روايات ديستوبيةالباب: مقالات الكتاب
محمد عبد الكريم الحميدي السعودية |
يمتاز الأدب، في بعض جوانبه على الأقل، بالقدرة على التنبؤ، إذ أحيانًا تصادف القارئ كتابات سابقة تتحدث عن وقائع، أو تصف أفعالاً أتت بعدها بزمن، قد يطول أو يقصر، ومن الأمثلة على هذه الكتابات، ما بات يُعرف بالأدب الخيالي، أو بأدب الخيال العلمي.
أدب الخيال العلمي بدأ مع صعود النهضة الأوروبية، وارتكز عليها في تأسيس خطابه التنبؤي، وأصبح فيما بعد كاشفا للكثير من المخترعات والمكتشفات، مثلما هي رحلة جول فيرن ناحية أعماق الأرض، ويمكن إضافة العديد من الأسماء في هذا الجانب.
على الضفة الأخرى من الأدب، أي الجانب الإنساني والقيمي، هل يستطيع هذا الأدب، بما يمتلكه من قوة تنبؤية، أن يروي وقائع ستحدث مستقبلا، وتؤثر على البشرية؟
سأضع ثلاثة نمازج، لكتاب استطاعوا استباق الحدث، وصنعوا الفارق.
النموذج الأول هو رواية "1984" للكاتب جورج أورويل وهي رواية مشهورة كُتبت خلال القرن المنصرم "1949م" وقت اشتداد الحرب الباردة بين ما عُرف بالاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة الأمريكية، وانتهت رسميًا عام 1991م نتيجة تفكك الاتحاد السوفياتي.
تحكي عن سلطة الأخ الأكبر "البق برذر" وترى أن العصر القادم عصر الرؤية واكتشاف أدق التفاصيل، وأن ما يحصل مع الفرد سيكون تحت سمع وبصر أجهزة الدولة، التي ستكون عالمية الطابع، وليس هنالك حدود تحدها، وهو ما نشاهده اليوم عبر انتشار شبكات التواصل وسيطرة الميديا.
النموذج الثاني هو رواية "حرب الكلب الثانية" الفائزة بالبوكر 2018م للكاتب الأردني، الفلسطيني الأصل إبراهيم نصر الله، المتابع عن كثب لما يجري داخل الأراضي المحتلة، وعبر هذه المتابعة التوثيقية لجميع التفاصيل أنتج رؤيته أو تنبؤه.
تنبأ بأن الزمن القادم الذي سيحل سيكون لسيارات الإسعاف دور هام في نقل الأفراد، وهي الوحيدة التي سيسمح لها بحرية الحركة والمرور، وبواسطتها سوف تتغير حيثيات الحياة، ولعل هذا ما لُمس واقعًا مع بدء جائحة كورونا، وبقاء الناس داخل منازلهم، وتقييد حركتهم وتنقلاتهم، فما عاد مسموحًا إلا لسيارات الإسعاف بالمغادرة والعودة.
النموذج الثالث هو رواية "حارس سطح العالم" الصادرة عام 2019م للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، التي عاشت وتعلمت داخل بيئتها المحلية، وعانت من رفض الرقابة وملاحقتها للكُتاب والناشرين بالمنع، والإقصاء لأي صوت لا يتجانس مع الخطاب الرسمي، وهي الفكرة التي انطلقت منها عبر تقاطعات متعددة مع روايات وكتابات عالمية أخرى.
العيسى لم تقم بالتنبؤ بما سيحصل تاليًا داخل الكويت، وإنما استثمرت قدرتها التصويرية والكتابية على نقل معاناة الكتاب والناشرين مع الرقابة والرقيب، التي أصبحت تكتم الأنفاس ولا تسمح بمرور الهواء والكلمات، فبدا كأنها تستشرف المستقبل الآتي، الذي تحقق فعليًا عام 2020م بإصدار قرار "الفسح اللاحق"، أو "الرقابة اللاحقة" الذي يأتي بعد النشر لا قبله.
هذه النماذج وسواها من الكتابات المشابهة كما هو لدى فوكو وإيكو وفوكوياما وهنتنجتون اهتمت بشكل خاص بالمستقبل وكيفية قراءته ووضعت تصورات لما يمكن أن يكون عليه، ولعل بعضها أصاب هدفه وبعضها أخطأ هذا الهدف، ولكنها جميعًا تدخل ضمن ما اصطلح عليه بالديستوبيا (المدينة الفاسدة) أو "أدب التنبؤ بنهاية العالم".
"أدب التنبؤ" ليس حالة عامة وشائعة بين الآداب والكتاب، وإنما هي حالة خاصة وقدرة فريدة على استشراف الآتي وقراءة المستقبل وفق معطيات الحاضر، وهنا ينبغي التأكيد، ولفت النظر إلى أمرين اثنين:
أولاً: انشغال هؤلاء الكُتاب بما يدور في زمانهم ومحاولة قراءته وتفسيره وتقديم رؤيتهم الخاصة التي نجحت وأصابت هدفها.
ثانيًا: ارتباط الكتابات بفن واحد تقريبًا هو فن الرواية، الذي يتيح للكاتب إمكانية الحركة وخلق التفاصيل وصناعة العوالم التي يراها على أنقاض الواقع الموجود.
تغريد
اكتب تعليقك