الأسس النفسية لسلوك النصيحة بين الإبداع والنقدالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-08-23 18:47:55

د. خالد بن ناهس الرقاص

أستاذ علم النفس المشارك - وكيل كلية المجتمع للشؤون الأكاديمية

يُعد فهم آليات النقد والإبداع مقدمة ضرورية لصياغة إستراتيجيات للتوجيه الإيجابي للنصيحة في مجتمعنا. ومن هنا فإن المهمة الأساسية المناط بهذا المؤتمر تتمثل في الوقوف على الأبعاد والمنطلقات الفكرية والثقافية الكامنة وراء النصيحة، بوصفها مهارة اتصالية ومحدّدة لمسار العلاقة مع الآخر.  وفي هذا الإطار فإننا نأمل أن تضيف هذه الرؤية لبنة في مضمون فهم النصيحة كوسيلة اتصالية وسبلها تنميتها، ومن ثم، سلوك الآخر كأساس ضروري للتعامل البناء معه في إطار تقديم النصيحة. وحري بالذكر أن اهتمامنا سينصب فيها على التفكير الإبداعي  والناقد كوجه إيجابي من أوجه النصيحة، والوقوف على مبررات الاهتمام بالتفكير الإبداعي الناقد كمدخل إلى الإسداء الحكيم للنصيحة، يضاف إلى ذلك أن تلك المعرفة ستمكننا من توجيه النصيحة في المسار الإيجابي للآخر بالصورة التي تجعلها أيسر فهمًا، وأمضى تأثيرًا لتعديل سلوكه.

 

يُعد السلوك الاجتماعي الإيجابي موجهًا لشتى مجالات حياتنا اليومية. ومن أبرز تلك السلوكيات اليومية سلوك النصيحة بوصفه قد يسهل تعايش الآخرين بعضهم  بعض؛ لذا تحظى النصيحة باهتمام العديد من الباحثين والمفكرين الإسلاميين في سبيل استثمارها في الوجهة المرغوبة. وتتمثل النصيحة في أبسط معانيها في تعريف إجرائي قوامه محبة الخير للمنصوح ودرء الشر عنه في أمور دينه ودنياه وأخراه ، فهي حق من حقوق المسلمين، وواجب متبادل يجب شيوعه بينهم.كما يمكننا النظر إلى  النصيحة بوصفها سلوكًا موجهًا نحو فرد أو جماعة بهدف تغيير اتجاهاتهم أو تعديل سلوكهم لدفع الضرر القائم أو المتوقع حدوثه. وبذا تنطوي النصيحة على المبادرة لتقديم الرأي والمشورة الصادقة لمن يحتاجها بوصفها مبدأً إسلاميًّا أصيلاً (سعيد الرقيب،2008). وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام لب الدين النصيحة فقال: " الدين النصيحة" قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم "1 .

ونجد أن الصحابة رضي الله عنهم قد فهموا المراد من حديث النبي، فطبقوه واقعًا عمليًّا، فعن جرير رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله عليه  الصلاة والسلام على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم"،  فكان – جرير - إذا اشترى شيئًا أو باعه يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناكه فاختر"2.

قال ابن حجر في بيان النصيحة للمسلمين:" والنصيحة لعامة المسلمين الشفقة عليهم والسعي فيما يعود نفعه عليهم وتعليمهم ما ينفعهم وكف وجوه الأذى عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه"3. بمعنى آخر أن النصيحة تحمل دلالة أوسع تشمل الاستشارة والإرشاد والتوجيه والعلاج انطلاقًا من دلالة الحديث النبوي الشريف.

وفيما يتصل بالأسس النفسية والفكرية القائمة على تقديم النصيحة وتقبلها بوصفها بعدًا نقديًّا إيجابيًّا:  

سواء كانت النصيحة موجهة من الآخرين، أو للآخرين، فهي وسيلة مهمة لتقييم وتطوير القدرات ورأب الثغرات على كل من المستوى الشخصي والمجتمعي، ويتطلب توجيهها أو تقبلها أن يتحلى الفرد بعدد من الآليات التي قد تكفل له الاستخدام الأمثل حتى تصبح أكثر فعالية؛ لذا يجب تبني مجموعة من الأسس تتمثل فيما يلى:

 

1. أسس تقديم النصيحة:

- الهدف من توجه النقد أو النصح للآخر يتمحور في  السعي نحو تحقيق هدف واحد من الأهداف الثلاثة التالية:

أ‌. أن يفعل شيئًا ما بطريقه أفضل.

ب‌. أن يتوقف عن فعل شيء غير مرغوب.

ج. أن يفعل شيئًا ما لم يقم بفعله.

- يجب الابتعاد عن التعبيرات التقيمية فهي تثير مشاعر الآخر وردود فعله الدفاعية، وبدلاً من أن تقول لصديقك (منظرك بهذا الشماغ سيء) قل (سيكون منظرك أفصل في غيرها). ويعزى ذلك إلى أن وضع الشخص موضع اللوم شيء غير محبب، بل يجعله أكثر ميلاً لاتخاذ سلوك دفاعي – عدواني. وهنا ينبغي التمييز بين كل من النقد والعدوان والشك المرضي، فعلى سبيل المثال يتمثل الفارق الرئيس بين النقد والعدوان في أن الأول مواجهة نحو نقد الفعل ونقد الأفكار التي يطرحها الآخر لتنفيذها وتقييمها، أما في العدوان فإن الهجوم ينصب على الفاعل لا على الفعل. أما فيما يتصل بالفارق الجوهري بين النقد والشك المرضي (غير المبرر)، فيتمثل بأن الفرد في حالة النقد يتعمد على معايير منطقية في إصداره الحكم، في حين الشك المرضي قائم على توقعات غير عقلانية ليس لها أساس منطقي، فليس هنالك سقف للشك مما يجعل الفرد يتشكك في المسلمات كالثوابت الدينية التي يقوم على أساسها المجتمع، وهذا شيء لا نرغبه بالطبع.

- لا تقدم تعبيرات عدائية تحط من قيمة الآخر، فعلى سبيل المثال لا تقل له:(أنت لا تحسن صنع شيء) ولكن قل له:(يجب عليك تنفيذ ما أطلبه منك حرفيًّا في المرة القادمة) أو (إن هذه المناقشة عديمة النفع) بل قل له: (أشعر أنني لم أستفد من هذه المناقشة)، وإذا شرحت لفرد شيئًا ما، ولم يفهمك لا تقل له: (إن كل الناس يفهمونني فلماذا لا تفهمني أنت؟) فهذا مثير لاستيائه، ولكن قل له: (ماذا تجده غامضًا في كلامي لأزيده وضوحًا).

- احرص على العبارات الموجهة مباشرة نحو الهدف، وليست السلبية، فلا تقل لمن يغضبك مثلاً: (إن سلوكك سيء ومرفوض) ولكن قل له: (أعتقد أن سلوكك هذا يحول دون توطيد علاقتنا).

- تجنب عبارات التهديد والوصاية، فلا تقل له: (إذا لم تفعل كذا لن أفعل كذا). تجنب العبارات التي تظهر مظهر الوصاية على الآخر، فلا تقل له: (يجب أن تفعل أو يجب ألا تفعل).

- النصيحة في السر وليست على رؤوس الأشهاد، وإلا أصبحت فضيحة لا نصيحة، فقد أورد عن الفضيل قوله: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يتهك ويعير (أي يفضح)" لذا فالنصيحة يقترن تقديمها في كثير من الأحيان سرًّا في حين الفضيحة تقترن بالإعلان (الحافظ زين الدين الحنبلي، 1988).

- ينبغي فهم السياق الذي يحدث فيه السلوك قبل إصدار حكم من الأحكام (Naumann,2011)

- حدد التغيير المطلوب في سلوك الآخر بوضوح حتى يعرف ماذا عساه أن يفعل، لكي يكون أفضل حالاً، كأن تقول له: فضلاً توقف عن ممارسة السلوك (أ) (مخاطبتي بطريقه سوقية), ومارس السلوك (ب) (خاطبني بطريقة مهذبة).

- أشعر الطرف الآخر  بأنك تريد مساعدته، وأظهر له أن سلوكك يحكمه مبدأ حُسن النية، فالآخر قد يغفر لك سوء الرأي، لكن من النادر أن يغفر لك سوء النية (نقلًا محمد أبو رزيزة، 2009).

 

2. فنيات تقبل النصيحة:

- تقبل نصيحة الآخر لا يعنى أن تقبلها بالضرورة، والمقصود هنا أن يتسع صدرك للإنصات لنقد الآخرين، غير أنك غير مطالب بالاستجابة لكل ما يوجه إليك من نقد، وإلا تحول الموقف إلى الوصاية بمعنى وجود طرف منقاد وآخر يملي إرادته. بل تقبل من حيث المبدأ النقد الذي يطرحه الآخر. وأشعره أنك تتفهم ما يقول، وتقبل دوافعه لذلك، ولكن لا توافق على الفعل السلوكي الذي يقدمه بصورة حرفية, وهذا لا يمنع من تنفيذ ما ترى أنه مناسب لك، فكما تقول الحكمة" أن أعين الآخرين مرآة عيوبنا" (جبرائيل سكاف، 1985، 40). وقد قيل في الأثر: "تقبل النصيحة بأي وجه، وأدِّها على أحسن وجه". فقد ورد أن رجلاً قال للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتق الله يا ابن الخطاب. فضاق بعض الحاضرين  من هذا، فقال عمر: دعوه، والله لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها.

- يجب أن تشعر الآخر أن أحكامك قابلة للمراجعة حتى يقبل على التحاور معك. وتذكر أن شعور الآخر أنك متضايق منه سيجعله يمتنع عن ذلك إن كان حريصًا على عدم فقدانك، ومن ثم ستخسر النصيحة الأمينة والعين الثانية التي ترى عيوبك حتى تتجنبها. ولا يفوتنا هنا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه"رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي".

- تذكر أن وقت، وأسلوب، الشخص الموجهة إليه النصيحة، يحددان مدى فعاليته، أن التحديد التدقيق للتوقيت الذي يوجه فيه النصيحة يرفع من تأثيرها، والعكس صحيح، فلا تنقد أو تنصح شخصًا أمام الآخرين، أو وهو يشعر بالضيق، أو عندما يكون محتاجًا لمساعدتك. ويعين علينا هنا الالتزام بحكمة الإمام الشافعي الشهيرة " من وعظ أخاه على الملأ فقد فضحه وشانه، ومن وعظه في السر فقد نصحه وزانه"(عبدالغني الدقر، 1988)، فالنصيحة كالدواء الجرعة الزائدة تقتل، بمعنى أن تمارس التلطيف في توجيه النصيحة بوصفه ذا فائدة أكبر قياسًا بالنصح المكثف.

- شجع الآخرين على توجيه النقد الإيجابي وتحمل النقد منهم، فالنقد قد ينطوي على جانب من الصواب قد يكون غائبًا عن الفرد مما يجعله مدخلاً لتنمية قدراته وتوجهيها في الاتجاه الصحيح، مع حرص الفرد على تقديم عائد للناقد حول ما يسمع يتضمن ملاحظات حول الطريقة التي عبر عما يريد قوله، مما يفيد الآخر في إدخال تعديلات مستقبلية على طريقته في توجيه النقد للآخرين" أفكارنا تصبح أكثر نضجًا عندما تتجاوز عتبة شفاهنا" (جبرائيل سكاف، 1986، 226)، وليكن شعارك قوامه "أن من ينقدك كأنه ينقذك من الغرق في الخرافات".

-  تعلم مهارات الإنصات من منطلق أنها تعد بابًا ملكيًّا للحصول على الخبرة من الآخرين، وتفهمهم، والتعاطف معه، ومن ثم إسداء النصح والمشورة لهم. وتتمثل مهارات الإنصات في قدرة الشخص على تلخيص ما تم فهمه من حديث للطرف الآخر، بما يحويه من معارف مفيدة، تعد ذات أهمية خاصة في فهم الحوار.

- قدم عائدًا للناقد (الناصح) حول ما قال يتضمن ملاحظاتك نحو الطريقة التي عبر بها عما يريد قوله، وتأثيره الإيجابي، والسلبي عليك حتى يدخل بعض التعديلات مستقبلاً حول طريقته في توجيه النقد للآخرين، أو لك، وأن يحدد بصوره أدق ما الذي فعله واستدعى توجيه النقد له, وادعه لتقديم تصور إجرائي حول ما يمكن عمله حتى تنتفي مبررات النقد مستقبلاً.

خاتمة:

يجب علينا التحلي بضوابط وآداب النصيحة كأن يقصد الناصح الحق، وأن يبتعد عن الخلط أو المغالطة، والعناية بحدود الألفاظ والتحلي بالإنصاف والانضمام للحق، والابتعاد عن التقليد أو التعصب مصدقًا لأمر الله تعالى لسيدنا موسى وأخيه هارون عليهما السلام بنصح فرعون قائلاً جل جلاله: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) طه: 44، فضلاً الالتزام بالممارسات الحكيمة للنصيحة والنقد حتى لا يتحول النقد أو النصيحة إلى ضرب من ضروب الشك والتشهير والوصاية على الآخر، فالنقد والنصيحة عندما يفقدان التوجيه الأخلاقي الحكيم يعدان غاية في حد ذاتهما ليس إجراء أو عملية توجيهية نرغب في جني ثمارهما.كما يجب علينا في هذا الإطار اعتبار منظور الآخر، وسلوكه، ودوافعه سواء كان فردًا أم جماعة أم ثقافة، بوصفها مهارة ضرورية لإقامة علاقات متزنة، وواقعية معه، وأكثر إثمارًا أيضًا، فضلاً عن أنها مقدمة لازمة للتعايش مع الآخر فقد ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قوله: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) المائدة: 105 وإني سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابه". مسند أحمد: 1/36

يبقى أن نشير إلى أن المكاسب التي يحققها الفرد من ممارسته للنقد لابد أن تتصف بقدر من الحكمة، حيث أن النقد المركز قد يؤدي إلى توتير علاقة الفرد أصدقائه حين يوجه لهم النقد، وهو ما لا نرغبه؛ لذا يجب أن يكون الفرد على وعي بذلك فالنقد كدواء يؤخذ بجرعات محددة, وألا يصبح سيفًا مسلطًا على رقابنا بدلاً من أن يكون في أيدينا لاستخدامه عند الضرورة، ينطبق على من يمارس النقد المكثف دائما قول الجاحظ: "لو تأملت أحوال الناس لوجدت أكثرهم عيوبًا أشدهم تعييبًا"،  فكما يقول ديكارت" لا  يكفى أن يكون لديك عقل (ناقد) جيد، بل الأهم أن تستخدمه بشكل جيد". 

 

 

 

الهوامش:

(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم ( 55 ).

(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (56) ، وابن حبان في صحيحه رقم (4546) ، واللفظ له.

(3) فتح الباري 1/137.


عدد القراء: 7871

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-