبارات ذخيرته الهدف المراوغ بعيد المدى للفن من بين ربما مئة ألف، فسأطلب منه منح بفضائل البشر الملتبسة اهتمامًا خاصًا عند تعامله معهم. وألّا يكون جازعًا في التعامل مع عيوبه الطفيفة والسخرية من آثامها. وألّا يتوقع الكثير من الامتنان من تلك البشرية التي مصيرها ـ الممثل بالأفراد ــ مكشوف أمامه وما عليه إلا وصفه على أنه مضحك أو رهيب. كما آمل منه النظر بتسامح كبير إلى أفكار البشر وتحيزاتهم الناتجة من الضغينة بلا شك، وتعتمد على تعليمهم ووضعهم الاجتماعي وحتى مهنهم. يجب ألّا يتوقع الأديب الجيد أي تقدير لجهده ولا إعجاب بعبقريته. ذاك أن تقييم جهده قد يتم مع الحرج وأما عبقريته فقد لا تعني أي شيء للأميّين، حتى بشأن الحكمة المروعة التي يتبنونها فيما يتعلق بالبعث بعد الموت، فإنهم لا يفضلّون سوى التفاهة والابتذال. كما آمل منه توسيع تعاطفه عبر المتابعة المتأنية والحنونة فيما تزداد قدرته العقلية. التعاطف يكمن في التعامل الموضوعي مع الحياة، فذاك الذي يمكنه الوفاء بوعده الوصول إلى المثالية فيما يخص فنه بدلاً من محاولة فرض تلك أو هاتيك الطريقة المحددة من التقنية أو التصور عبر عبارات غير معقولة، دعوه يُنضج قدرته التخيليّة وسط كل الأمور التي تجري على هذه الأرض، التي من مهمته أن يرعاها ويعرفها، والامتناع عن مناشدة السموات لإنزال إلهام جاهز من مثاليات يجهلها تمامًا. كما لا ألومه على وهم التعاظم الذي يصيب الكاتب أحيانًا: الوهم بأن إنجازه يضاهي تقريبًا عظمة حلمه. لأن ما يمكن أن يمنحه السكينة والقوة ليضمه إلى صدره كما يضم شيئًا مبهجًا وإنسانيًا؛ والفضيلة والسداد والحكمة من قبل مدينته، هو تصريح معلن ببلاغة متواضعة من قبل مشرّع جليل: "لم أقرأ كتب هذا الكاتب، ولو قرأتها لكنت نسيتها ..."
المصدر:
The Collected Works of Joseph Conrad, letters
تغريد
اكتب تعليقك