التأصيل التواصلي في الفكر العربي القديمالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-09-30 23:47:31

د. العربي الحضراوي

أستاذ محاضر بشعبة اللغة العربية وآدابها كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس - الرباط - المملكة المغربية

لقد شكلت الذاكرة العربية عبر حقبها التاريخية مخزونًا هائلاً من مهارات الاتصال بين الناس القائمة على حسن الصلة ومد جسور التواصل مع الآخر غريبًا كان أم قريبًا. وإذا ما قمنا بقراءة فاحصة وبحث دقيق عن مفهوم التواصل لابد لنا من استحضار المنظرين أو بالأحرى المؤسسين الأوائل في هذا المجال، مما يضعنا لا محالة أمام فرصة الحديث عن الفكر العربي القديم الذي أسس وأصل لمفهوم التواصل وقعد لمرتكزاته الأساسية في الاتصال والتواصل، فكان له وعي مبكر بهذه العملية التواصلية التي تتم بين الباث والمتلقي من خلال العمل الأدبي الذي يربط بين كلا الطرفين: فالمرسل يستشرف تحقيق مقصدية معينة تتحدد بالأساس في عملية التأثير والإقناع، والمتلقي يتوقع منه مقبولية النص، وحصول الاستفادة، والتفاعل معه.

والحديث عن التأصيل التواصلي الذي وضع لبناته الأولى مجموعة من أقطاب الفكر العربي القديم الذين اختصوا دون سواهم من الكتاب والدارسين بآرائهم المتميزة والدقيقة التي اهتمت بالرؤية التواصلية للأدب، ولعل ممن برز بشكل واضح في هذا الاتجاه نجد:

الجاحظ الذي يعتبر من السباقين إلى تناول مفهوم التواصل، ودراسة العناصر المكونة للفعل الأدبي، وكتابه "البيان والتبيين" يدل على معنى الوضوح والإيضاح، والفهم والإفهام... بحيث يركز في عملية التواصل بين المرسل والمتلقي على ضرورة التأثير على القارئ وإفهامه وإقناعه، لأن ذلك يكفل للنص الأدبي نجاحه، ويجعله صالحا للتداول والانتشار لدى المتلقين، يقول الجاحظ:" المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم...إلخ" .

والملاحظ من خلال هذا القول إن البيان عند الجاحظ يتمأسس على عدة وظائف لعل أبرزها وأهمها الوظيفة الاقناعية (الإفهام والتأثير)، والوظيفة الإخبارية (الذكر والإخبار)، والوظيفية التعليمية (الإفادة والعلم)، والوظيفة الحجاجية (وضوح الدلالة، وصواب الإشارة). وجميع هذه الوظائف تمثل جانبًا مهمًا ومحوريًا من النظرية التواصلية، التي ترتكز على عناصر الإقناع والتأثير والحجاج... ويرى الدكتور محمد العمري في كتابه "البلاغة العربية" أن التداولية الحديثة ذات بعد جاحظي في أصلها، ومرد ذلك في نظره إلى عناية الجاحظ، وتأكيده في "البيان والتبيين"، على عملية التأثير في المتلقي، والسعي إلى إقناعه، والنجاح في إفهامه، ومخاطبة عقله. والأستاذ محمد العمري يسمي هذه النظرية بالتأثير والمقام، ويقول: "إن هذا البعد هو أحد الأبعاد الأساسية في البلاغة العربية، وهو بعد جاحظي في أساسه، أدى إلى اختزال البلاغة العربية وتضييق مجالها، وتحظى "نظرية التأثير" والمقام حاليًا بعناية كبيرة في الدراسات السيميائية، ومن ثم الشروع في إعادة الاعتبار إلى البلاغة العربية تحت عنوان جديد هو التداولية، وتتجلى جذور التداولية عند الجاحظ من خلال تقسيمه للبيان إلى ثلاثة وظائف، واهتم أكثر بالوظيفة التأثيرية التي تمثل جانبًا مهمًا في التداوليات الحديثة" .

أما صاحبنا ابن قتيبة فقد كانت محاولته تعتبر من أهم الإشارات المبكرة، التي ألمعت إلى قضية التواصل، حيث تحدث هذا الناقد في كتابه "الشعر والشعراء" عن مسألة التأثير النفسي، وإعداد القارئ سيكولوجيا لقبول ما يرد عليه من الشعر، والانفعال له عند سماعه وفق خطة مقصودة، ومنهج القصيدة الذي يختاره الشاعر، ويبدأ فيه بالنسيب ثم يردفه بذكر مشاق السفر، ثم يعرج على وصف ناقته، وينتقل في آخر المطاف إلى مدح صاحبه، ويرى ابن قتيبة أن موضوع القصيدة الذي جاء على هذه الشاكلة، يعد من العوامل المؤثرة على السامع، وحري بأن يشد انتباهه، ويستأثر بإهتمامه" .

وهذا اتجاه قد سلكه أيضًا ابن طباطبا العلوي من خلال كتابه "عيار الشعر" بحيث اعتبر بأن الشاعر يتوجه بشعره إلى القارئ بغية التأثير فيه، وامتلاك نفسه، لذلك كان لزامًا على الشاعر أن يصنع شعره: "صنعة متقنة لطيفة مقبولة حسنة مجتلبة لمحبة السامع له، والناظر إليه بعقله، مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه" . كما يرى أيضًا على أن القارئ لابد له من فهم الشعر كي يستطيع التأثر به؛ إذ لا يتم التأثر بشيء يجهله. وقبول الفهم عنده لا يناقض إدراك الحواس التي تتلقى ما يرد عليها، والذوق يعين القارئ في تلقي الشعر وفهمه" .

كما لا يفوتنا أن نذكر جهود عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز" الذي أثرى الحقل الأدبي والبلاغي بآرائه ومواقفه المتميزة بالابتكار والدقة والعمق، فأكد في كثير من المواضع في كتابه على عملية التواصل، وعلى وجوب تحقيق المتكلم للغرض الذي يريده من الكلام، والوصول إلى مقصوده، يقول: "الدلالة على الشيء لا محالة إعلامك السامع إياه، وليس بدليل ما أنت لا تعلم به مدلولا عليه، وإذا كان كذلك وكان مما يعلم ببنائه المعقول أن الناس، إنما يكلم بعضهم بعضًا ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده، فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر به عن المخبر عنه".

إذن كان لزامًا في نظر عبد القاهر الجرجاني أن يعرب المتكلم عن مقصوده، ليطلع السامع على ما يريد الإخبار عنه، ويجعله على بينة مما يقوله، وليتوصل إلى إفهام المتلقي، والاقتراب منه، ويفلح في التأثير عليه وإقناعه. وتتجلى في هذه الرؤية ملامح العملية التواصلية وأغلب عناصرها، والتي تتلخص في الإفهام والإخبار والإقناع والقصدية.

إن الحديث عن التأصيل لمفهوم التواصل لدة المفكرين العرب نابع من درجة وعيهم بهذا المفهوم لما له من تأثير إيجابي على وظيفة الأدب التواصلية بشكل عام، كما أن حديثهم هذا لم يغفلوا فيه العناصر المكونة للخطاب التواصلي والتي ينبني عليها مهوم التواصل بمفهومه الحديث الآن وهي المرسل والمرسل إليه. مع ضرورة تأكيدهم على تحقيق غاية النص الأدبية والتواصلية من خلال اعتماد أسلوب التأثير والإقناع لحصول الفائدة، مع مراعاة المقامات واختيار ما يتوقع قبوله من طرف القارئ.

الهوامش:

1 - البيان والتبيين، ج1 الأعمال الكاملة للجاحظ، نابلس ص 74.

2 - البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق المغرب، 1999، ص 293.

3 - الشعر والشعراء لأبن قتيبة الدينوري ج1/ ص 80/81.

4 - عيار الشعر لأبن طباطبا العلوي، ص 143.

5 - مفهوم الشعر لجابر عصفور ص 58/62.

6 - دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني ص 325.

لائحة المصادر والمراجع:

- أبو عثمان الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، الأعمال الكاملة للجاحظ، نابلس.

- ابن قتيبة الدينوري: الشعر والشعراء ج1، دار الحديث، القاهرة، 1423.

- محمد أحمد بن طباطبا العلوي: عيار الشعر، تحقيق: تحقيق: عباس عبد الساتر-نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، ط 2، 2005.

- عبدالقاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر أبو فهر، مكتبة الخانجي -مطبعة المدني.

- محمد العمري: البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق المغرب، 1999.

- جابر عصفور: مفهوم الشعر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 5، 1995.


عدد القراء: 2082

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-