السيوطي .. أنمـوذجُ العالِم المُـشارك في التراث العـربي الإسلاميالباب: مقالات الكتاب
د. فريد أمعضـشو باحث مغربي |
نطالع ونسمع كثيرًا بأن فلانًا متخصِّص، مثلاً، في الشعر، أو النقد، أو الفقه، أو القانون، أو غيرها من ميادين المعرفة والإبداع. بل إنّا نجد بعضَهم متخصّصًا فيما هو أدقّ؛ كأنْ يتخصص في طبّ العيون، أو في دراسة شعر التفعيلة، أو في زكاة الأنعام، أو في غيرها من المجالات العلمية والأدبية والفنية الدقيقة .. إن الأمر يتعلق بظاهرة التخصُّص العلمي التي يراها الكثيرون ذات فائدة عميمة مِنْ مُنطلَق أن المُشتَغِلَ بعلمٍ ما، حَصْرًا، يكون عطاؤه فيه أوفر، ويكون خَوضُه فيه أنجع وأعمق، بخلاف مَنْ يُسْهِم في مجالات عدة إسهامًا يُشتِّتُ جهدَه، ويجعل مردوده أضعفَ وأقربَ إلى السطحية في نظرهم، ظانِّينَ – ربما – أن العالِم غير مستطيعٍ التمكنَ من علوم عدة! وإذا عُدْنا إلى تاريخ أمتنا العلمي محاولين التعرفَ إلى سِيَر علمائنا الأجلاّء، فسنُلْفي أنهم كانوا – في الغالب – لا يُقصِّرون اهتمامَهم على علم من العلوم، بل كانوا يخوضون في جملةِ ميادين معرفية، قلَّ عددُها أو كثُر، ويؤلفون فيها كتبًا ورسائلَ. لذا، تجد الواحدَ منهم أديبًا، وفقيهًا، وفلَكيًا، وطبيبًا... وهذا ما يعبِّر عنه أصحابُ التراجم القدامى بلفظ "المُشارِك"، أو ما يعبَّر عنه – حديثًا – بمصطلح "المَوْسُوعي". والأمثلة على ذلك من الوفرة بمكان في تراثنا العلمي الغنيّ، ولعلّ من أبرزها حالة جلال الدين السيوطي، رحمه الله، علاّمة عصره، وفريد دهره، ونابغة مِصْره... التي تقوم دليلاً خِرِّيتًا على أننا عرفْنا أنموذج "العالم المشارك" قبل أن يظهر، بقرون كثيرة، ما سُمّي بـ"المَـوْسوعيّين" (الأنسِكْلُوبيديّين) بفرنسا، خلال القرن الثامن عشر (عصر الأنوار)، الذين كتبوا في ألوان عديدة من المعرفة؛ كما قال د. أحمد عزّت عبد الكريم.
يَلْفتُ انتباهنا، لدى الاطلاع على مَنَائِر التراث العلمي الذي خلّفه أسلافنا، على امتداد الأعصر والأزمان، ظاهرة ترجمية تستحقّ منا الوقوف عندها، ودراستها دراسة تحليلية ومقارنة، وهي ترجمة العالِمِ أو الأديب لنفسه؛ الأمر الذي يقوّي فرضية ظهور فن السيرة الذاتية (الأوتوبيوغرافيا) في تراثنا الأدبي، أو على الأقل انطوائِه على إرهاصاته وبذوره. فقد عمد مجموعة من علمائنا، قديمًا، إلى كتابة سِيَرهم بأنفسهم إمّا في أحياز محددة داخل كتبهم؛ على نحْو ما فعل ابن الخطيب السَّلْماني (ت 776هـ) في آخر كتابه الموسوم بـ"الإحاطة في أخبار غرناطة"، وإما في كتب مستقلة؛ كما فعل السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" (جزآن)، وفي كتابه "التحدث بنعمة الله" (جزء واحد). وإن السيوطي، بمُباشَرَته هذه الترجمة الذاتية، كان على علمٍ بأنه يقلد علماء سابقين فعلوا الشيءَ نفسَه، ولاسيما في مجال الكتابة التاريخية، وبأنه ليس مُدشِّنَ هذه العادة في الثقافة العربية الإسلامية؛ إذ قال في "حسن المحاضرة": "وإنما ذكرْتُ ترجمتي في هذا الكتاب اقتداءً بالمحدثين قبلي، فقلَّ أن ألّف أحدٌ منهم تاريخًا إلا وذكر ترجمته فيه. وممّنْ وقع له ذلك الإمام عبد الغفار الفارسي في "تاريخ نيسابور"، وياقوت الحموي في "معجم الأدباء"، ولسان الدين بن الخطيب في "تاريخ غرناطة"، والحافظ تقيّ الدين الفارسي في "تاريخ مكّة"، والحافظ أبو الفضل ابن حجر في "قضاة مصر"، وأبو شامة في "الروضتين"، وهو أرْوَعُهم وأزهدهم". (1/335 – 336) ونضيف إلى هؤلاء المذكورين، هنا، ابن خلدون الحضرمي (ت 808هـ)، الذي عرَّف بنفسه في آخر أجزاء كتابه المعروف "العِـبَر"؛ هذا الجزء الذي نُشر في كتاب مستقلّ – لاحقًا – عنوانُه "التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا" (تحقيق محمد بن تاويت الطنجي).
ممّا استهلّ به السيوطي ترجمته ذِكْرُه نَسبَه مفصّلاً. فهو جلال الدين عبد الرحمن ابن الكمال بن أبي بكر محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان بن ناظر الدين محمد بن سيف الدين خضر نجم الدين أبي الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الهمام الخضيري الأسيوطي؛ نسبةً إلى أسيوط، أو سيوط، عاصمة الصعيد المصري. ويُكنّى بأبي الفضل. وهو سليلُ عائلة عريقة، قيل: إن أجدادها قدِموا إلى مصر من بغداد، عُرِفوا بالمكانة الاجتماعية والتجارة والزهد وفعل الخير والعلم، واشتهر في هذا الأخير عددٌ من أفراد تلك العائلة، أبرزهم والده الذي كان، كذلك، قاضيًا؛ على حدّ تعبير عبد الرحمن السيوطي نفسه في الترجمة المُشار إليها؛ إذ قال: "ولا أعرف منهم مَنْ خَدَم العلم حقَّ الخدمة إلاّ والدي".
وقد وُلد الرجل "بعد المغرب ليلةَ الأحد مستهلَّ رجب سنةَ 849 هـ"، في القاهرة، وعانى مرارة اليُتْم، وعمرُه دون الست سنوات، بموت أبيه. وحفظ القرآن الكريم كاملاً دون الثامنة من عمره، وقرأ كتبًا كثيرة جدًّا؛ فأحبّ العلمَ وهو صغيرٌ، وكان لوالده إسهامٌ كبير في هذا الصدد؛ لأنه كان يصْحبه معه إلى مجالس العلماء. وبمرور الأعوام، لازَمَ المشايخ، وتلقى عنهم العلم، وعددُهم 150، ترجمَ لهم في معجم خاصّ سمّاه "حاطب ليل وجارف سيل"، ومنهم الإمامان سراج الدين البُلقيني وابن حجر العسقلاني اللذان كان يعدّهما قدوته في العلم؛ بحيث ذكر أنه دعا الله، وهو يشرب من ماء زمزم لَمّا حَجّ، أن يصل في الفقه درجةَ البلقيني، وفي الحديث درجة ابن حَجَر. ومنهم، أيضًا، تقي الدين الشمني، وهو أحد شيوخه في العربية، وأستاذُه محيي الدين الكافيجي الذي دامت مدة ملازمته له أربعَ عشْرة سنةً. وعاصر السيوطي، الذي عاش في آخر العهد الممْلوكيّ، كثيرًا من العلماء؛ من مثل السخاوي، وابن إياس، والقسطلاني. وعُرف عنه الارتحال لطلب العلم، وملاقاة الشيوخ، ومعرفة طبائع الناس وعوائدهم في البلدان الأخرى؛ إذ سافر إلى الشام والحِجاز واليَمَن والهند والمغرب وبلاد التكرور، وقد أفاده ذلك كثيرًا فيما صنّفه، علمًا بأنه كان مؤرِّخًا ذا تآليف عدة في هذا المجال على نحو ما سنذكر فيما بعْدُ.
وجلس السيوطي للإقراء والتدريس بعد نيْله الإجازة من عدد من شيوخه في العلوم الشرعية والأدبية. فقد أُجيزَ للتدريس وهو لَمّا يتجاوزْ بعْدُ السابعة عشرة من عمره، في مطلع سنة ستٍّ وستين وثمان مئة؛ ممّا يدلّ على ذكائه ونباهته وسَعَة معرفته في تلك السنّ المبكرة. ولعلّ أبرز المؤسسات التي درّس فيها اثنتان: جامع ابن طولون المُشيَّد في القرن الهجري الثالث، والشيخونية بعد وفاة عثمان المقدسي. وكان يتولى تدريس جملة علومٍ نبغ فيها، وتضلَّع منها، وفي مقدمتها الحديث النبوي الشريف ومصطلحه وعلومه عامة. وقد ذكر هذه العلوم قائلاً: "رُزِقتُ التبحُّر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، على طريقة العرب البُلغاء، لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة". وفي آخِر قوله هذا إشارةٌ واضحة إلى أنه تلقى تلك العلوم، ودرّسها كذلك، بالطريقة التعليمية الأصيلة لا بالطريقة المتأثرة بالمنطق الأرسطي وبالمؤثرات الأجنبية بصفة عامة. وتأتي بعد هذه المعارف علومٌ أخرى، هي: أصول الفقه، وعلم الكلام، والصرف، والإنشاء والترسُّل، والقراءات، والطبّ، والتاريخ، والتصوف. وثمة عِلْمان ابتعد عنهما السيوطي لأسباب محددة، أحدُهما الحسابُ الذي كان يجد مشقة بالغة في استيعاب مسائله؛ إذ قال عنه: "فهو أعْسر شيءٍ عليّ، وأبْعده عن ذهني. وإذا نظرتُ في مسألة تتعلق به، فكأنما أحاول جبَلاً أحْمله". والثاني هو علم المنطق، الذي نأى عنه لأنه رآهُ غير ذي نفع، وأنّ دراسته مُضِرّة؛ ولذلك – كما قال – "تركْتُه، فعوّضني الله تعالى غيرَه: علم الحديث، الذي هو أشْرف العلوم". على أنّ ترْكَه المنطقَ ليس معناه أنه كان يجهله أو يشقّ عليه أمْر فهمه كما هو الحال بالنسبة إلى علم الحساب، بل الحقيقة عكس ذلك؛ ذلك بأنّ الرجل قد ألّف فيه "القول المشرق"، محرِّمًا الاشتغال به، ومعبِّرًا عن كرهه له، لاسيما بعد أنْ أفتى ابن الصلاح بتحريمه، وكذا كتاب "صون المنطق والكلام عن فنّ المنطق والكلام".
وبعد الحفظ، والأخذ عن شيوخ العلم، والجلوس للتعليم، شرَع السيوطي في التأليف انطلاقًا من سنة 866 هـ؛ حيث قال: "وقد ألّفتُ في هذه السنة، فكان أول شيء ألفته "شرح الاستعاذة والبسْملة"، وأوْقفتُ عليه شيخنا شيخ الإسلام علم الدين البُلقيني، فكتب عليه تقْريظًا". وتوالت، بعد ذلك، تآليفه، التي بلغت المِئات، في شتى الميادين العلمية التي كانت معروفة إلى زمانه؛ وبذلك، "دخل التاريخ من أوْسَع أبوابه"؛ على حدّ عبارة أحد الدارسين المُحْدَثين.
ومارس الإفتاءَ، وهو مقامٌ جليل وخطير، في الوقت نفسه، لا يبلغه إلا الراسخون في العلم، المتفقِّهون في أبوابه، وهو دون الثانية والعشرين من عمره؛ فأفتى في كثيرٍ من النوازل والقضايا، وكان حريصًا على تقييد فتاواه وإجاباته، التي جمع جملةً وافرة منها في كتابه "الحاوي للفتاوَى".
لقد أهّلتْ هذه المسيرة الحافلة بالعطاء العلمي صاحبَها لأنْ يكون مجتهدًا؛ كما قال هو نفسُه، وكان يرى أن باب الاجتهاد يظل مفتوحًا إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، وأنه واجبٌ وجوبًا كِفائيًّا على الأمة في كل عصر ومصر، منتقِدًا مَنْ يقف في وجه ذلك، قائلاً عنهم في أول رسالته الموسومة بـ"الردّ على مَنْ أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض": "وبعد، فإن الناس قد غلب عليهم الجهل وطَمَّهم، وأعْماهم حبّ العناد وأصَمَّهم، فاستعظموا دعوى الاجتهاد وعَدُّوه منكرًا بين العباد. ولم يشعر هؤلاء الجَهَلة أن الاجتهاد فرضٌ من فروض الكفايات في كل عصر، وواجبٌ على أهل كل زمان أن تقوم به طائفة من كل قطر". وذكر السيوطي أنه لم يبلغ مرتبة الاجتهاد إلا بعد أن تقدَّم به العُمْر، وأخذت ملامح الكِبر تبدو عليه، فقال في "حسن المحاضرة": "وقد كملتْ عندي الآن آلات الاجتهاد – بحمد الله تعالى – أقول ذلك تحدُّثًا بنعمة الله لا فخرًا، وأيّ شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها بالفخر، وقد أزف الرحيلُ، وبدا الشيب، وذهب أطيب العمر! ولو شئتُ أن أكتب في كل مسألة مصنفًا بأقوالها، وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها، ونقوصها، وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها، لقدرتُ على ذلك، من فضل الله، لا بحوْلي ولا بقوتي، فلا حولَ ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله". (1/339)
إن هذه المكانة العلمية الرفيعة التي بلغها السيوطي سبّبت له، أحيانًا، مشكلات ومتاعبَ، وجرّت عليه انتقادات، وأوْجدت له خصومًا، أشدُّهم عليه – إطلاقًا – هو معاصرُه وبلديه السخاوي (ت 902هـ) الذي كان منافسًا قويًا له، وهو ذو شهرة في مجال التاريخ كما نعلم؛ إذ كان ينتقده، ويَكيل له الاتهامات بالكذب والسرقة العلمية بالسطْو على جهود العلماء وعَزْوها إلى نفسه! ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل بالَغ السخاوي – كما يذكر دارسون – في تهجُّمه على السيوطي؛ فرماه بالغباء لجهله الحسابَ، وبعُقوق أمّه التي ذكر أنها جاريةٌ تركية غيرُ عربية الأصل، وبالانتهازية والأنانية. ولم يقف السيوطي مكتوفَ اليدين حيَال هذه الاتهامات، بل رَدَّ عليها، موجّهًا سيْلاً من الانتقادات للسخاوي؛ كما في "الكاوي في الرد على السخاوي"، وممّا قاله عنه: "وخرَّج لنفسه ولغيره، مع كثرة لحْنه وعرْيه من كل علم؛ بحيث إنه لا يحْسن غير الفنّ الحديثيّ شيئًا أصلاً، ثم أكبَّ على التاريخ؛ فأفنى فيه عمره، وأغرق فيه عمله، وسلق فيه أعراض الناس، وملأه بمساوئ الخلق، وكل ما رموا به، إنْ صدقًا وإنْ كذبًا". فقد جرّد السيوطي السخاويَّ من كل علم، ما عدا فن الحديث، وأشار إلى أن ما كتبه في فن التاريخ كان عن غير هدى وتوفيق؛ لأنه حشاه بأمور أبعد عن الحقيقة والعِلْميّة. ولم يكن نقدُ السيوطي، أحيانًا، يخلو من قسوة وسخرية مُرَّة؛ كما في انتقاده لابن الكركي في مقامةٍ أسْماها "طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة".
وقد تبيّن لعددٍ من العلماء، قديمًا وحديثًا، أنّ ما رُمي به السيوطي يفتقد إلى الموضوعية، وأنّ أكثره كذب وافتراء، وأن مردّه، بالأساس، إلى الحسد والحقد جرّاءَ المكانة السامقة التي بلغها الرجل في سلّم العِلم، وإلى تعاصُرهما، و"المُعاصَرة حجاب" كما يُقال، تمنع أحيانًا المُتجايلين من الاعتراف ببعضهم بعضًا. لذا، تصدّوا للردّ عليها، والمنافحة عن السيوطي، وإحْلاله المنزلة التي يستحقها بكل موضوعية. فهذا الإمامُ الشوكاني، رحمه الله، يردّ تلك الاتهامات، في كتابه "البدر الطالع"، قائلاً: "وعلى كل حال، فهو غير مقبول عليه، لما عرفت من قول أئمة الجرح والتعديل بعدم قبول شهادة الأقران في بعضهم بعضًا، مع ظهور أدنى مناقشة، فكيف بمِثْل المنافسة بين هذين الرجلين (يقصد السيوطي والسخاوي) التي أفضت إلى تأليف بعضهم في بعض، فإن أقلّ مِنْ هذا يُوجب عدم القبول". ويقول أحد باحِثِينا المعاصرين، وهو د. عبدالعال سالم مَكْرَم، رادًّا تلك الاتهامات، مُبرزًا دوافعها: "القارئُ لهذه الاتهامات، سواء كانت شخصية أو علمية، لا يرى فيها إلا سُمومَ الحقد والكراهية والحسد والبغض. إنها لم تصدر في إطار الموضوعية والاتزان، ولكنها جاءت مشحونةً بالانفعال في الغضّ من قيمة الرجال، على أنّ هذه الاتهامات لم توجَّه إلى السيوطي بعد موته، ولكنها وُجّهت إليه في حياته..." (جلال الدين السيوطي وأثره في الدراسات اللغوية، ص 151).
ولعل مثل هذه المعاملة التي لقيها من بعض معاصريه كانت من الأسباب التي دفعته إلى الانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة وحياة الزهد والتأمُّل، والتوقف عن الفتوى والتعليم. وقد ألّف في ذلك كتابًا أسْماه "التنفيس في الاعتذار عن ترك الفتيا والتدريس". ولزم السيوطي هذه الحياة، معتزلاً في بيته، مُكِبًّا على البحث والتمحيص والتأليف، طَوالَ العشرين سنة الأخيرة من عمره أو أكثر. يقول عنه نجم الدين الغزّي، في كتابه "الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة": "لما بلغ أربعين سنة من عمره، أخذ في التجرُّد للعبادة والانقطاع إلى الله، والاشتغال به صرْفًا، والإعراض عن الدنيا وأهلها، كأنه لم يعْرف أحدًا منهم، وشرع في تحرير مؤلفاته، وترْك الإفتاء والتدريس، واعتذر عن ذلك... وأقام في "روضة المقياس"، فلم يتحوّل منها إلى أنْ مات، لم يفتح طاقات بيته التي على النيل من سكناه، وكان الأمراء والأغنياء يأتون إلى زيارته، ويَعْرضون عليه الأموال النفيسة فيرُدُّها". وارتباطًا بحياته الزُّهْديّة هذه، فإن الرجل قد تولى – كما هو ثابت – مشيخة الصوفية بتربة برقوق سيف الدين أبي سعيد الملقب بـ"الملك الظاهر" الجرْكسيّ، ومشيخة البيبرسيّة بعد الجلال البكري. وقبل أن يُقْبِلَ السيوطي على التصوف واعتزال الناس، وقبل أن يتحلّل من جميع مسؤولياته الدنيوية، كان قد تولى مهمة القضاء على عهد السلطان المملوكي المتوكّل. وتوفي جلال الدين السيوطي "بعد أذان الفجر ليلةَ الجمعة 19 جمادى الأولى 911 هـ"، إثْرَ مرضه أسبوعًا بورم شديد على مستوى ذراعه اليسرى، وقُبِرَ بحوش قوصون في زاويةٍ عند باب القرافة، بالقاهرة، ووُضعت على قبره قبّة بارزة.
وخلّف السيوطي، رحمه الله، تراثًا علميًّا غنيًّا ومتنوعًا، يقدّر بالمئات من الآثار ما بين كتب ورسائل صغيرة الحجم. وقد سرد المؤلِّف نفسُه عناوين كتبه في (حسن المحاضرة) (ذكر فيه أن له ثلاث مئة مؤلَّف سوى ما غسله ورجع عنه)، وفي (التحدث بنعمة الله). وترجم له تلميذه عبد القادر الشاذلي في كتابٍ عنْوَنَه بـ(بهجة العابدين بترجمة حافظ العصر جلال الدين)، عدَّد فيه أربعةً وعشرين وخمس مئةِ (524) مؤلَّفًا له. ولمّا كانت كتبه متعددة ومختلفة، فقد عمد السيوطي إلى تصنيفها إلى سبعة أقسام، في كتابه (التحدث...)، الذي ذكر بين ثناياه أن له خمسين وثلاث مئةَ (350) كتابًا تامًّا، علاوة على ثلاثة وثمانين (83) لم يُتِمَّها بَعْدُ، آنئذٍ، وتلك الأقسامُ كالآتي:
- قسم ادّعى فيه التفرُّد، وأنه لا نظير له.
- قسم ألّف ما يناظره.
- قسم صغير الحجم من كرّاسين إلى عشرة، وكتبُه تامّة.
- قسم وقع في كرّاس ونحوه.
- قسم ألف في واقعات الفتاوى من كراس وفوقه ودونه.
- قسم لا يعتدّ به؛ لأن اعتناءَه فيه كان بالرواية المَحْضة.
- قسم كان قد شرع فيه، ولم يكتب منه إلا القليل.
ونميز في كتب السيوطي بين ثلاثة أصناف باعتبار النشر. فبعضُها مطبوع، سواء أكان محققًا أم غير محقق، وسواء أكان تحقيق المُحَقَّق منها علميًّا رصينًا أم تجاريًّا. وكثيرٌ منها ما يزال مخطوطًا حبيسَ رفوف الخزائن العامة أو الخاصة، في أماكن متفرقة من العالم، يَنتظر مَنْ ينفُض عنه الغبار، ليُخرجه للناس ويُحْييَه. ومنها المفقودُ الذي نعرفه من خلال الإشارة إلى عناوينه في كتب الفهارس وغيرها. ولا بد من الإشارة، ها هنا، إلى اختلاف العلماء في تَعْداد مؤلفات السيوطي؛ إذ ذكر بعضهم أنها تقدَّر بخمس مئة كتاب أو يزيد، وذكر آخرون أنها ست مئة مؤلف، وعدّد منها أحدهم ما يقارب الألف، وأحْصى آخرون منها أقلّ من ذلك عددًا. وتزدانُ المكتبة العربية بعملين مهمّين في فهرسة كتب السيوطي؛ أولهما لأحمد الشرقاوي إقبال، بعنوان (مكتبة الجلال السيوطي)، صدر بالرباط، عامَ 1977، وقد أحصى مؤلفات الرجل المطبوعة فقط، وعدَدُها 725، مبيِّنًا ناشرها وطابعها، وتاريخ إصدارها. وظهر، بعد ستّ سنوات، كتابٌ آخرُ استدرك نقصَ كتاب أحمد إقبال، عنوانُه (دليل مخطوطات السيوطي وأماكن وُجودها)، صدر بالكويت، ومؤلِّفاه أحمد الخازندار ومحمد إبراهيم الشيباني. ومن الكتب التي تفيدنا في هذا الصدد، كذلك، كتابُ مصطفى الشكعة الموسوم بـ(جلال الدين السيوطي: مسيرته العلمية). ويتضح من تصفح هذه الفهارس والمَسارد أن الرجل كان، بالفعل، كاتبًا مُكْثرًا، نال نصيبًا أوفرَ من تآليفه ميدانُ الحديث، يليه الفقه وأصوله، والقرآن وعلومه، ثم اللغة والأدب، ثم التاريخ وغيره. وحَسْبُنا أن نشير، في الأسطر الآتية، إلى جملة من كتبه في هذه الحُقول العلمية.
فمن مؤلفات السيوطي الكثيرة في فنّ الحديث ومصطلحه وعلومه نذكر: (كشف المغطّى في فضل الموطّا)، (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة)، (اللمع في أسماء مَنْ وَضَع)، (المسلسلات الكبرى)، (التوشيح على الجامع الصحيح)، (الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج)، (مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود)، (تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي)، (نظم الدرر في علم الأثر)، (عين الإصابة في استدراك عائشة على الصحابة)، (منتهى الآمال في شرح حديث)، (إنما الأعمال)، (مناهج الصفا في تخريج أحاديث الشفا)، (جامع المسانيد)، (الطب النبوي)، (كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة)، (الأربعون حديثًا في فضل الجهاد).
ومن مؤلفاته في علوم القرآن وما يتصل به نجد: (الإتقان في علوم القرآن)، (تفسير الجلالين)، (الدر المنثور في التفسير المأثور)، (ترجمان القرآن)، (أسرار التنزيل)، (مفاتيح الغيب)، (حاشية على تفسير البيضاوي)، (لباب النقول في أسباب النزول)، (المهذَّب فيما وقع في القرآن من المعرَّب)، (مفحمات الأقران في مبْهمات القرآن)، (الألفية في القراءات العشْر).
ومن آثاره في الفقه وما يتعلق به هذه العناوين: (المصابيح في صلاة التراويح)، (الأشباه والنظائر الفقهية)، (الثبوت في ضبط ألفاظ القنوت)، (الجامع في الفرائض)، (الأزهار الغضّة في حواشي الروضة)، (بلغة المُحتاج في مناسك الحاجّ)، (فصل الكلام في حكم السلام)، (أدب الفتيا)، (الروض الأريض في طهر المَحيض).
وممّا تركه السيوطي في ميدان اللغة والأدب عمومًا نشير إلى الكتب الآتية: (المزهر في علوم اللغة وأنواعها)، (همع الهوامع)، (الأشباه والنظائر في النحو)، (الاقتراح في أصول النحو)، (عقود الجمان في المعاني والبيان)، (شرْحُه)، (الفتح القريب على مغني اللبيب)، (الجمع والتفريق في أنواع البديع)، (شرح أبيات تلخيص المفتاح)، (البهجة المرضية في شرح الألفية)، (شرح القصيدة الكافية في التصريف)، (تعريف الأعجم بحروف المعجم)، (البرق الوامض في شرح يائية ابن الفارض)، (ديوان شعر) مفقود، (المقامات)، (كُنْه المراد من شرح بانَتْ سُعاد).
وله في فنّ التاريخ والتراجم عدة تآليف، منها: (تاريخ الخلفاء)، (أخبار الجواري)، (الشماريخ في علم التاريخ)، (طبقات الحفاظ)، (طبقات المفسرين)، (تاريخ أسيوط)، (الأحاديث المنيفة في فضل السلطنة الشريفة وأنواع الخَيْرات المألوفة)، (الوسائل إلى معرفة الأوائل)، (تحفة الظرفاء بأسماء الخلفاء)، (رفع الباس عن بني العبّاس)، (تحفة العجلان في فضل عثمان)، (إلقام الحجر لمن زكّى سابَّ أبي بكر وعمر). ويُضاف إلى كتبه في الحقول المعرفية المذكورة آنفاً أعمالٌ أخرى دَبَّجَها السيوطي في المنطق؛ كما رأينا في موضع سابق، والكلام والتصوف ونحوها، مِنْ مثل (المعاني الدقيقة في إدراك الحقيقة)، و(شرح الكوكب الوقّاد في الاعتقاد)...
ممّا تقدَّم، يتضح لنا أن السيوطي كان من أهرام الثقافة العربية، ومن قِمَمها الشامخة في النصف الثاني من القرن التاسع وأوائل القرن العاشر، وممّا يحقّ لها الفخر به، وأنه كان أنموذجًا للموسوعية في تراثنا الأدبي والفكري والعلمي بما خلّفه من مؤلفات غزيرة في مختلِف الميادين، أغْنَت المكتبة العربية إغناءً واضحًا، وأفادت أبناء الأمة، على مرّ العصور، وغيرهم كذلك. ولا أجِدُ خيرًا من كلام د. مروان القدومي، في مقاله "الإمام السيوطي داعية الاجتهاد والتجديد"، لختْم مقالتي هذه: "والحقّ أن فضل السيوطي على العالَم الإسلامي عظيم. فهو في مقدمة الذين أثْرَوا الثقافة العربية الإسلامية، ورفعوا من شأنها، وأحلُّوها مكانًا عاليًا، ومنزلة ساحقة. فهو أحدُ الذين قادوا مواكبها بمَوْسُوعيته العلمية، فأثْرى المكتبة العربية بنفائسِ المؤلفات وذخائرِ المصنَّفات، ممّا شهد لها المحققون، وأقرّوا لصاحبها بطُول الباع، وسَعة الاطلاع، ووَفرة المَحْصول".
تغريد
التعليقات 1
أستاذي الكريم نسأل الله لك السداد و التوفيق. دائما مايكون إسهامك قصدي الغاية فائدته قريبة، غزير العطاء، كثير النوال: من قريب للمبتدأ ومن بعيد للمتخصص وهذا ديدن السفوف... نسأل الله أن يجعلنا على درب أولائك سائرين لغاية فيها صلاح..
اكتب تعليقك