أي مستقبل ينتظر السرد العربي؟الباب: مقالات الكتاب
د. لنا عبد الرحمن روائية وناقدة |
حين نستخدم كلمة "مستقبل" للحديث عن السرد، فإن دلالة الكلمة تشتمل على فعل استقرائي أكثر مما هو آن.. المستقبل هو الغد بكل ما فيه من توقعات ونبؤات تتماشى مع الواقع الراهن وترتبط به. إن ما يمكن قوله عن غد السرد لا يرتبط بيومه وحسب، بل بتحوله إلى "علم" تتقاطع فيه العديد من العلوم والمعارف الأخرى، سواء في شكل السرد وطرائقه المتشعبة، أو في مضمونه الذي تمكن من استيعاب عدة فنون أخرى. فظهرت تقاطعات فنية ضمن فن واحد (الرواية) مثلاً التي استوعب مضمونها الكلام عن الفن التشكيلي والموسيقى والشعر، وغير ذلك من الفنون.
وفي القرن الواحد والعشرين الذي بلغ فيه الإنسان أعلى درجاته سواءً في العلوم، أو الفنون، والتكنولوجيا، والتقنيات الحربية أيضًا؛ في زمن عولمي يتسم بالعشوائية والتناثر والانعزال، وعدم الثبات والاستقرار في شتى المفاهيم، تبدو تحديات المستقبل بالنسبة للسرد أيضًا كامنة في ثورة العلوم والتكنولوجيا الحديثة، حيث يظل العلم يبحث عن حلول جذرية لمشكلات العالم، بينما الفن يطرح الأسئلة عما يدور في هذا العالم، عن أزماته وأوبئته وكوارثه وتغيراته الحتمية التي ستؤدي للواقع الجديد.
***
في الحديث عن "مستقبل السرد" سوف أستعين بدلالات النقد الثقافي، الذي لا يفصل الثقافة عن الحياة العادية، ولا السرد عن واقع الأماكن وحياة سكانها، بتاريخهم وتراثهم، تفاصيل بيوتهم، عاداتهم تقاليدهم، لهجاتهم الشعبية، وأطباق طعامهم، فنونهم الإبداعية، وطقوسهم اليومية في القرى والمدن، في الصحاري وعلى الضفاف. من هذه التفاصيل يستلهم الروائي نسيج سرده، ويُكون معادلته الخاصة، التي تحمل القارئ نحو حكاية وحقبة، نحو زمان ومكان، تاريخيا وجغرافيا.
هكذا يكون جسر السرد الذي يرتبط بالذاكرة هو عينه الذي يمتد ليشتبك مع الغد، دامجًا بين الحضارات، وبفضل ما يحدث اليوم من نهضة معلوماتية من خلال شبكة الانترنت ووسائل الاتصال والتقنيات الحديثة التي أثرت على قوام الحياة اليومية، يحصل التمازج الكبير الذي ينعكس بشكل واضح على النتاج السردي العربي، مع حضور وانتشار ثقافة السرد البصري، والقص التفاعلي بغض النظر عن الزمان والمكان للمتلقي.
مكنت صفحات التواصل الإجتماعي كل فرد من أن يمتلك مساحة خاصة للبوح عن حدث أو موقف أو حكاية حصلت له أو لآخرين، شاهدها أو سمع عنها، أصبح لكل شخص حكايته، ومن منا لا يملك حكاية؟
لكن هل يسمى هذا قص، هل له علاقة بفن الروي أو بالسرد التخيلي؟ للوهلةة الأولى تأتي الإجابة عفو الخاطر لنقول: لا، لأن للفن مقاييس أخرى، بيد أن الواقع يُثبت العكس مع ظهور عدد لا بأس به من الكتب السردية والشعرية التي وضعها أصحابها بين دفتي كتاب بعد أن كانت نصوصًا منشورة عبر مدونة أو صفحة الكترونية شخصية، ولعل الأكثر حداثة مؤخرًا هو تجميع هذه المنشورات لتتحول إلى كتاب يتم نشره إلكترونيًا أيضًا وبشكل فردي دون الاعتماد على دار نشر، وهذا التوجه بدأ يلاقي رواجه خاصة بين جيل الشباب، مع وجود منصات كبيرة مثل أمازون تتيح النشر الفردي بسهولة.
***
أثرت التكنولوجيا من منظور ما بعد الحداثة على الفنون عمومًا، غدت صناعة الفن ككل سريعة، وغير معنية بتقديم تبريرات لهذه التحولات. فعلاقة الفنان مع الكمبيوتر لم تكن بمنجى عن حدوث تغيرات في التلقي الجمالي، في الفنون البصرية هناك السينما الثلاثية الأبعاد والجرافيك، وفي الفنون السمعية هناك الموسيقى الالكترونية، وفي الفنون الكتابية ظهر الكتاب الإلكتروني، والكتاب المسموع الذي حول القارئ إلى مُشارك بعد أن كان الفاعل الأوحد في علاقة فردية بينه وبين الكتاب، الآن صار هناك طرف ثالث يقرأ الكلمات للقارئ.
يشهد السرد تحولات بسبب التغير العالمي من حولنا، ويحضر السؤال الذي يطرح نفسه أيضًا عن قارئ المستقبل؟ فالقارئ وهو المتلقي والمتصفح لم يعد ينتظر ما ستنشره دور النشر الكبرى في العالم العربي، إذ أصبح متاحًا له عدة مصادر معرفية أخرى تُحاكي ما يحدث حوله بأسرع مما يفعله الكتاب المطبوع. لكن من هو هذا القارئ؟ بل كيف سيكون قارئ المستقبل؟ وما هو مستقبل السرد في ظل سيطرة الميديا الاجتماعية وإشعاع شاشاتها، في ظل صورة (الإيموجي) التي تختصر جملة، وفي ظل تغير معطيات السرد مع حضور شبكات التواصل الإجتماعي.
ربما يحق لنا طرح هذه الأسئلة ليس لأنها تبعث القلق على مستقبل السرد، بقدر من أنها تنبه لتغيرات آتية كنتاج طبيعي لتحولات العصر. فالبشر الآن يبتسمون افتراضيًا، ينفعلون، يغضبون، يتشاجرون عبر وسيط هو الشاشة، إنهم يعيشون في زمن افتراضي مواز للحقيقي.
واقع السرد
لا يمكننا فصل السرد عن الواقع الحالي بكل ما فيه، من حروب وسلام، من استقرار أو تدهور اقتصادي، من نهضة علمية وفكرية أو انحدار. إن ما يواجهه الروائي في العالم العربي، هو عينه ما تواجهه سائر المجالات المعرفية الأخرى. وما ينبغي علينا الاعتراف به هو أن المشكلة الأعمق تنغرس جذورها في الالتفات للماضي، والتحرك البطيء للبحث عن حلول عوضًا عن التفكير في المستقبل بعقلية تسترشد بالعلم ولا تستنجد بالأمس البعيد.
إن الواقع المعاش يحمل في طياته دلالات مستقبلية حول الغد السردي بما يتهدده، وما يدعمه. لقد قدمت الرواية السردية – وماتزال- انعكاسات بينه عن الوقائع، لنراجع الأعمال السردية التي صدرت منذ قيام ما اصطلح على تسميته "بالربيع العربي"، وسوف نجد أن القضايا المطروحة في معظمها تتناول: الحروب، الهجرات، اللجوء، والمآسي الإنسانية المتدفقة. لقد استطاعت العديد من الروايات أن تسجل من وجهة نظر ابداعية وفنية رؤية تاريخية نحو هذه الأحداث المهولة، التي لا يمكن عبورها سرديا بسهولة، وسوف يستمر السرد لأعوام أخرى مُعبرًا عن هذه الحمولة الثقيلة لأن الحدث لايزال مستمرًا.
هذا الكلام ينطبق أيضًا على أزمة أخرى واجهها العالم منذ شهر ديسمبر 2019 هي وباء كورونا؛ والآن بعد مرور ما يزيد عن عام ونصف على ظهور الوباء، نجد على رفوف المكتبات أعمالاً ابداعية محورها ما حدث خلال العزلة الإنسانية التي فُرضت على البشرية.
كتب الروائي الجزائري واسيني الأعرج روايته "ليليات رمادة"، تناول فيها قصة حب بين عازف وطبيبة واختار أن تدور الأحداث خلال انتشار الوباء فيصاب بطله بالمرض ويكون على كلا البطلين مواجهة الأفكار الوجودية المرتبطة بالحب والمرض بالموت والفناء.
تحت عنوان "لون الغد" رؤية المثقف العربي لــ"ما بعد كورونا" أصدر الكاتب الكويتي طالب الرفاعي كتابه الذي ضم رؤية أكثر من ثمانين مبدعًا عربيًا لما ستكون عليه الحياة بعد الجائحة.
وكتبت الروائية والشاعرة المغربية عائشة البصري روايتها " كجثة في رواية بوليسية" أثناء فترة الحجر الصحي في المنزل، كذلك فعل الكاتب العراقي حسن عبيد عيسى حين كتب روايته "وهم الكورونا" مستلهمًا أجواءها من حالة الخوف والهلع الذي يعيشه العالم.
أما الكاتبة أماني التونسي فقد نشرت روايتها _"ليالي الكورونا.. الحب في زمن الكورونا"_ إلكترونيًا عبر احدى المنصات. ليست قليلة الأعمال الأدبية التي تناولت ما حدث في حياتنا منذ ظهور الوباء، من تحولات نقلت العالم من حيز الواقع إلى إلزامية الحياة الإفتراضية سواء في العمل أو الدراسة أو التواصلات الاجتماعية. فالعزلة البشرية غدت سمة هذه المرحلة، ومن الطبيعي أن تؤثر جملة هذه الوقائع على الكاتب بشكل مباشر، سواء من كتب عن معاناته من الإصابة، أو من تحدث عن التأثيرات النفسية لما يحدث في العالم، أو عن كليهما. وهذا لا ينطبق على كُتاب العالم العربي فقط، فقد صدر كتاب "عدوى" للروائي الإيطالي باولو جيوردانو في شهر مارس 2020، حين كانت الجائحة في ذروتها، كما شاعت في الصحف الغربية في ذلك الوقت كتابة يوميات العزلة، مثل تلك اليوميات التي ظهرت في صحيفة "اللوموند" الفرنسية، وشارك فيها كتاب من مختلف الأعمار.
هذا النوع من اليوميات قرأناه أيضا في الصحف العربية والمواقع الإلكترونية والصفحات الشخصية للكتاب والكاتبات، وشاهدنا عبر فيديوهات مصورة كيف ممكن أن يختلط فعل الكتابة مع لحظات الطهو في المطبخ، أو اعداد كيكة البرتقال.
***
إذن، من البديهي للروائي العربي أن يحكي عن معاناته الطازجة، بل ومن البديهي أيضًا أن يعكس السرد النافذ البصيرة رؤى متجددة لذات الحدث عقب مرور الزمن. على الرغم أن ما سيُكتب لاحقًا عن أي أزمة كبرى هزت البشرية سوف يكون مختلفًا عما كُتب يومًا في خضم حدوثها أو بعده بزمن قليل وفق كتابة طارئة ملتحمة مع اللحظة الآنية.
ومن جانب آخر ثمة تساؤلات حول مستقبل السرد، كيف سيكون مستقبل الرواية بعد خمسين عاما؟ وما هو تأثير الانترنت والقراءة الالكترونية والسرعة في كل شيء حولنا؟ هل ستستمر الرواية في احتلال مكانتها المركزية، أم سيكون للرواية الرقمية مكانًا أكثر حضورًا مما هي عليه الآن؟
وكيف يمكننا طرح تساؤلاتنا هذه ومخاوفنا بعد ظهور الذكاء الصناعي؟ ماذا سيحدث لاحقا بعد تطوره في الأعوام القادمة، والوصول للحظة تمرده على الإرادة البشرية، كما ترى بعض النظريات.
ألن ينعكس هذا على انتاج الفن وتلقيه؟ على كتابة السرد التي يمكن أن تكون مهددة يومًا بالتنافس مع الروبوتات، في ظلال حيوات أصبح البشر أنفسهم يعيشونها افتراضيًا. والروائي تلقائيا غير بعيد عما يدور حوله، إذ ربما يعمل على الاستفادة من أدوات الفن التقليدي ويعتمد على دمجه وتطويره في كل الوسائط الحديثة المتوفرة له.
فوضى ديناميكية
في مستقبل السرد سيكون هناك ظهور لفوضى ديناميكية تتشكل معالمها منذ الآن في فيض الاصدارات على الساحة الأدبية، إلى جانب زيادة في الحرية على مستوى الوسائل الالكترونية التي تتحدى الرقابة. الجسد البشري لم يعد محجوبًا ولا لغزًا لأن الصورة أماطت اللثام عنه. وفي مقابل زيادة الانكشاف، سيكون هناك زيادة في عزلة الفرد والاغتراب الإنساني أيضًا.
من الطبيعي أنه إلى جانب حضور موضوعات الثورة والهجرات والمنفى، ومعاناة الاغتراب، هو حضور الكتابات الجريئة، خاصة بأقلام النساء، وظهور موضوعات اجتماعية شائكة كانت في السابق تتطرق إليها المرأة بشكل موارب، وصارت الآن أكثر مباشرة في طرحها، وقول رأيها جهارًا.
في ظني ستكون هناك دائما روايات، لأن البشر يحتاجون لبقاء "لذة النص"، يحتاجون لقراءة تفاصيل دقيقة عما يدور في رؤوس الآخرين وفي حيواتهم الباطنية، ليس فقط لمشاهدتهم عبر شاشة مضيئة تتمكن من عرض الحياة من الخارج، بل يحتاجون لمعرفة ما يحدث في دواخلهم، وهذه المعرفة وحده الفن الروائي يمكنه من تقديمها.
حققت الرواية سيادة تستحقها بين الأنواع الأدبية السردية الأخرى، لأنها أعطت قيمة للحكايا وللدمج بين الفنون في مستويات عدة، تشكيلية، وموسيقية، وحسية، والأهم وصف حيرة الكائن البشري في علاقته مع الزمن، في انصياعه التام له، وعدم قدرته على تحديه سوى بمساءلته عن سره، والإمعان أكثر في طرح مزيد من الأسئلة عن الماضي والمستقبل بهدف القبض على اللحظة الآنية، وتحقيق رؤية تنبؤية عن الحقيقة التي تخص الإنسان كفرد أعزل سوف يواجه فناءه لا محالة. وكأني بالروائي هنا -أي كانت هويته وانتماءه الجغرافي- يقدم مواساة جماعية للجنس البشري كله عن لحظات المواجهة مع الزمن التي ستنال منا جميعًا لا محالة.
تغريد
اكتب تعليقك