حياة كاملة .. لم تعرف الدفءالباب: مقالات الكتاب
عبدالرحمن الكريفي اليمن |
الكتاب: حياة كاملة
المؤلف: روبرت زيتالير
المترجم: ليندا حُسين
الناشر: دار التنوير
سنة النشر: 2017.
عدد الصفحات: 143 صفحة.
"هل متَّ الآن"؟ سأله. "لا، أيها الشيطان الأعرج!"
حياة كاملة. هكذا حمل غلاف هذا الرواية الحائزة على القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية 2016 عبئ الثقل المتمخض عن هكذا عُنوان. حياةُ بأكملها لم تعرف الدفء.. إلا لمامًا. هي حياة صقيعية انطلق سردها منذ أواخرِ القرن الثامن عشر مقتحمة بذلك القرن الذي يليه بوتيرة تتسم ببرود واضطراب يناهضان كل دلالات السكينة، ملتقطين بذلك رؤية بانورامية لحقبة حرجة في تاريخ الإنسان الوعر. منذ تلك اللحظة التي اضطلع فيها أندرياس إيجير ذلك العجوز راعي الماعز على كتفيه، والذي يُدعى هانيس ذي القرون بين هو يلفظُ أنفاسهُ الأخيرة محتضرًا فوق قشة بالية على قارعة الطريق التي قصدها ايجير قافلًا شطر قريته. تلك الحادثة التي شاع خبرها لاحقًا باسم (حادثة هانيس ذي القرون)،وعقب عقودٍ عدة تلي ذلك المشهد، يحمل زيلاتر بأيدينا عبر تسلسل سردي أخاذ برع في سبك حبكتها بنباهة تتدفق بنا تياراتها حول حلقة محكمة، نبعها ومصبها في ذات النقطة، شخصِ هانيس ذي القرون، تلك الجثة التي اختارت طبقاتُ الجليد أن تبقيه في طياتها كما لو أنهُ مظروف من ورق الكاغد، أن تحتضنهُ في أحشائها قاطعةً بذلك كل طريق قد يستقلها العفن للفظ جثمانه. يستمر ذلك الحضن، عدة عقود.
وريثما تدور الأيام دورتها محدثة جلبة كبرى في تاريخ الإنسان، يجدُ المرء نفسهُ كذرة تائهة تذروها ريح عاصفة رملية هائلة وسط بيداء شاسعة. هذه هي الثيمة التي ستنبضُ بها الرواية منذ انفلات خيطها الأول حتى يسبك سطرها الأخير. تاركةً القارئ يتلوى على إثر مذاق حياة حامضة. صراع يعيد خلق نفسهِ دون كلل، وإن بعد قراءات عدة. تمامًا كما تعيد الزواحف خلق حراشفها في أطوار جديدة.
أندرياس إيجير الصغير لا يعرف شيئًا عن والديه الحقيقيين. يتولى تنشئته المزارع كرانزشتوكر في مزرعته منتفعًا بالأعمال التي يوليها إياه مقابل الغذاء والمأوى. باستثناء الجدة التي كانت على شفى جرف من الموت،لم يكن ليعطف عليه أحد البتة في تلك المزرعة التي كانت أسياجها بمثابة أقصى طرف في المجرة. لقد كان دخيلا بينهم، غريبًا على الدوام. يضعُ إيجير حدًا لتجاوزات كرانزشتوكر الذي كان لا يمرر لهُ أدنى زلل دون أن ينزل عليه جام عقابه. قضيب من البندق يهريه بها جلدًا على إليتيه حد التسلخ. صادف ذلك اليوم عيد ميلاده الثامن عشر،حيث أبدى تمنعًا واستعدادًا للدفاع عن نفسه حينما هم كرانزشتوكر بإنزال شديد العقاب عليه إثر اندلاق الإناء الناضح بعرف حساء شهي أعد خصيصًا على مائدة عيد ميلاد أندرياس إيجير. علم بعد ذلك أن عواقب هذه البسالة التي أبداها كانت وخيمة،غير أنها مكنتهُ من خط الشخطة الأولى في لوحة حياته الخاصة، محققًا بذلك ذروة وجوده.
كانت هذه الخطوة الأولى لإيجير نحو حياته الكاملة. الدفء المؤقت الذي ولج حياتهُ جراء ارتباطهِ بماري والذي لم تحبذهُ الجبال التي تحيط بالوادي الذي يقطنان فيه. فكان من شأن رقصة طفيفة من تلك الجبال كفيلة بأن تسقط عنها قشرة رقيقة من طبقات الثلوج التي تكتسيها مخلفة بذلك كارثة انهيار جليدي راح ضحيته عجوزين كانا ينعمان بعناق دافئ وسباتٍ متسم بالوقار. بينما كانت ماري هي صاحبة الروح الثالثة من بين جملة الضحايا. كان الانهيار قد طمر سقف المنزل بينما كانت ماري ترقد في مخدع الزوجية. لم يكن إيجير على دراية بأن ماري في تلك الليلة كانت تهم في منحه القبلة الأخيرة من رصيدها في هذه الدنيا. القبلة الأخيرة التي ستتمكن روح ماري من حمها على ثغر فمه بقبله حارقة كالفُلفُل في الصقيع. لم يعلم أنها كانت تتأهب لاضطجاع أبديّ! كان ذلك في تمام الساعة الثانية وثلاثين دقيقة في أول صبيحة تعقب ليلة تعسة رافقته كآبتها ما فضل من العمر. كيف لا وقد كانت له ماري كل معنى وكل لون.
أحبها حبًا جمًا. كما يفعل المزارعون. يكون ذلك دونما وعي مسبق أو إرادة موجهة كحبهم الخصوبة والأرض، الدواب والمأوى، الفجل والبطاطا. أراد أن يعبر لها عن عميق حبه بطلبه يدها معبرا بذلك عن رغبته الجامحة في إنفاق ما تبقى من حياته برفقتها. غير أنه كره أن يحدث ذلك بالرتابة المعهودة. استشار أحد أصدقائه الثقات، ماتل الذي حدثهُ عن التقاليد القديمة التي تعرف بتقاليد (شعلة القلب المقدس) التي ترمز باختصار إلى نشاط الرسم على سفوح الجبال بحبر الشيطان (النار). أحبت ماري ذلك كثيرًا. قبلت على الفور.
نلحظ بعد ذلك كيف تأخذهُ تلك العاصفة إلى الجبهة التي شنتها ألمانيا في الحرب العالمية الثانية على السوفييت في جبال القوقاز. كيف كانت مشاعِر الوحدة تنخر جسدهُ أكثر مما تنخرهُ قسوة الشتاء التي تعرف به روسيا والقوقاز. حتى الحشرات، كان يحس كما لو أنهُ تم إخلاؤها خارج نطاق الثكنة التي جند فيها. وبعد تلك المدة من انتظار الدعم من القادة التي أمروه بأن يتسمر في موضعه وألا يبرحهُ تحت أي ظرف،يرى أحد الجنود الروس يغرسُ في بطن الأرض علم يرفرفُ ويلفظ كما لو أنه ديك دقت عنقه. وبعد محاولات لاستقصاء ما يجري،أدرك دون عناء أن ذلك العلم كان هو العلم الذي يرمز لدولة الاتحاد السوفييتي. كانت النشوة والصخب أنسب تعبرين لوصف السلوك الذي كان يتصرف على ضوءه الجنود الروس. وعلى كل،فقد كان من شأن تصرف كهذا أن يفصح له عن أسباب تأخر الدعم طوال هذه المدة وكيف انتهت الحرب بانتصار الروس. تلى ذلك أعوام ستة من الاعتقال في معسكر للأعمال الشاقة في إحدى ضواحي روسيا. وفي عام 1951، خُلي سبيله.
أندرياس إيجر هوشخصية أثيرية تعبر من خلالها تجليات عديدة من الصراعات التي تشكل أرضية مشتركة لدى شريحة كبرى من البشر. وبصوت قناعته البسيطة نجدهُ يتفوه على نحو يكاد لا يفصح عن شيء سوى رغبة ملحة في إثارة الاسئلة ولا شيء آخر. تلك الأسئلة التي لها ارتباطاتها البينية بالسرديات الكبرى. وذلك من خلال مونولوجات عديدة نصطدم بأولاها في الصفحات الأولى التي تجلت في مشهد ايجير بينما هو في طريقه إلى القرية التي كان قد ابتعد عنها ثلاثة كيلوميترات حاملًا فوق كاهله صاحب الماعز هانيس مقتصدين في أحاديثهم الجانبية التي كانت بالكاد تحدث. تفصحُ تلك الصورة عن موقفين متمايزيين من قضية واحدة،وهي تصور كليهما الميتافيزيقي عن الحياة بعد الموت. هل ثمة شيء هناك حقًا أم أن الأمر لا يعدو كونه أساطير حرّفت تصورنا عن نقطة النهاية تلك؟ يخشى هانيس ذي القرون من أن يشتد عليه البرد بعدما يكون قد مر وقت كاف على تطوع أهل القرية في دفنه. هو يدرك أنه على مشارف الموت. يبدي أيضًا مخاوف عدة من بينها توجسهُ من أن يدفن في منطقة غير تلك التي كان قد أوصى بها. كان يخشى من أن يتعرض لخيانة كبرى من هذا النوع. جملة هذه المخاوف لم تكن لتمثل لدى إيجير سوى حزمة موجية من الهراء الصوتي ولا شيء أكثر. فإيجير يظهر موقفه الحازم إزاء تلك المخاوف مما من شأنه أن يتعارض مع ما يعتقده أي مؤمن بوجود حياة أخرى. ثم نجدهُ لاحقًا يقر بأنه لم يكن بحاجة للإيمان بوجود إله في حياته.
تعترضنا أيضًا لفحات ملهبة في مواضع متفرقة من ذلك العذاب الروحي الذي يحدث بالتزامن مع الانسلاخ عن الحياة البسيطة إلى مظاهر الحداثة، وصراع الانخراط في تلك الآلة الضخمة. لقد كانت الوتيرة التي تقتحم بها مظاهر الحداثة حياة الريف على نحو خاص والعالم عمومًا أسرع بكثير من أن تحملهُ رأتاه عل مجاراتها. ليس ذلك فحسب، بل لقد كانت لتلك الوتيرة تضاعف هندسي، فقبل أن يتمكن حتى من التقاط نفَسِهِ الأول يشعرُ برئتيه تتمزق.
وأما الأشكال الأخرى للموت في تلك الحياة الكاملة:
" كان الموت ينمتي للحياة،مثلما ينتمي العفن للخبز. الموت كان الحمى، كان الجوع, كان شقًا في جدار الثكنة تصفر فيه الريح".
- روبرت زيتالير: هو روائي وسيناريست نمساوي الأصل ولد في فيينا عام 1966م. لايزال يقيم في برلين حتى اللحظة.
تغريد
اكتب تعليقك