تفنيد تفنيد مور لكل مثاليةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-10-01 00:22:43

ياسين مقنيعي

باحث بجامعة ابن طفيل، المغرب

الملخص:

يعتمد "مور" في (مقاله تفيند المثالية) على تصوير للوحدة الهجلية كوحدة "بيركلي" و"فيخته" ويعتمد مقولة (الكون كله روح) لضرب كل مثالية ولأن كان هذا يصدق على بيركلي فإن مور قد ظلم جدًا هيجل بهذا التعميم، وإذا سقطت دعوى مور المتقدمة تسقط كل مقالته وحججها بخصوص هيجل لأنها تؤسس عليها... ولقد كان لهذه المقالة تأثيرًا كاملاً على المحيط الفلسفي حتى عدها راسل ضربة قاضية للمثالية وبها يشهر عن هيجل أن فلسفته مجرد لغو فارغ ... ولأن الباحث يرى عكس ذلك، ويرى أن الفلسفة الهيجلية بسيطة في جوهرها فإنه قد عزم تقريبها للقارئ المتخصص وغيره بطريقة تحافظ على جوهريتاها واستدلالاتها الذكية لكن مع الباسطة في الطرح والمحاولة للجمع بين الخاص والعام لإظهار جوهر الوحدة الهيجلية.

 

مقدمة:

يعتبر المقال المعنون «بتفنيد المثالية» مؤسسًا لمذهب فلسفي كامل وضربة قاتلة للمثالية الحديثة عند البعض «كراسل».(Priest,1990, p 200).

نعم بالنسبة لي كان هذا المقال ذكيًا للغاية وكان يحط أصبعه مباشرة على المشكل دون الغوص في ثانويات قد تزيحه عن الهدف ... لكن كل المدح الذي تقدم ينقلب قدحًا كاملاً إن تجاوز هذا النقد مثالية «بيركلي». وقد عمم «مور» نقده على المثالية المعاصرة كاملة بما فيها «هيجل».. بل ذكره بطريقة عابرة ساخرة والمقال برمته مبني على فكرة أولى تنبني عليها المقالة كلها وكل البراهين وكل التحليل جاء لدعمها، وتعتبر ظالمة للغاية بإدخال تحتها فلسفة هيجل، وإذ هذه الدعوى «المورية» سقطت سقطت المقالة كلها بخصوص هيجل وهي:

أن المثالية الحديثة كلها بما فيها هيجل تقول بأن العالم كله روح، بما فيه الكراسي والشمس؛ في دلالة على عدم انفصال المدرك والمدرك كقضية (الوجود هو الإدراك) البيركلية ... وهذا يتبعه تصور معين للوحدة الهيجلية وتسذيج غريب لها بالنسبة للباحث: (أسميها ساخرا وحدة القرع الكبير بحباته البيضاء).

ويسعى الباحث لمحاربة الفكرة المتوغلة الآن في المحيط الفلسفي وعند مختصيه قبل الهواة: (تعقد الفلسفة الهيجلية وكونها لغو)، ببيان مدى بساطة الفكرة الهيجلية في جوهرها.. وذلك بالاعتراض على أعظم الاعتراضات على الفلسفة الهيجلية في عالمنا المعاصر (مقالة مور التي بين أيدينا والتي قيد المناقشة).

لقد سعى الباحث الجمع بين جوهرية الفكرة الهيجلية وبين تبسيطها وبين نظرته العامة واستنباطاته الخاصة وهو شيء بالنسبة لي أصبح بعيد المنال في بعض الأبحاث أو معظمها حول هيجل...إما نظرة اختزالية وإما تيه في الثانويات وعدم إدراك الفكرة في جوهريتها وخلوصها أو غايتها النهائية.

ويسعى الباحث تضمنا بيان كيف هي فكرة هيجلة وفلسفته شاملة وضرورية لكل معرفة يقينية عقلية صارمة، وربما تكون وحدها الآن من تقف ضد شكية العصر المتطرفة والملغية أحد الخواص الضرورية للمعرفة كالذات أو العالم أو الله. وبيان بذلك ما ماهية الوحدة الهيجلية والتي أخطأ مور تصوريها وتفهيمها المتلقي.

يقول مور مبتدئًا مقالته كالتالي: «المثالية الحديثة إذا أكدت أي خلاصة حول الكون ككل فإنها تؤكد أنه روح» (Moore, 1903, p 23).

 … «الكراسي والطاولات والجبال تبدو مختلفة جدًا عنا لكن عندما يعلن أن الكون ككل روح فإنه يؤكد أنهم يشبهوننا أكثر بكثير مما نظن.» (ibid, p 23).

فأقول أولاً هيجل بالتحديد لم تأتي مثاليته إلا لنقد هاته الفكرة بعدما سعت مثلاً مثالية بيركلي وفيخته.. لنفي العالم الخارجي وجعله مجرد فكرة، يقول هيجل في مرحلة مبكرة من عمره: «تحتفظ المثالية الدغمائية بوحدة المبدأ من حيث تلغي بالجملة الموضوع وتضع واحد من المتقابلين، الذات في تعيناتها كأنه المطلق، مثلما تلغي الدغمائية أعني المادية على خلوصها الذاتي» (هيجل، 2007، ص167).

ويقول: «فلابد للفلسفة ان تدفع عنها مصادقة مثل تلك المحاولات الكاذبة التي تزعم بلا حياء نفي الجزئيات». (السابق، ص 129).

فإن هيجل يضع هركارية ظاهرة وينص على ذلك حرفيًا.. ينص على وجود الباطل والشر، الألم، الطبيعة كوجود قاصر غير جوهري وما يتجاوز الطبيعة العقلي الفكرة الجوهري، الروح ... يقول:

«...الخارجية، الآخرية، باختصار: التناهي، أو النقص على نحو ما يمكن أن يتحدد هكذا بشكل أفضل إنما ينحط إلى وضع شيء غير ماهوي، ويعرف على هذا النحو...هو لحظة عابرة تتلاشى، وليست عنصرًا حقيقيًا و ماهويًا ودائمًا ومطلقًا بأي حال من الأحوال» (هيجل، 2004، ص 145). وفرق بين الوجود والتصور نفسه يقول: «إن الوجود والفكر، الاصطباغ المثالي والواقع مختلفان الواحد عن الآخر بل هما متعارضان» (هيجل،2003، ص 164). ويفرق بين الذاتي والموضوعي، بين المدرك والمدرك، يفرق بين الفردي والكلي والشخصي ... بطريقة ظاهرة للغاية، بل إن هيجل قصا للغاية على الطبيعة وعدها نقيض العقل وضياعه. يقول: «الوجود الفردي الزائل ليس بالفردية الحقة، الوعي حين يعلم ذلك سوف يتخلى عن بحثه عن الفردية الثابتة بما هي وجود فعلي، أو سوف يكف عن التثبت بما قد زال عندئذ وعندئذ فقط سوف يتاح له أن يجد الفردية في صورتها الصادقة أو الكلية» (هيجل، 2001، ص164).

فالعالم بعبارة واحدة يضم هركارية ظاهرة واضحة. لكن كيف وما هي الوحدة الهيحلية هنا وما مبرراتها وبراهينها ببساطة ؟ والتي تكلم عنها مور بغرابة وصورها كـ: القرع الكبير؟

إن الوحدة هنا ليست هي وحدة إدراك الوجود بالطريقة البيركلية من أن المدرك هو المدرك لا تمايز بينهما البتة كلا. بل إن الوحدة هنا طريقها أولاً هو الوعي باغتراب الذات في عالم الطبيعة وبأن العالم أمامها، الوجود هناك كالكرسي والشجرة يوجد على نحو الفلسفة التجريبية مثلاً بغير معنى للذات كما هو اعتراف «هيوم» مثلاً، إنها مجرد واقعة لا تنتمي إلى الذات ولا دخل للعقل فيها، لا يستنتجها لا يتوسطها لا يفهمها ضمن نسق أعلى منها.  إذ على هذا التصور للعالم الخارجي تبقى الطبيعة أو الموضوع المادي أمامه شيء مجردًا لا معنى له، مجرد واقعة موجودة» الوعي الطبيعي إنما هو تصور للمعرفة أو معرفة غير متحققة».(هيجل، 2001،  ص 86).

...إن كل معرفة للحسي المجرب هي تمثل واسترجاع للذات بالمقارنة والاستنتاج إن الشجرة التي أمامي حكمت أنها شجرة لأن لدي معرفة سابقة عنها ولأنها تدخل في علاقات عدة مع أشياء غيرها كاللون الأخضر لون ورقها، واللون البني لون جذعها، جمالها جلالها، عطاؤها ظلها، تاريخها، وتتشكل هكذا معرفتها بمئات أو الآلاف من العلائق (كليات ذاتية) لنحصل في الأخير على معرفة بالشجرة، فأنا لم أعرفها حتى انتزعتها من جزئيتها ووضعتها في سياق الذات، يمكننا استحضار هنا تفريع فيتجنشتاين اليوم وحتى كواين (لا معرفة من غير سياق) ...

وما تقدم هو بعض المقصود بالوحدة بين الذات والموضوع الهيجيلة أي أعرفها حصرا عند اسقاط ذاتي عليها باعتبارها كلي. وليست (أنا= هي / وحدة القرع الكبيرة)... يقول هيجل: «... فحقيقته الآن في الموضوع من حيث هو موضوع لي أو من حيث أحيل أنا إليه: إنه موجود لأني أعلمه. بهذا يتم قطعًا طرد اليقين الحسي من الموضوع ولكن ذلك لا يعني أن هذا اليقين قد بطل، بل كل الأمر أنه قد رد إلى الأنا، وعلينا أن نرى ما تسفر عنه الخبرة المأخوذة بواقعيته الأخيرة هذه»(هيجل، 2001، ص 83). ويقول: «ولكن لما كان على الفرد... من حيث يفكر أن يدرك العالم الحسي بأسره باعتباره نسقًا فكريًا، لما كان الأمر كذلك فقد لزم أن يوجد في الفكر نفسه.. من أجل انطلاق الفكر مضمون ما هو حق، بحيث لا يعود ما يمثل للوعي مشتملاً على أي مقوم حاشا التصور الذي هو الماهية» (هيجل، 2006، ص 467).

ويقول عن الذات: «من خلال الملاحظة تجد من ناحية الوجود في شكل الفكر وتفهمه، والعكس في تفكيرها تفهم الوجود عندما تبدأ به، وهكذا قد عبرت عن الوحدة المباشرة للفكر والوجود، وحدت الماهية المجردة والذات «(Hegel, 1977,p 488).  أي أن الوجود الخارجي المباشر لا يكون له في جزئيته معنى حتى أسقط تفسيري عليه (الكلي أو المفهوم).  وهذا يسميه هيجل بالتوسط أو السلب، أي سلب مباشرية الموضوع، استقلاله عن الذات.  

وعند التأمل الذي هو وفق حتى الأسلوب «الهيومي» نفسه فإن الطبيعة، الحسي المجرب تظهر باطنها الذي هو الكلي إذ الكرسي أمامي لا يزيد على أن أقول أنه هو (الهناك) حتى يظهر امتداد يتجاوزه. فيتحدد (الهناك) بغيره ويذهب الكرسي ويبلى ويفنى ويبقى الهناك كإطلاق لا يتحدد به بل بغيره، ولا تلبث (العاشرة) أن تصير إلى ما بعدها العاشرة وجزء من الثانية، تنصرف العاشرة وما بعدها من عدد وتحديد ويبقى (الآن) في إطلاقه في كليته ...إن اليقين الحسي نفسه لا ينبي إلا عن الكلي. يقول: «الإشارة تتجه إلى الآن، هذا الآن، .. لقد كف عن أن يكون إذ تنصب الإشارة عليه، فالآن المستمر على الوجود غير الآن المشار إليه، وإنا لنرى أن الآن هو ذلك على التحديد زوال حين يكون، سبق إلى الماضي إذ تتجه الإشارة إليه. تلك هي حقيقته، وهي خلاف الوجود، ومن الصحيح مع هذا أنه قد كان. نعم، ولكن ما كان، ما هو ماض، ليس هو بحال: فما هو بالموجود ولقد كان الوجود شاغلنا» (هيجل، 2001، ص 85).

ويقول: «إن الفردية المحسوسة تختفي في سياق الحركة الجدلية لليقين الحسي وتصبح كلية.»(هيجل، 2001، ص 101). يقصد أن ما هو باقي ليس هو الجزئي هناك من حيث هو مكان أو زمان إنما الباقي هو الكل، الزمان المطلق والمكان المطلق الذي لا يوجد في ظواهر الأشياء بل في باطنها وفي  الذات باعتبارها (باطن)، (تصور)، (مفهوم)،  فيقع أن تعرف الذات كباطن (باطن/الكلي): الظاهرة الذي يعبر إلى الذات عن طريق ظاهرها (تعاقب الجزئيات كالدقائق والكراسي/ الأماكن) فيرسم الكلي، المفهوم:   كالزمان والمكان، فتستمر معرفة وحدية (وحدة الباطن الناظر/ الذات، في باطن الظاهر/ الظاهرة) يقول: «الذات هي الكلي الذي ندع فيه جانبًا كل ما هو جزئي، والذي توجد فيه، في الوقت ذاته، جميع الجزئيات وجودًا مستترًا. وبعبارة أخرى ليست الكلية ولا شيء غير ذلك، وإنما هي الكلية التي تشمل في جوفها كل شيء آخر.» (هيجل، 2007، ص 101).

والذي نفهمه مما تقدم أن هيجل بهذا النحو من التصور يزدري مطلقًا الجزئي (الكرسي، العاشرة)، بل التحدد بهم والتركيز عليه هو مصدر الوهم بل إن الصادق فيهم هو ما يعربون عنه: (الكلي).

والبرهنة على المتقدم من نواحي عدة خد مثلاً: الشيء لا يكون هو إلا وهو محدود بغيره، إن الشجرة لا تكون شجرة إلا بوجود  تراب وماء ...إن العين لا تكون عينًا إلا وهي مبصرة إلا ووجود الضوء، إن السيد لا يكون سيدًا إلا بوجود العبد ...إن الشيء الجزئي هنا لا يتحدد إلا بغيره  وإذاك يكون حده وفناؤه فيه، إنه ببساطة لا يكون حتى يكون نافيا لنفسه وإذاك لا يكون إلا في خدمة الكلي راسمًا ظهوره وجلاله والقانون أي قانون طبيعي أخلاقي لا يرسم إلا بفناء وحركة الأشياء الجزئية وعدم ثباتها، إنه لولا (فناء /حركة) كواكب  مجموعتنا الشمسة لما كان قانون عنها وعرف ولما استمر...إن القانون ليس إلا وحدة الأشياء المختلفة وفناؤها معًا... ويوقع العقاب على القاتل والغاية ليس قتله في ذاته...لكن لكي يبقى القانون، المفهوم، العدل..

يقول هيجل: «هناك إذن ضرورة تملي على الوعي تلك الخبرة التي بمقتضاها ينهار الشيء تحديدًا بواسطة الفصل المكون لماهيته ولوجوده لذاته. هذه الضرورة يتسنى إيجازها في تصورها المعقول: يوضع الشيء على أنه وجود لذاته أو نفي مطلق لكل وجود غيره، وبالتالي على أنه نفي مطلق مبتوت الصلة إلا بنفسه، ولكن النفي المطلق المبتوت الصلة إلا بنفسه يعدل إلغاء نفسه هذه أو يعدل قيام ماهيته في غيره». (هيجل، 2001، ص 100). يقصد هيجل ان الشيء كونه لا يتحدد إلا بغيره كالضوء لإبصار العين فإن العين لا تكون عينًا إلا بالضوء ونفي العين للضوء واعتباره ليس من ماهيتها هو نفي لها في الحقيقية. إذ العين لم تكن عينا إلا لكونها مبصرة.

ويقول: «الوعي ...فعل تجاوز الحد، فإن تعلق الحد به تجاوز ذاته. فالوجود الفردي إذا اندرج في الوعي انضاف إليه أفق من الموراء ولو اتخذ أبسط الصور، صورة الحدس المكاني ما بجانب الحد.» (هيجل، 2001، ص70).

والتعبير الهيجلي ظاهر فالعلم التجريبي كله يفسر الشيء بعلته مثلاً.. وهذا تجاوز للشيء الجزئي بلا رجعة إلى ما وراءه، وحلم الفزيائيين اليوم: نظرية كل شيء! 

ويقول: «فالموضوع...هو بالأصح ضد نفسه: لذاته من حيث كونه لغيره ولغيره من حيث كونه لذاته. إنه قائم لذاته، مطوي عليها، واحد، ولكن هذا الواحد القائم لذاته، المطوي، لا ينفصم وجوده من وحدته بضده الذي هو الوجود للغير، ولذا كان الوجود لا يسند إليه إلا باعتباره موجودا ملغيا، وبعبارة أخرى: إن هذا الوجود للذات لا يقل في إضافيته عن العلاقة بالغير، إلا وهي العلاقة التي نريد قصر اللاماهية عليها»(هيجل، 2001، ص 100-101).

إن الشيء الجزئي أيًّا كان لا يمكن التعبير عنه حتى إلا وهو كلي. إن الطاولة التي أمامي قطعًا ليس هي التي تعرفها أنت. إنها مختلفة كجزئية قطعًا، وإذ أنطق باللفظ (طاولة) يكون المعنى عامًا جدًا وكليًا يحفظ قانون الطاولة الكلي ويعبر عنه كذلك ليصلك المعنى. إنني أخالف تمامًا ما أعنيه بالإشارة الجزئية عند الكلام، إذ لا انطق إلا بالكلي حصرًا...يقول: «والحق كما نرى مع اللغة: فيها ندحض نحن أنفسنا ظننا على الفور فما دام الكلي هو الحق المشتمل في اليقين الحسي، وكانت اللغة لا تعبر إلا عن هذا الحق وحده، فقد استحال علينا أن نفوه بالمحس الذي نظنه موضوعنا في هذا اليقين.» (السابق، ص 82).

ويقول: «أشكال الفكر وضعت وخزنت أولا في اللغة الإنسانية، في كل شيء قد استنبطنه الوجود الإنساني، في كل شيء بطريقة أو أخرى قد أصبح تمثلاً لهم، في كل ما صنعه هناك لغة اخترقته، وكل شيء يحوله إلى لغة ويعبر عنه يتضمن مقولات، سواء كانت مستنبطة أو مختلطة أو محددة جيدًا.» (Hegel, 2010, p12)

فإذا كان الشيء لا يعرف إلا بآخر ولا يقال إلا بآخر فما هو في ذاته إلا رسم للآخر (النفي البسيط) أو (الكلي الدائم). يقول هيجل: «العقل هو سلبي وجدلي لأنه يحل تحديدات الفهم في العدم، إنه إيجابي لأنه ينشئ الكلي ويفهم الجزئيات داخله» (ibid, p 10).

لكن مع ذلك ومع أن هنا الكلي هو الحقيقة وهو أقرب من الذات وقد يفهم  منه وحدة  معها، إذ هي عند هيجل كلية خالصة، فكرة، وتصور، إلا أنه مع ذلك ليست في وحدة مطلقة، لأن الكلي هنا ليس إلا كلي طبيعي، غريب عنها لأنه محدد ككلي (ميكانيكي)، إذ كحركة المجموعة الشمسية إنها تبدي انضباطًا متحكمًا فيه لا تبدي حرية لذواتها، إنها تكرر نفسها بدون غنى بدون كسر في قانونها، إنها ثابتة جامدة أو فراغ ، الشيء الذي يعيد نفسه وإن كان لا متناهي لا يعبو أن يكون عدا فارغًا، لكن الذات كلية حرة أخلاقية ...كل هاته الأشياء ليست موجودة في الكلي الميكانيكي ...إنها تكون خارجة عن مطابقة تامة بين الذات والموضوع أو العلم والمعلوم أو أن تفسر الذات أو معارفها.

إن الحر حرية مطلقة وذا الارادة المطلقة هو الله وحده وإذ تدرك الذات هذا المفهوم ترجع فتهم جيدًا الظواهر وتكون في أمان في إسقاط مقولاتها عليها لأن أصلها حر وخير وجمال.

وبهذه المفاهيم نعم تقع الوحدة، إذ الذات ببساطة لا يمكنها أن تتحدد عبر مفاهيم طبيعية أدنى منها كالكرسي وغيره، إذ يظهر منه قصور تام حتى في تفسير نفسه، الكرسي يتحدد بغيره بالنجار مثلاً الواعي الحامل لصورة عقلية ذهنية (الكرسي). ووحده الذي  يفسر نفسه بنفسه هو الله المطلق ... وهي هنا لأول مرة تسمو الذات وتعي مثل هذا المفهوم ترى صلاحية تفسير نفسها عنه أي هو مصدرها ... وهو مفهوم ذاتي لا تحتاج الذات لخروجها عن نفسها في معرفته كالطبيعة التي هي نقيضة لها (غير عقل في جزئتها)  لا يبدو منها في جزئيتها العقل، لا تبدو منها الحرية،  إنها تحدد عبر ما هو خارج عنها دائمًا وأبدًا... وهي كذلك فقط الذات  حرة لأن مصدرها حر، مطلق وكذلك هي،- (ويمكن استحضار هنا انعكاس بعض المؤمنين بكون أصل العالم قوة غامضة غير حرة وغير عاقلة كاسبينوزا على كون الذات نفسها غير حرة، ويمكن فهم هذا الأمر من اعتقاد انشتاين لفكرة سبينوزا حول الله وانعكاسها على رؤيته للكون وذاته) - إنه علم وروح وكذلك هي وهكذا عندما  تعي الذات  هاته المسألة  تعي نفسها أنها  من مصدر إلهي، فإنها تكون تدرك ذاتها بذاتها، ويطابق ذاتها موضوعها، إذ لا تدرك شيء  غريبا عنها كالكرسي الطاولة.. إنها في عالمها الحق، عالم روحي تمامًا... هنا تصبح الذات هي الموضوع أو العاقل والمعقول ليس بمعنى مور المزجي كما صوره في اختلاط العصير.

لا بل وحدة عقلية روحية معرفية بمعنى أن المعرفة تصبح يقينية ولا يصبح الموضوع غريبًا عن الذات. كون الموضوع غريبًا عن الذات كونه ليس الجوهري فيه مقولات الذات.. ليس حرًا ليس واعيًا بذاته، ليس فكرًا ... محتاجًا دائمًا لغيره، وإذا كان لا ينتمي إلى مقولات الذات فإن المعرفة ليست يقينية، هنا قد يتشكك في كونه يعرفها لأنه يتشكك في انطباقها عليها وأن انطباق المقولات الكلية عليها التي هي الضامن للمعرفة إذ المعرفة من أهم خصائصها الثبات. فإنه يبقى دائمًا واقعة عرضية بدون تدخل شيء عقلي كلي منضبط هو من صنعه الذي هو المطلق. أما هذا الأخير فمقولات الذات تنطبق عليه تماما ككونه حرًا وخالدًا ...وخيرًا وجمالاً ...فتعود مرة أخرى بثقة كاملة لتسقط مقولاتها على الكون ككل لأنها عرفت مصدرها عقلي وأنه عالم، ويمكن استحضار هنا في يومنا المعاصر علماء فزياء وبيولوجيا وفلاسفة كبار يمنعون إصدار أي حكم على أي ظاهرة باعتباره مجرد حكم ذاتي وأن رؤيتنا للظواهر لا يعكس حقيقتها لأن الظواهر ليست عقلية في ذاتها وإنما ذلك مجرد خيال من الذات ومحاولة إسقاط أحكامها عليها.

إن الذات التي تعي تمايزها عن الطبيعة باعتبارها ذات أخلاقية وكلية وحرة لا ترى مثل هاته الصفات إلا في الإله «المحتوى المطلق». (Hegel,1977).

يقول هيجل: «إن الله وحده، هو الانسجام التام بين الفكرة الشاملة والواقع، أما جميع الأشياء المتناهية فهي تحمل جانبًا باطلاً غير حقيقي، فهي لها فكرة شاملة ووجود فعلي، غير أن وجودها لا يفي بمتطلبات الفكرة الشاملة، وهي لهذا السبب لابد ان تفنى وعندئذ يتبدى بوضوح التعارض والتناقض بين فكرتها الشاملة ووجودها..» (هيجل، 2007، ص 106).

يقول هيجل في رسم عالي لمصار الروح ذاك عودتها الى ذاتها منهيا بذلك كتابه فينومينولوحيا الروح: «الهدف، العلم المطلق، أو الروح الذي يعلم نفسه كروح، إنما سبيله استذكار الأرواح واستنباطها كما تكون في حد ذاتها وتأتي نظام ملكوتها فأما حفظ تلك الأرواح بحسب كيانها الحر والمظهر في صورة العرضية فإنما هو التاريخ - (قلت: يقصد ظهور الروح بشكل ليس مفهومي  بشكل حسي عرضي في عمل الذوات الروحية كالفلاسفة والشعراء، الفنانين... كالقصائد، والرسومات، كالمؤسسات الاجتماعية، القوانين الأخلاقية... الأعمال التي تنم على تجاوز الطبيعة على الروح لكنها لا تصل إلى المفاهيم الفلسفية المحضة... كمفهوم العلم المطلق الهيجلي الذي هو الله في أساسه) - وأما من وجهة نظامها المفهوم، (قلت:  يقصد بالمفهوم مفاهيم الذات المحضة التي لا توجد إلا في الله. وهو متصور كمفهوم محض، موضوع مطلق للذات) فهو علم المعرفة المظهرة؛ وكلاهما معا، التاريخ والمفهوم، إنما يكونان ذكر الروح المطلق ومحنته حقيقًا وحقيقة وإيقان عرشه الذي كان يكون من دونه المتوحد العري من الحياة - (يقصد أن الاغتراب عن الذات عن الله في غيرهما كالطبيعة... هو محنة وبلاء ضروري للرجوع مرة أخرى إلى الذات التي تستذكر الله عبر عمل الأرواح الروحي في التاريخ وعبر المفهوم، الفلسفة التأملية) - إذ فقط

من كأس ذلك الملكوت الذي الأرواح يصعد إليه زبد لا تناهيه» (هيجل، 2006، ص 774).

خاتمة:

إذن ببساطة تامة وكما هو غرض مقالي من أساسه:

هيجل لا يضع الموجودات في مرتبة واحدة كما زعم (مور) وكما بينت فإنه يجعل تمايزًا مطلقًا بين الذات والعالم والله. والوحدة الملاشية للتمايز تلك كانت فكرة (بيركلي) و(فيخته) وقد أخطأ مور خطأ تام هنا بحق هيجل.

مفهوم الوحدة عند هيجل هو ببساطة ضرورة وجود  (الذات) و(العالم) و(الله) لحصول أي معرفة يقينية ولا يمكن ملاشاة أحدهما أبدًا ومع ذلك  تحصيل أي معرفة يقينية  كما بينت... أما بيركلي فإنه يلاشي العالم لصالح الذات وكذلك كانط الذي ينص على أن أي شيء ما هو إلا صنيع مقولات الذات ويمر حصرًا من خلالها والذات لا تعرف إلا الظواهر... أو نفي الذات كما تفعل فلسفة (هيوم) عندما تجعل كل معرفة هي فقط نتاج انطباعات حسية لا تلبث أن تخفت وتصبح أفكارًا كلية خافتة والذات في ذاتها خواء... فإن هيجل يبين أن أي معرفة برمتها تبتدئ وتنتهي بتوسط الذات وأن هذا ليس إسقاطًا من الذات كفكرة كانط أو هيوم بقدر ما أن العالم الخارجي هو أصلا باطنه نفس مقولات الذات.

والاستدلال على ذلك بسيط: أولاً مثلاً كانط لم يمكنه التفريق بين (النومين) و(الفينومين) إلا عن طريق الذات وإلا وهو يعي أصلاً (النومين) إن معرفة الحد تجاوز للحد أي هو يعرف النومين وهو فقط يصيغ فكرة متناقضة فيقول: (أنا أعرف النومين لكنني لا يمكنني معرفته).

وكذلك لا يمكن لهيوم ولا بيركلي ولا كانط أن يصيغوا أي فكرة دون مفاهيم كلية مستمرة. إن اللغة في ذاتها كلية.

وكذلك كل خبرة حسية نفسها تظهر ما يبطنها الذي (المفهوم، الكلي، الاستمرارية) وهاته هي خاصية الذات.. فتتوحد الذات بالموضوع على هذا النحو أي تجد أن خصائصها (الاستمرار المفهوم البساطة) خلف الظواهر الجزئية التي تبدو أنها ذرية (وهما) يرى العقلية خلفها - وقد بينا كيف ذلك ببساطة في الأسطر السابقة - ولكن مع ذلك لا يظهر منها باقي مقولات الذات (كالحرية، التفسير الذاتي لذاتها)... ومن هنا ننطلق إلى الفكرة الثالثة:

وهي أنه عندما نصل إلى مفهوم الله وهو الشيء الذي يفسر نفسه بنفسه والحر مطلقًا والخير والجمال... ونعي أنه هو خلف ظواهر العالم فإننا نكون في يقين تام في حدسنا بأن العالم مصمم كعقل وكجمال وكخير ولا نتشكك في ذلك ويمكن استحضار هنا كيف أن سارتر في كتابه (الغثيان) عندما تبدلت نظرته للكون إلى الالحادية كيف رأى الشجرة أمامه والحديقة وكل شيء بصورة مخالفة للغاية بصورة غريبة عن الذات بضياع وتيه تام.

فالوحدة الهيليجة ليست وحدة وجود حلولية بقدر ما هي الدرجة التي يصل إليها الوعي بالمضوع فيعي تماما أنه يعلمه يقينا وذلك هو مفهوم العلم المطلق عند هيجل. أو تطابق ماهية الذات والموضوع.

والفلسفة الهيجلية بسيطة في جوهرها ولها أهمية قصوى الآن لأنها فلسفة عقلية شمولية لا تقصي أحد الأطراف سواء في الوجود أو في المعرفة وهي سلاح قوي للغاية ضد شكية العصر واختزاليته معًا.

 

الهوامش والإحالات:

- هيجل. ( 2004).   محاضرات فلسفة الدين الله والفكرة الخالدة.   مكتبة دار الكلمة. القاهرة.

- هيجل. (2003). محاضرات فلسفة الدين الديانة المطلقة. مكتبة دار الكلمة. القاهرة.

- هيجل.(2001). علم ظهور العقل. ط 3. دار الطليعة للطباعة والنشر. بيروت.

- هيجل.(2006). فينومينولوجيا الروح. ط 1. المنظمة العربية للترجمة. بيروت.

- هيجل.(2007)   موسوعة العلوم الفلسفية. ط 3.  دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت.

 

- Hegel.(2010).   The science of logic.   Cambridge University pres. new York.

  www.Cambridge. Org.

- Hegel.(1977) .  Phenomenolodgy of spirit.   Oxford university press. New york.

- G. E. MOORE.(1903)  .THE REFUTATION OF IDEALISM, Mind. Volume XII.

 https://doi.org/10.1093/mind/XII.4.433 .

- Priest, S.(1990)   The British Empiricists.   Penguin Books. New york.


عدد القراء: 1791

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-