اتجاهات قصـيدة الفـصـحى في الألفية الجديدةالباب: مقالات الكتاب
د. أحمد الصغير أستاذ مشارك بقسم اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ــ جامعة الوادي الجديد |
مرتْ القصيدة العربية الحديثة بمجموعة من التحولات الفنية على مستوى الشكل والمضمون، نتيجة للأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية والتي كان لها أثرها البالغ على الذات العربية في وقتنا الراهن. فبدءًا من العام 1952 مع بزوغ ثورة يوليو، التحم الشعراء بقضاياهم الواقعية التي استقرت في أذهانهم وخيالاتهم، فبدأت القصيدة تتبني أشكالا جديدة، وفتوحات تراثية متنوعة، مستخدمة صور التراث المختلفة، ومتكئة من ناحية أخرى على قضايا الواقع الحقيقية (السياسية ــ الاجتماعية ــ والثقافية) التي كان لها أثرها الواضح في بنية المجتمع العربي، فقد ارتأت الشعوب الدفاع عن أراضيها العربية التي انتهكها الاستعمار الأوروبي، ومن ثم التحرر من ظلم المستعمرين، فبدأت القصيدة التحرر من الشكل التقليدي الذي كانت تكتب به من قبل، واستجابت القصيدة التفعيلية إلى أصوات الجماهير في تلك الفترة إلى التحرر من القيود التي فرضتها الملكية من جانب والاستعمار من جانب آخر.
نحاول في هذه الدراسة أن نطرح بعض اتجاهات قصيدة الفصحى في الألفية الجديدة بدءا من عام (2000 - 2015) حتى وقتنا الراهن (لحظة كتابة الدراسة التي نحن بصددها). كما اعتمدت الدراسة على تحليل الظواهر الفنية في قصيدة الفصحى لدى مجموعة من الشعراء المعاصرين أمثال الشاعر حزين عمر - جمال القصاص - أحمد سويلم - علاء عبدالهادي - رفعت سلام. محاولين الوقوف على المناطق الفنية التي انشغل الشعراء بتقديمها في نصوصهم.
أولاً الشكل الشعري:
انتقلت القصيدة العربية مع أواخر الأربعينيات من الشكل العمودي/التقليدي إلى أفق رحب وجديد ، بل أكثر اتساعًا من حيث الشكل والمضمون الشعري ، فكتب الشعراء أمثال بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وصلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، القصيدة الحرة، أو فيما عرف بقصيدة التفعيلة، وازدهرت هذه القصيدة في فترة الخمسينيات، أو فيما عُرِفَ بالجيل الأول. ويمكن أن نقدم جزءًا من القصيدة الأولى في الشعر الحر، وهي قصيدة (الكوليرا ــ 1947) للشاعرة العراقية نازك الملائكة:
سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو, تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ, يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ 1
نلاحظ في قصيدة الكوليرا روح البدايات، والريادة، حيث حاولت الشاعرة التخلص من قيود القافية قليلاً مكتفية بالتفعيلة، لتمنح نفسها روح الحرية من أجل التعبير عن آلام المرضى الذين يشهدون الموت وتطاردهم الكوليرا في كل مكان. بل حاولت الشاعرة التعبير عن آلام المرضى في القصيدة العمودية فلن تستطيع، ولم تمنحها القصيدة روح الحرية للتعبير عما تشعر به داخل نفسها، عندما سمعت الأخبار عن الموت الذي يلاحق المصريين في كل مكان، وتحمل عربات الكارو الجثث إلى القرى والجبال، لتلقيها خارج المنطق السكنية حتى لا تنتشر العدوى بين الأحياء.
ما قدمته نازك الملائكة في ذلك الوقت (1947)، يعدا فتحًا جديدًا في شعرنا العربي الحديث، وانتشر هذا الشكل الشعري في ربوع الوطن العربي، فنجد صلاح عبدالصبور يكتب الناس في بلادي، وأحمد عبدالمعطي حجازي يكتب مدينة بلا قلب، ثم جاء جيل الستينيات الذي كان يمثله مجموعة من الشعراء (أمل دنقل - محمد مهران السيد - محمد عفيفي مطر - محمد إبراهيم أبو سنة - أحمد سويلم). وقد اتكأ هذان الجيلان على طرح رؤاهم الفنية حول القصيدة التفعيلية من خلال ترسيخ جذور هذه القصيدة في شعرنا العربي، وتمسك الشعراء بالوزن لأنه هو صاحب الإيقاع داخل القصيدة على حد زعمهم، وكانت هذه القصيدة ملتحمة بالمشروع القومي العربي، وتحرير الأراضي العربية من الاحتلال الإسرائيلي، فكانت القصيدة تحرك الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج.
وتأتي المرحلة الثالثة /الموجة الثالثة في القصيدة العربية، وهي موجة قصيدة النثر العربية التي قامت بمحاولة تطوير القصيدة من الشكل التفعيلي إلى الشكل النثري الشعري الذي تخلص الشعراء فيه من قيد التفعيلة واكتفوا بالإيقاع الداخلي للقصيدة، والإيجاز والمجانية، متأثرين بالمعايير الأوروبية، لقصيدة النثر، ومن ثمَّ حاولوا تفجير الواقع الشعري في أواخر السبعينيات من خلال الالتفاف حول جماعتي إضاءة 77، وأصوات. هاتان الجماعتان اللتان التفا حولهما شعراء السبعينيات المصريين، أو فيما عرف بعد ذلك بشعراء الحداثة المصريين.
ومن ثم فقد أصبحت قصيدة الفصحى تضم أنواعا متنوعة من الشعر (العمودي - التفعيلي ـ النثري) ومازال الشعراء يكتبون في الألوان الشعرية كافة حسب الذائقة التي تكونت لديهم من خلال الوعي الثقافي المتاح لهم، فمنهم من حافظ على تقليدية القصيدة من خلال الشكل العمودي مجددًا في الأفكار والموضوعات أمثال الشاعر أحمد بخيت، على عمران، سامح محجوب، حسام جايل، أحمد بلبولة، عبد الحسيب الخناني وغيرهم، ومنهم من كسر هذه التقليدية بالخروج عليها، فاتجه لكتابة قصيدة التفعيلة مرتضيًا هذا الشكل الشعري ومجددًا في الموضوعات الشعرية التي يتناولها من خلال اللغة الشعرية والصورة المبتكرة، أمثال الشعراء محمد إبراهيم أبو سنة، وأحمد سويلم، وحزين عمر، عزت الطيري، وصولاً إلى شعراء قصيدة النثر أمثال حلمي سالم، رفعت سلام، جمال القصاص، عبدالمنعم رمضان، وعلاء عبدالهادي ...... وغيرهم.
صورة الذات:
اتكأت القصيدة العربية الحديثة بشكل كبير على تصوير أشكال الذات بشتى صورها داخل القصيدة، فهي الذات الحزينة، المتمردة، القلقة، المخاتلة، المنطوية ... إلخ من تكرار الذوات التي تخاطب نفسها، متجنبة الحديث عن الآخر العدمي بالنسبة لها. ومن ثم فقد صار قصيدة الفصحى تجر خطابها الشعري إلى الداخل، منكفئة على نفسها ومن ثم فقد نلاحظ صورة هذه الذات لدى نصوص الشاعر جمال القصاص، فيقول:
"نهار عقيم
ونهر تضيق خطاهُ..
ويمشي إليه الكلامْ.
نساء يقلدن أسماءهن
ويهربن في تمتمات المرايا
ويتركن خيطاً رفيعاً بناي العظام
سأبني لروحي قبوراً جديده
وأغوي عناوين أخرى
قبوراً تليق بوردي وقُبحي
عناوين لا تنزع البحر .. من قوس
جرحي
وألقي السلام
عليّ ..
على وردة خانها الصبح
فابتكرت حضنها في الخصام
على امرأة ذوَّبت عمرها تحت ماء..
الرخام" 2
نلاحظ في المقطع السابق صورة الذات الشاعرة التي تناجي الروح في قبرها، بل تبحث عن قبر لها كي تقيم داخله، فرارًا من الواقع الممزق الذي ألمَّ بالذات الشاعرة، فأصبحت الذات غير مستقرة في هذا الواقع الذي لا يشعر بصوتها، فآثرت الهروب منه إلى واقع أكثر رحابة وقدرة على تلبية احتياجاتها المعنوية. كما تحاول الذات الشاعرة الخروج من النهار العقيم الذي لا يلد جديدًا، بل لا نجد إلا المكرور والمعاد، كما يشي النص الشعري بروح التمرد التي طالما حاولت القصيدة الخروج من التقليدية المباشرة إلى العالم المسكون بجراحات الغموض.
الشكل السيري في القصيدة:
حاولت قصيدة الفصحى أن تخاطب الواقع بطريقة غير مباشرة و جديدة - في ظني - وهي اعتمادها على الخطاب الشعري الممزوج بروح الشاعر من جهة، وبروح الذات الشاعرة التي تتشكل داخل القصيدة من جهة أخرى، وتبدى ذلك في ديوان الشاعر المصري حزين عمر من خلال ديوانه (المطرود منك - آب إليك) وهو من الأعمال الشعري اللافتة المهمة التي صدرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث إن الشاعر اعتمد على سيرة اللحظة الشعرية وتفككها داخل القصيدة، كما حاول أن يطرح مشهد الذات من الداخل مع تشكل رؤيتها الخارجية إزاء العالم الذي تعيش فيه. ومن ثمَّ فإن اللحظة الشعرية الراهنة تُنْبِيءُ عن تفكك العالم وبقاء الذات، وحدها مجابهة كل أشكال الطرد والعنف في الحياة المعاصرة، ومن ثم فقد يلوذ الشاعر الحديث بالذات التي تتحد مع الاخر الذي يشكل فيما أظن الوجه الآخر للحقيقة التي تؤوب اليها الذات، يبدو ذلك في ديوان الشاعر حزين عمر (المطرود منك ـ آب إليك3) سيرة شعرية.
لاشك أن الشعر العربي الحديث أصبح مجموعة من الأنواع المتعددة فيما أظن فنجد الشعر العمودي والتفعيلي وقصيدة النثر، والسيرة الشعرية، من هذا المنطلق جاء ديوان الشاعر حزين عمر ممثلاً للنموذج الأخير، وهو السيرة الشعرية، وجاءت في صورة الشكل التفعيلي الذي تخللته القافية من حين لآخر، وهو عبارة عن قصيدة شعرية طويلة في قطع صغير، كما طرح نص حزين عمر سيرة الشعر متضمنًا سيرة الذات الشاعرة التي تحاول طرح الأحداث التي ألمت بها مما جعلها بمثابة الحياة الواقعية لهذه الذات، فيقول:
"الطرد التصق بروحي،
بخلاياي كجلدي
هل أقشطه، أنزعه، أحرقه؟!
فوق الطاقة أن أنزع ملمح جسدي
من جسدي
وأقلم أطراف الروح
وأبقر بطن الوجدان بعود صدئ"4
يبدو من خلال المقطع السابق معاناة الذات الشاعرة صاحبة السيرة من العالم الذي صار مفككًا ومهددًا الذات بالطرد من رحمته، لكن الذات تقاوم هذا الطرد بنزعه وقشطه محاولة قتله، وإذا نظرنا في مطلع النص الشعري (ص5) نلاحظ أن الشاعر يصور القحط وكأنه وحش كاسر يسيطر علي الحياة برمتها فيقول:
"القحط الآن يسود .. يسود
يسد منافذ هذا الكون
ويجمعه من أطراف عباءته
يرمي به
من حالق
القحط يفور ويرغي، يزيد
يتشعب في أفق الله
فلا يبقي أفقا أو آلهة
أو حتي شياطين!!5
من الملاحظ أن الذات الشاعرة تخلق صراعًا ما، هذا الصراع الكامن في الواقع والمتجسد في صورة قحط وفقر وانهيار القيم الكبرى والمشاريع القومية التي كانت حلم الشعراء من قبل، ومن ثم فقد أصبح القحط رمزًا للفساد المنتشر في نخاع الوطن العربي بكل حدوده ومعاييره ومقدساته، وتحاول الذات الشاعرة التصدي لهذا لقحط /الفساد، فجاءت نصوصه تحمل هذا الهاجس المرير، ويدل ذلك على الرمز الذي لجأ إليه الشاعر وهو (المطرودة منك، آب إليك) المطرود هنا الشاعر، والضمير يعود علي المحبوبة الأبدية مصر تلك المرأة الفاتنة التي تعذب عشاقها صباح مساء.
ومن التقنيات الواضحة في شعر حزين عمر تقنية المليودراما أو فيما عرف في النقد الحديث بالحوار الداخلي (المنولوج) وقد تجلي ذلك في قوله:
"ها أنت الآن وحيدًا
في الأرض تدب
تدب علي رأسك لعنات
تنهال جبال الرمل
على رأسك لعنات
يقتحمك فيض من وجع الوحدة
رجع صداه يشدك بمخالبه" 6
اتكأ الشاعر حزين عمر في النص السابق، علي تقنية المنولوج الداخلي، وهو أن الذات تخاطب نفسها، فالخطاب إذن موجه للداخل بشكل مباشر، تنوء الذات بحملها رغبة في محاولة التخلص من هذا الحمل الكبير، ومن ثم فقد تلوذ الذات بوجع الوحدة والدخول في مسالك العارفين ودروب ملذاتهم، وتلقي عن كاهلها وجع العالم المهزوم منفردة بالوجع العرفاني الصوفي.
تعدد الأصوات في قصيدة الفصحى:
اتكأت قصيدة الفصحى في الألفية الجديدة على تقنيات متعددة، من هذه التقنيات، تقنية تعدد الأصوات، حيث يستدعي الشاعر أصواتًا أخرى من خارج النص، لتحدث عملية التداخل النصي في قصيدة واحدة أو في الديوان بأكمله. ولاشك أ ن الشاعر حزين عمر يتكئ علي تقنية أراها متجلية في هذا الديوان، وهي تقنية تعدد الأصوات فيقول:
يصرخ فيك:
مطرود، مطرود، ملعون
لا أرض ستحمل أقدامك
لا رمل يستوعب خطوك
لا ماء يروي ظمأك
لا شهقة روح تنمي أنفاسك
لا أنت الآن ولا شيء
سوي اللعنات، الحرمان من الجنة
تنحط لأسفل درك
منحوتا ظلا في وهج النار.6
من الملاحظ في المقطع السابق ذلك الصوت الصارخ في وجه الذات، معلنا طرده ولعنه من هذه الأرض التي لم تعد تحتمل أقدامه، أفكاره، وجعه، آلامه،.................إلخ من الدلالات اللانهائية، ومن ثم فقد نلاحظ في النص تكرار أداة النفي (لا) وكأن الذات جسد تلفظه أمواج الحياة المتلاطمة، ومن ثم فتحاول الذات أن تفر إلي وطن يكون أكثر أمنًا واطمئنانًا، فتفر إلي العوالم الأخرى مثل عالم الأساطير فيقول:
"هذا وطني........
ما كني رأيته
فأراه الآن بعينيك
أتشممه
أتلمسه
في ثغرك
وبثغرك
ما أروع وطنك يا إيزيس
وأنت خطاك خطاي
نتلقى إلهام الأرض، ووشوشة الطين
وشدو البرسيم
ونحب نجوب، نحلق فوق جناح قصائدنا،
نلقيها.. تسعي..
تلقف ما يلقي القوم الجهلاء
من الإفك
من الأحقاد" .8
من الملاحظ أن الشاعر حزين عمر يتكئ علي استدعاء أسطورة إيزيس وأوزوريس من التراث الفرعوني القديم، وهذا لا يخلو من دلالة مفادها، أن وطن إيزيس، هو ملاذ الذات الشاعرة، وحلمها الكبير الذي تحاول أن تصل إليه مهما كان الثمن، لأن العالم الأرضي الواقعي أصبح عالمًا مهزومًا ممزوجًا بالفساد والأحقاد والضغائن اللانهائية، ومن ثم كان عليها أن تستعيد العالم الإيزيسي الجميل الذي يخلو من الأحقاد، وينعم بالإخلاص والوفاء الذي قامت به إيزيس تجاه أوزيريس. ونلاحظ التناص القرآني من خلال الإشارة التناصية الواضحة إلي قصة النبي موسي عليه السلام في قوله:
"ونحب نجوب،
نحلق فوق جناح قصائدنا،
نلقيها.. تسعي..
تلقف ما يلقي القوم الجهلاء
من الإفك
من الأحقاد.9
وهي قصة موسي مع السحرة الذين امنوا به فغضب عليهم فرعون فيقول تعالي: "قالوا يا موسي إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقي(65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعي...... (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى).
قصيدة الومضة/الإبيجراما:
يبدأ القسم الثاني من السيرة في صفحة (64) بعنوان كلي (الأيام العشر) وتفرعت عنه مجموعة من العناوين الفرعية، فكل عنوان يشير إلى نص شعري قصير يقترب من الإبيجراما الشعرية كما هو معروف في الآداب الأوربية الحديثة، وقد عرفت في نقدنا العربي بقصيدة الومضة، لكنني أميل إلى التعريف الذي صكه الدكتور طه حسين في مقدمته لكتابه جنة الشوك 1944 إذ يقول: "وقد أطلق اليونانيون واللاتينيون كلمة إبيجراما أول الأمر علي هذا الشعر القصير الذي كان ينقش علي الأحجار، ثم علي الشعر القصير الذي كانت تصور فيه عاطفة من عواطف الحب، أو نزعة من نزعات المدح، أو نزغة من نزغات الهجاء"10 ومن ثم فقد جاءت نصوص حزين عمر القصيرة متخذة من الإبيجراما اليونانية نموذجًا لها فيقول:
"لا شيء قد تبدل
فالحياة كأنها فعلا حياة
والناس مثل الناس
غادون في ذهول.
* * *
الناس في خصام
خصام ذات البين
خصام ذات الذات
من مات منهم عاش
من عاش منهم مات
لا شيء في الحياة" 11 .
من الملاحظ في القصيدة السابقة تقنية المفارقة اللفظية التي جاءت في نهاية النص القصير، تعبيرًا عن السأم والملل الذي يشوب الحياة برمتها، ومن ثم فان صورة الكآبة تسيطر سيطرة بالغة علي متن النص الشعري .ويقول فينص بعنوان رفيف:
أسامر الكآبة
أخاطب الشرود
أشد من يديه
لفائف الإجابة
عصية
بعيدة
عنيدة
هرابة
وقلبي الممزق الحدود
تناثر الحصى
داخله،
حوله،
فوقه
في رحابه 12
يطرح النص السابق صورة الذات التي يحط بها الفراغ التام فتخلق معايشة ترتضيها، لنفسها وهي مسامرة الكآبة المحيطة بها، ومن ثم فإن لحظة الشرود تمثل المعايشة الحقيقية للذات، ويغلب عليها الطابع النرجسي الذي يستغني بنفسه عن العالم المحيط.
وعليه فإن هذه السيرة الشعرية تمثل إضافة مهمة في مشروع حزين عمر الشعري، لأنه من الشعراء الذين يمتلكون منطقًا خاصًا في الكتابة الشعرية من خلال مفهوم تداخل الأنواع الأدبية/الشعرية - إن جاز القول ـ، لأن السيرة الشعرية التي قدمها تختلف عن السير التي قدمها شعراء آخرين مثل سيرة البنفسج للشاعر حسن طلب، وسيرة بيروت للشاعر الراحل حلمي سالم لأن كلا منهما طرح سيرة رمز مغاير، أما سيرة حزين جاءت، لترصد سيرة الذات الشاعرة، وموقفها إزاء هذا العالم المفكك، متسائلة عن ماهية العالم ودور الذات فيه، وهل أصبحت ذاتا فاعلة في تشكيله، أم غير فاعلة، وأظن أنها ذاتًا محبطة من كل هذه التحولات غير مبررة فنيًّا أو اجتماعيًّا أو ثقافيًّا، على المستويات كافة.
نموذج تطبيقي لقصيدة النثر:
مع مطلع الألفية اتكأت قصيدة الفصحى على الكتابة النثرية (قصيدة النثر) جحيم الحياة في ديوان "مالم يذكره الرسام"، للشاعرة عزة حسين13
تبدو الحياة أكثر قسوة عندما نكتبها على سطح الأوراق البيضاء، فتتخلى عن رومانسيتها وجمالها، لتترك فينا جراحاتها المزمنة، تجلى ذلك كله من خلال ديوان الشاعرة المصرية عزة حسين (ما لم يذكره الرسام ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 2015).
هذا الديوان هو الثاني للشاعرة، بعد ديوانها الأول (على كرسي هزاز) الفائز بجائزة ملتقي قصيدة النثر بالقاهرة 2011..
جاء الديوان في خمس وثمانين صفحة من القطع المتوسط، مشتملاً على اثنتي وعشرين قصيدة نثرية، تحتفي هذه القصائد بأصوات الآخرين الذين يمثلهم الرسام نفسه، فطبيعة العلاقة اللغوية التي اتكأ عليها عنوان الديوان (مالم يذكره الرسام) طبيعة تهتم بتقديم المتروك والمهمل والمنسى، وتبالغ في الاحتفاء به، فجاءت هذه الشعرية، لترسخ للقيم الغائبة في حياتنا الإنسانية بعامة، وهي ما لا نستطيع التحدث فيه بصورة مباشرة، لا، لأننا نخجل منه، ولكن لأنه لا يُقال من خلال لغة لا تقدر معانيه. فتجلى صوت الآخر الضمني المسكوت عنه من خلال (لم) التي تشي بالحضور الأخرس الدائم في حياتنا.
جاء الإهداء موجهًا إلى الأب الذي لم يعفُ عن القصائد التي تكتبها الشاعرة، وهل كان الأب رافضًا لهذا النوع الشعري الذي تكتبه ابنته؟ ربما يفتح الإهداء الكثير من الاحتمالات التأويلية التي جاءت في هذا السطر البسيط "إلى أبي ثانية علَّه يعفو عن القصائد" وكأن سلطة الأب تتجسد في قبول القصيدة التي تتجاوز حدود الحياة وتقليديتها، تبدو قصائد عزة حسين محفوفة بالحزن والمخاطر والإصرار على الحياة رغم اتشاحها بالحزن والجنازات التي تحتض أبواق القطارات المسافرة صباحا ومساء. اتكأت الشاعرة عزة حسين على اللغة المتحركة تلك اللغة تقول ولا تصف، بمعنى أنها تلهم المتلقي صور الحياة الماضية بلغة الحاضر الآني الراهن، تجلت هذه اللغة المتحركة في المقطع الذي صدرتْ به الشاعرة ديوانها للشاعر الفرنسي آرثر رامبو، فاستدعاء رامبو يعزز الفكرة التي أقولها دائما: في شعر حسين وهي تكتب القصيدة الكونية التي تنفتح على آفاق العالم المتغير، المتحرك دائما في أزمنة دائرية ....
تبدى ذلك أيضًا في النص الأول من الديوان (جحيم) تقول الشاعرة: الرأس بلا آخر/يملؤها ويفرغها/شرط وحيد، لتكون إلها / قالت هيرا بعين رائقة كالموت. / فاهتدى سارتر إلى جنته، /وانبنت عروش افتراضية / ومن ورائها كانت الروح تسلخ جسدها / لتسرب شياطينه/ فيستقطب الدم نملا وجنائز/ وتلتصق الأعضاء بأطراف الصليب"14 ..
تبدو أصوات النص الفائت قلقة ومتلاشية على جدران الذات التي تفكر بغيرها، بل تتصارع مع الحياة من أجل أن يصل هذا الصوت إلى مداه محققا غايته، بدءًا من عنوان النص (جحيم) إلى استدعاء الصورة كاملة ما بين هيرا وسارتر، وسانشو إلى التمسك بروح الفرنسي آرثر رامبو، تطل الإنسانية بوجوهها المتنوعة داخل نصوص عزة حسين، لنجد تاريخًا مسكوتًا عنه في القصيدة، هذا التاريخ المملوء بالجحيم وعذابات الإنسانية. فتقول:
"أيهما أكثر وخزا يا سانشو؟
الحقيقة أم زبد السخرية؟
أنا أعرف أن الطواحين أطيب من القتل،
وأنك أطوع من المصارحة
لكنه الدوار يا سانشو
والرأس الإبليس." 15
ثمة إحالات كثيرة يرتكن لها نص الشاعرة عزة حسين (هيرا- سارتر – سانشو- إبليس-، نورا، النبي يوسف عليه السلام، المسيح عيسى عليه السلام ...) هذه الإحالات النصية تفجر في الذاكرة الشعرية مناطق أكثر اتساعًا لدى المتلقي الفردي أو الجماعي على حد سواء. حيث إن المتلقي تقع على رأسه مساحات تاريخية كثيرة في نص شعري يطالبه أن يقوم بربط دلالي منطقي بين جل هذه الأحداث التي صنعتها شخصيات تاريخية منها اليوناني ومنها الإسلامي والمسيحي، لكن الذي يربط بينها هو الفقد أعني شعرية الفقد التي تطل كثيرًا في نصوص الشاعرة، حيث يبدو العالم أكثر خطرًا مما قبل، بل يجنح بنا إلى مناطق جنائزية، بل أًبح هو الجنازة الكبرى في الحياة. وتقول في مقطع آخر:
"بلا ثرثرة، بلا كراهية،
وبلا محبة، سأترك
الكرسي الهزاز، والستار
وزجاجة العطر الجديدة،
والأعمال الكاملة لأورهان ولي.
إنَّ قصيدة نورا من القصائد المهمة في ديوان "مالم يذكره الرسام" حيث إن الشاعرة قامت باستدعاء هذه الشخصية من مسرحية بيت الدمية لهنريك ابسن، ومنحتها بعدًا دراميًا بالأساس، لأنها أخرجتها من النص المسرحي للعب في النص الشعري، متماهية مع نص الحياة، منذ اللحظة الأولى يدرك المتلقي أن نورا، صوت أنثوي تحاول الشاعرة أن تمنحه معنى فوق المعنى أن تبدع في صياغته فنية وتخرجه من دائرة المسرحة المغلقة، إلى دائرة الشعر الأكثر اتساعًا على مستوى التأويل النصي..
تبدو الذات الأنثوية في هذا النص ذاتا مجروحة بالغياب المقصود، فهي تبحث عن كيانها الأنثوي فلا تجده في واقع لا يحتفي إلا بالثرثرة والكراهية والتمزق والعنصرية إزاء الأنثى بشكل عام، بل لا تجد الذات حضورا إلا في غيابها الجسدي عن العالم تاركة كل ملامحها على أشيائها الصغيرة التي تدل عليها.
تمتلك الشاعرة عزة حسين صوتًا شعريًا نسويًا مغايرًا في قصيدة النثر العربية، فهي لا تتعلق بأهداب الرومانسية ولا المفردات اليومية بقدر تعلقها باللغة الحيايتة التي تأتي بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، لغة لا تجرح الخديعة التي رسخها الأوائل وهي مجانية القصيدة ومخاتلتها للواقع وازدرائه.. بل جاء واضحة تعرف أن مهمتها الأولى والأخيرة لغة مهمته بالشعر ليس سواه ....
المصادر والمراجع:
1. نازك الملائكة: الأعمال الشعرية الكاملة، بيروت، 1988، الجزء الأول، ص243.
2. جمال القصاص: الأعمال الشعرية الكاملة الجزء الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012. ص،116.
3. حزين عمر: المطرود منك .... آب إليك، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008.
4. السابق: ص5.
5. السابق/ ص7.
6. السابق، ص 14.
7. السابق، ص22.
8. السابق، ص56.
9. السابق، ص66.
10. طه حسين: جنة الشوك، دار المعارف، الطبعة (14) القاهرة، 1986، ص11
11. حزين عمر: المطرود منك آب إليك، ص ص65ــ 66.
12. السابق، ص69.
13. عزة حسين: مالم يذكره الرسام: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015.
14. السابق، ص12.
15. السابق ، ص17 .
تغريد
اكتب تعليقك