بلاغة الحجاج عند ابن الأثيرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-09-30 23:11:47

ياسين الشعري

باحث في البلاغة وتحليل الخطاب - المغرب

مقدمة

يندرج هذا البحث في صلب البحوث التي تسعى إلى إعادة قراءة الموروث البلاغي العربي القديم، من وجهة نظر حديثة، بغية استشاف أهم الأسس التي قام عليها واستشراف أبعاده وأهم مبادئه... فهو يسائل تصور ابن الأثير لبلاغة الحجاج ومدى وعيه بها وبمبادئها وانشغالاتها في الخطاب.

 ولسنا نقصد من وراء ذلك أن ابن الأثير كان واعيا تمام الوعي بمفاهيم بلاغة الحجاج ومبادئها، وإنما هناك في بلاغته جوانب في غاية الأهمية يمكن أن نرجعها إلى البلاغة الحجاجية، كما تبلورت مع أرسطو بل وحتى مع ما سبقه من السفسطائين. وقد كان منطلق بحثنا الأساس تصور يرى أن البلاغة الحجاجية عند ابن الأثير تتمثل في مجموعة من الأدوات والتقنيات والمفهومات التي استند إليها في مشروعه البلاغي لتفسير النصوص وتأويلها...

ويتمثل الدافع الأساس الذي قاد نحو إعادة النظر في تصور ابن الأثير للبلاغة الحجاجية إيماننا بأن قراءة القديم وتعميق فهمنا به وسيلة لتطوير الحاضر، بيد أنه لا يجب أن نرتكن إليه كل الارتكان، وإنما نأخذ منه ما يعيننا في فهم حاضرنا ويساعدنا على استيعابه، ما دام الفكر سيرورة تاريخية تطورية وحلقات مترابطة ببعضها، ومادام أن الجديد لا يمكنه أن يدعي الانفصال المطلق عن القديم، فهو يقتات عليه، ويسعى إلى تطويره والاستفادة منه...

 الاستدراج أو بلاغة الخداع عند ابن الأثير:

يجعل ابن الأثير عماد البلاغة كلها على الاستدراج، وقد عرفه بأنه "مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال"1 ، فقد أكد في بداية كتابه أن البلاغة كلها تدور حول خداع الآخر من أجل تحقيق الإذعان والتسليم2. 

لقد قرن ابن الأثير البلاغة بالخداع والتمويه والإيهام وتلبيس الحقائق، بل وجعلها تدور في فلك هذه الآليات، مبينًا أنها تقوم مقام مخادعات الأفعال، فإذا هي مثل الألعاب السحرية تحدث في المتلقي ما تحدثه في نفسه تلك الألعاب، إذ الجامع بينهما يتجلى في قدرتهما على جذب انتباه المرء واستهوائه وتحقيق الإذعان والتسليم والتأثير عليه. إن ما يمكن أن يفهم من قول ابن الأثير هو أنه يوازن ما بين مخادعات الأفعال ـ الألعاب السحرية مثلاًـ ومخادعات الأقوال ـ المتمثلة في البلاغة، التي يجعلها تقوم في القول مقام تلك، وتصنع مثلما تصنع. ـ

وبذلك يمكن القول: إن بلاغة الحجاج عند ابن الأثير تلتقي بنظيرتها عند السفسطائيين، الذين كان مشروعهم البلاغي قائمًا بالأساس على خداع الخصم وتمويهه وتغليطه، والإيقاع به في حبائلهم وجعله مذعنا ومسلما بدعواهم، دون أن يقدموا لأجل خدمة أغراضهم ما هو جدير بتحقيق الإقناع، وإنما اكتفوا بالاعتماد على سلطة القول، فالخداع هو القصد منهما، وإن اختلفت الطرق والمبادئ التي توصل إليه، فإحداهما قوامها الخداع عبر سلطة القول، وهذه هي بلاغة السفسطائيين، والأخرى قوامها الخداع عبر الاستدراج، وهذه هي بلاغة ابن الأثير.

وقد حدد غرضه من وراء عقده فصلاً للحديث عن الاستدراج في "ذكر ما تضمنه من النكت الدقيقة في استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم"3، وبالتالي يكون ابن الأثير من وراء هذا الكلام قد وضح الغرض من بلاغته والقصد منها، فهي ـ كما بلاغة الحجاج ـ تسعى إلى أن تجعل المتلقي يذعن ويسلم بدعوى معينة، فالمعول في البلاغة عنده إنما هو إيقاع التسليم والإذعان عن طريق الخداع. إن مثل هذا القول يثبت أن ابن الأثير كان واعيًا بالدور التداولي الذي تؤديه البلاغة، في كونها تسعى إلى استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم.

وبما أن الاستدراج هو عمدة البلاغة ومدارها فقد اشترط على كل أديب أن يكون قادرًا على استدراج خصمه، لأن هذا يسهم في تحقيق الوظيفة التداولية التي تتوخاها البلاغة، وإذا لم يستطع الأديب أن يفعل ذلك فليس بأديب.

بيد أنه بالرغم من كون ابن الأثير قد جعل من الاستدارج عمدة البلاغة، أي أنه وصلها بوظيفتها الأساس وهي الوظيفة الحجاجية؛ إلا أنه لم يراع هذا المبدأ في باقي فصول كتابه إلا نادرًا، وهو ما أشار إليه عبدالله الصولة من أن كتب البلاغة العربية منذ السكاكي وربما قبله تقوم على تعارض بين مفهومها للبلاغة وطريقة تناولها بالدرس لمختلف الوجوه البلاغية بيانًا ومعاني وبديعًا. فبقدر ما يتعلق بمراعاة قانون الأنفع في الخطاب، يبتعد الجانب التطبيقي فيها عن هذا المفهوم4.    

المخاطب في بلاغة ابن الأثير

يشكل المخاطب أحد أهم الأسس التي أقام عليها أرسطو بلاغته، فهو قطب هام من أقطاب العملية التواصلية، إلى جانب كل من الخطاب والمتكلم، وتنبع أهميته من كونه هو المعول عليه في بلاغة الحجاج، والمقصود من وراء الخطاب الإقناعي، فالخطيب يسعى جاهدًا إلى التوافق مع مخاطبه، ومطلوب منه أن يراعي مقتضى حاله، فلا يخاطب الخاصة إلا بكلام الخاصة، ولا يخاطب العامة إلا بكلام العوام، كما جاء في صحيفة بشر بن المعتمر المشهورة. غير أن طبيعة النظر إلى هذا المخاطب تختلف من بلاغة إلى أخرى، فإذا كانت البلاغة الحجاجية في سعيها إلى التوافق معه تهتم به وتجعله قطب الرحى في العملية التواصلية، فإن بلاغة الشعر تجعل منه قطبًا ثانويًا، إذ المعول فيها على خرق أفق توقعه والانزياح عن المعيار اللغوي السائد. فما الشأن إذن بالنسبة لبلاغة ابن الأثير؟

تلتقي بلاغة ابن الأثير مع بلاغة أرسطو في كونها تتوخى التأثير في المخاطب وحمله على تبني معتقدات المتكلم وأفكاره وعواطفه وأحاسيسه، وبعبارة أخرى يمكن القول: إن البلاغتين معا تلتقيان في اهتمامهما بالمخاطب لكونه طرفًا مهمًا في العملية البلاغية، ينبغي على المتكلم استحضاره، وإن كانت بلاغة ابن الأثير تختلف في هذه النظرة إلى المخاطب، نظرًا لأنها قائمة على الخداع والإيهام وتلبيس الحقائق. فهي لا تسعى إلى أن تعقد التوافق معه فقط، ولكنها تسعى أيضًا إلى إيقاعه في فخ الإذعان والتسليم بكل الطرق الممكنة حتى وإن كانت مغالطات، فالمخاطَب في نظر ابن الأثير خصم ـ أو قل ـ آخر مخالف ينبغي الإيقاع به وخداعه، بخلاف بلاغة أرسطو التي أكدت أن من مهام الخطيب والخطابة ككل "أن تكتشف الوسائل الحقة والمغالطة للإقناع"5. هذه النظرة إلى المخاطب تجعل بلاغة ابن الأثير ـ رغم أنها تلتقي مع بلاغة أرسطو في كونها جعلت من المخاطَب قطبًا هامًا في العملية التواصلية ـ شأنها شأن بلاغة السفسطائيين، لأن المعول في كلتيهما خداع المخاطب وإيهامه، كما سبق أن أشرنا.

مفهوم الغرض عند ابن الأثير معيارًا بلاغيًا:

ركز ابن الأثير في حديثه عن الاستدراج ـ باعتباره جوهر البلاغة عنده ـ على مفهوم مركزي في بلاغة الحجاج وهو مفهوم الغرض التداولي، إذ لم يقيد المعاني ولا الألفاظ ـ مهما بلغت من حسن الطلاوة والجمال ـ بوظيفتها التزيينية، بل كان يعلم أن فائدتها الأساس تتجلى في تأديتها لغرض المخاطب. إن الوسائل اللغوية من ألفاظ ومعاني... هي مجرد زينة تابعة للغرض الذي يتوخاه المتكلم من ورائها، ولا تكمن أهميتها عنده في ذاتها، أي في كونها حسنة أو لطيفة، وإنما تتجلى أساسًا في تأديتها لغرض المخاطب، وفي نقل الآراء والأفكار إليه، أو بعبارة أخرى، نقول: إن أهميتها تكمن في وظيفتها التداولية، لا في وظيفتها الجمالية الأسلوبية، إذ "لا انتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها"6. يشير هذا إلى أن الغرض البلاغي هو شرط أساسي تراعي الألفاظ والمعاني توصيله لكي تكون نافعة، ومن هذا يتجلى لنا أن البلاغة عند ابن الأثير مشروطة بمنفعتها التواصلية، أي في تأديتها للأغراض المرومة منها وتحقيق عملية الإبلاغ والتواصل على أحسن وجه، لا بدورها الأسلوبي التزييني.

وبهذا يكون ابن الأثير قد انتبه للدور التداولي الذي تؤديه البلاغة، كما انتبه أيضًا إلى دورها الجمالي، ولكنه أعطى القيمة للأول، إذ اهتم بوظيفة البلاغة أي بوصفها فعلا يتقصد التأثير قبل جمالية التعبير، فهو لم يهتم باللغة في ذاتها ولكن اهتم بوظيفتها، باعتبارها أداة بفعلها يستطيع المتكلم أن ينسج مع المتلقي لخطابة علاقة قائمة على التفاعل والتأثير. إن ابن الأثير ليس يقصر البلاغة على الوظيفة التداولية فقط، وإنما هو واع بوظيفتيها معًا: التداولية التواصلية والجمالية التزيينية، ولكن دور الأولى أساس والثانية ثانوي، مما يجعلنا نقول إن وظيفة البلاغة الأساس عنده مرتبطة بمقاصد نفعية، أي من حيث كونها قادرة على تحقيق وظيفة الخطاب ونجاعته.

البلاغة عند ابن الأثير آلية لتأويل النصوص:

يطالعنا ابن الأثير في فصل "الاستدراج" بقراءة تأويلية للنصوص التي استشهد بها على الاستدراج، تكشف عن آلياتها الحجاجية، وتصلها بوظائفها التداولية التي أنجزت لأجلها، وهذا ما جعلها تخلو من كل منزع أسلوبي، من شأنه أن يجعل منها قراءة أسلوبية جمالية، تهتم بالكلمة عوض وظيفتها، وبجمالية النص عوض غرضه، إذ لم يضع في حسبانه الكشف عن صور الأسلوب ووجوهه التزيينية ومنمقاته، لأنه يرى أن الكلمة لا قيمة لها بجمالها وحسن طراوتها، وإنما تتبدى قيمتها حينما تنجح في تأدية غرض المتكلم على أحسن وجه. وبسبب من هذا الوعي، عمل على قراءة النصوص التي استشهد بها انطلاقًا من مجموعة من المبادئ والمفاهيم التي تأصلت في بلاغة الحجاج على مر تاريخها، وذلك ليبرز موطن الاستدراج فيها، من بينها ما يأتي:

مفهوم الاختيار

ارتكز ابن الأثير في تأويله للنصوص المستشهد بها على مفهوم الاختيار، باعتباره آلية عامة لإنتاج الاحتمال7، والمبدأ الذي لا تقوم البلاغة إلا عليه، إذ كان ينظر إلى تلك التراكيب المستخدمة "بوصفها اختيارات استخدمها المتكلم لما تنطوي عليه من فائدة وقوة حجاجية بمقارنتها مع غيرها من الألفاظ والتراكيب التي كان بالإمكان استعمالها"8. ومفهوم الاختيار هنا يقوم على معيارية حجاجية؛ فلكي نحدد ـ كما يقول بيرلمان ـ الاستخدام الحجاجي للفظ ما، ينبغي معرفة الألفاظ والتعبيرات التي كان من الممكن أن يستخدمها الخطيب، ولكنه فضل عليها اللفظ الذي وقع عليه اختياره"9 ، فرصيد اللغة ونظامها يتيح لنا إمكانات تعبيرية هائلة كي نعبر بها عن حالة واحدة، ومن ثَمَّ فنحن نختار منها أكثرها مواءمة لمقاصدنا ولسياق الخطاب ولبنيته في مجمله10. انطلاقًا من هذا الوعي، بين ابن الأثير في تأويله لقوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)، أن المتكلم ـ إبراهيم عليه السلام ـ قد اختار في محاورته لأبيه من بين مجموعة من الإمكانات اللغوية ما يخدم غرضه ومقصده التداولي، أي استدراج مخاطبه إلى الإذعان والتسليم بما يقوله، حيث حرص على استخدام الألفاظ الرائقة التي تخدم مقصده الإقناعي، وابتعد عن تلك التي رأى أنها مستجبلة لنفور المخاطَب وتعنته. ويتجلى هذا الاتكال على مفهوم الاختيار في تأويل الآية القرآنية في قول ابن الأثير: "فلم يسم أباه بالجهل المطلق، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معي لطائفة من العلم وشيئًا منه [...] [و] لم يصرح بأن العقاب لاحق به، ولكنه قال:  «إني أخاف أن يمسك عذاب»، فنكر العذاب ملاطفة لأبيه..."11،  فقد حاول أن يبين أن اختيار الكلمات التي تتوافق مع سياق الخطاب أمر مستجلب لبلوغ القصد التداولي المتمثل في تحقيق الاستدراج، ذلك لأن لا استدراج بدون اختيار وإعمال فكر لوضع الكلمات موضعها من الخطاب، إذ «لا يكفي أن يعرف المرء ما يجب أن يقوله، بل عليه أيضًا أن يعرف كيف يقوله»12.

كما استند إلى هذا المفهوم أيضًا في تأويله لحديث تفاوض فيه الحسين بن علي رضي الله عنهما ومعاوية بن أبي سفيان في أمر ولده يزيد13، إذ بين أثناء عملية تأويله والكشف عن الاستدراج الكامن فيه أن معاوية بن أبي سفيان قد برع في اختياره للكلمات اللائقة لمنافرة الحسين بن علي، إذ لم يقل «إن الله أعطاني الدنيا ونزعها منكم؛ لأن هذا لا فضل فيه [..] وإنما صانع عن ذلك كله بقوله: "إن أباك وأباه تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك"»14.

مفهوم الاتفاق المسبق

يعد مفهوم الاتفاق المسبق من بين أهم المفاهيم التي تقوم عليها البلاغة الحجاجية، ذلك لأن فعل الإقناع يتطلب من المتكلم أن يراعي المستمعين، ويضع في عين الاعتبار جماعًا من التمثلات المشتركة التي تجمعه بهم، ويحترم حالاتهم النفسية والذهنية، ويخاطبهم على أقدار عقولهم وأفهامهم، فيأتي القول بالتالي متوافقًا مع تلك الحالات، قائمًا على "مبدأ مراعاة الأفكار المقبولة والمشتركة في ما يسمى بالمواضع والمسلمات"15.

وقد ارتكز ابن الأثير على هذا المفهوم في تأويله للآية القرآنية الأولى التي استشهد بها على الاستدراج، إذ بين كيف أن الرجل المؤمن قد سلك مسلكًا موافقًا لحالة خصوم موسى الذهنية والنفسية، وحرص على أن يكون خطابه أقرب إلى فهمهم حتى يستطيع تحقيق غايته المتوخاة من وراء خطابه، فقد قر في ذهنه أنه لا يمكن له أن يصرفهم عما يريدون إلا إذا كان متوافقًا معهم، لذلك « [..] جاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم إياه»16.

يثبت هذا أن ابن الأثير كان يعي جيدًا أن فعل الإقناع أو الاستدراج ـ بحسب لغته ـ لا يمكن حصوله إذا لم يمارس في إطار بيئة مشتركة من الآراء والأفكار والمبادئ والقيم والتمثلات الاجتماعية، فمحاولة إقناع الآخر وجعله مذعنًا للخطاب لا يمكن أن تتم خارج إطار "الاتفاق المسبق"، حيث يتوقف قبول السامع لدعوى الخطاب "على جملة من الأمور تحيل ـ حسب بيرلمان ـ إما إلى الواقع: الحقائق، والوقائع والافتراضات، وإما إلى المفضل: القيم، والهرميات، والمواضع"17. وتشكل هذه الأمور المذكورة "مادة التوافق بين الخطيب والسامع، ونقط الارتكاز التي يبني عليها الخطيب حجاجه قبل أن يشكلها في قوالب حجاجية قابلة للضبط والتعيين"18 .

الاستراتيجيات الخطابية:

عمل ابن الأثير في تأويله للنصوص المستشهد بها على بيان الآليات التي استخدمها المتكلم بغية استدراج المخاطب وحمله على التصديق والاقتناع بما يقوله، فكشف الدور الذي تؤديه الأخلاق (الإيتوس) في استدراج الخصم، موضحًا الكيفية التي سلكها إبراهيم عليه السلام في محاورة أبيه، حيث حرص على أن يظهر بمظهر أخلاقي جدير بأن يجعل أباه مذعنًا ومسلمًا بما يقول، فخاطبه بليونة ورفق رغم كونه آخرًا مخالفًا له في معتقداته. وقد علق ابن الأثير على ذلك بقوله: " [...] لما أراد إبراهيم عليه السلام أن ينصح أباه ويعظه وينقذه مما كان متورطًا فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل؛ رتب الكلام معه في أحسن نظام، مع استعمال المجاملة واللطف والأدب الحميد والخلق الحسن، مستنصحًا في ذلك بنصيحة ربه [...] فلم يسم أباه بالجهل المطلق، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معي لطائفة من العلم وشيئًا منه"19. كما كشف أيضًا في تأويله للآية التي يحاور فيها الرجل المؤمن بني إسرائيل عن الدور الذي تؤديه الأخلاق في تحقيق الإذعان والتسليم، وتعين على استدراج الخصم، وجعله مقتنعًا بخطاب المتكلم. فقد احتاج ـ في مقاولة خصوم موسى عليه السلام ـ إلى أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة...

كما كان واعيًا بالدور الحجاجي التداولي الذي يلعبه استثار عواطف المتلقي وتحريكها [الباتوس]، حيث كشف عن التخويف الذي تضمنته الآية الثانية، إذ سعى إبراهيم في حواره مع أبيه إلى تخويفه من عذاب الله سبحانه وتعالى، وأن يبين له العواقب الوخيمة لما يقدم عليه من عناده لله، وفي ذلك يقول ابن الأثير: "ثم ربع ذلك بتخويفه إياه سوء العاقبة، فلم يصرح بأن العقاب لاحق به، ولكنه قال: «إني أخاف أن يمسك عذاب»"20.

إلى جانب مفهوم الإيتوس والباتوس، فإن ابن الأثير كان على وعي بما يمكن أن تحققه بعض الآليات العقلية في استدراج الخصم، فقد كشف في تأويلة للآية الأولى عن المسلك العقلي الذي سلكه الرجل المؤمن في محاورة بني إسرائيل، وهو مسلك قائم على ما سماه بالاحتجاج انطلاقًا من طريقة التقسيم.

هذا ما يوحي به على الأقل تأويل ابن الأثير، أما مصطلحات [اللوغوس والإيتوس والباتوس] فلم تتشكل ـ لربما ـ في التصور البلاغي لابن الأثير، كما لم تتشكل في الوعي النظري للبلاغيين العرب عامة21، ولكن يكفي أنه عبر عنها بطريقته الخاصة. مما يجعلنا نؤكد أن ابن الأثير قد لامس مفاهيم الإيتوس واللوغوس والباتوس أثناء اشتغاله على التشكيل البلاغي للإمكانات اللغوية في الآيتين الكريمتين، باعتبارها مظاهر خطابية.

خاتمة:

يسمح لنا ما أوردناه سابقا القول: إن ابن الأثير في فصل الاستدراج من كتابه "المثل السائر" كان معنيًا أساسًا بالتأصيل لبلاغة جديدة، ترفد مبادئها من البلاغات القديمة، وتحاول استثمارها لخلق أنموذج بلاغي جديد، لا يهتم بالوظيفة الجمالية للغة بقدر ما يجعلها خاضعة لخدمة الغرض التداولي الذي استجلبت له. وقد توقف البحث على جملة من المبادئ التي شغلها ابن الأثير أثناء تأويله لاستشهاداته عن الاستدراج، من قبيل: مفهوم الغرض التداولي، مفهوم الاختيار، مفهوم الاتفاق المسبق، الاستراتيجيات الخطابية... وقد توصل البحث إلى أن ابن الأثير اعتمد البلاغة آلية تأويلية ارتكز عليها ليستنبط مكمن الاستدراج في الأقوال المستشهد بها، ليتوصل ـ بالتالي ـ إلى أن الاستدراج هو عمدة البلاغة، لأن المتكلم يتوخى من وراء خطابه أن يجعل المخاطَب مذعنا لما يقول ومسلمًا به...

لكن، على الرغم من هذا الوعي المفاهيمي ببلاغة الحجاج الذي لامسناه عند ابن الأثير في فصل الاستدراج؛ فإن قراءة فصول أخرى من الكتاب لا تسفر إلا عن ممارسة أسلوبية تتوخى الوقوف عند الوظيفة التزيينية للغة؛ إذ لم تستثمر هذا الوعي في التعامل مع النصوص إلا نادرا. وهذا يؤكد ما ذهب إليه عبدالله صولة من أن البلاغيين العرب رغم وعيهم ـ في تعريفهم للبلاغة ـ بقانون الأنفع في الخطاب إلا أن طريقة تناولهم لمختلف الوجوه البلاغية يبتعد عن هذا المفهوم.

 

الهوامش:

1 - ضياء الدين بن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محي الدين عبد الحميد، ج 2، ص 68.

2 - المثل السائر، ج1، ص 5. 

3 - نفسه، ص 68. 

4 - عبدالله صولة، في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات، مسكيلياني للنشر، ط 1، 2011، ص 84.

5 - بلاغة الحجاج الأصول اليونانية، ص 185.

6 - المثل السائر، ج2، ص 68.

7 - محمد العمري، البلاغة العامة ـ النسق المصطلحي والخريطة النصية، ضمن مجلة البلاغة وتحليل الخطاب، أعمال الندوة العلمية الدولية في موضوع: سؤال المصطلح البلاغي، عدد 9، 2016، ص 29.

8 - محمد مشبال، في بلاغة الحجاج، ص 252.

9 - عن نفس المرجع، ص 252.

10 - أحمد محمد ويس، حرية النفي وممكنات الإثبات ـ بحث في أسلوبية الاختيار، ضمن: مجلة فصول، عدد 101، خريف 2017، ص297.

11 - نفسه، ص 70. 

12 - أرسطو، «فن الخطابة»، ترجمة بدوي ص: 193

13 - المثل السائر، مصدر مذكور، ص 73.

14 - نفسه، ص 73.

15 - في بلاغة الحجاج، ص 25. 

16 - نفسه، ص 69. 

17 - في بلاغة الحجاج، ص 153.

18 - نفسه، ص 153.

19 - نفسه، ص 70. 

20 - نفسه، ص 70. 

21 - في بلاغة الحجاج، مرجع مذكور، ص 249.

 

المصادر والمراجع:

- أحمد محمد ويس، حرية النفي وممكنات الإثبات ـ بحث في أسلوبية الاختيار، ضمن: مجلة فصول، عدد 101، خريف 2017، ص 297.

- أرسطو، الخطابة، ترجمة: عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2008.

- الحسين بنوهاشم، بلاغة الحجاج الأصول اليونانية، دار الكتاب الجديد، ط1، 2015.

- ضياء الدين بن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محي الدين عبدالحميد، ج 2، ص 68.

- محمد العمري، البلاغة العامة ـ النسق المصطلحي والخريطة النصية، ضمن مجلة البلاغة وتحليل الخطاب، أعمال الندوة العلمية الدولية في موضوع: سؤال المصطلح البلاغي، عدد 9، 2016.

- محمد مشبال، في بلاغة الحجاج، كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط1، 2017.

- عبدالله صولة، في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات، مسكيلياني للنشر، ط 1، 2011، ص 84.


عدد القراء: 3484

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-