بلاغة التصوير في نثر الجاحظ «صورة المرأة في رسالة القيان»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-08-23 20:31:40

فهد أولاد الهاني

أستاذ باحث - المغرب

لقد أجمع النقاد والدارسون، لما خلفه الجاحظ من نصوص نثرية، على أن هذه النصوص تكتسب قيمتها الأدبية مما يتسم به نثرها من قدرة على التصوير وبراعة في التعبير عن  صغائر الأشياء وغرائب السلوكيات، ولعل ذلك ما جعل طه حسين يفسر أدبية كتاب "البخلاء" بمعيار "التصوير الدقيق الذي لا يقاس إليه تصوير 1 ؛ بيد أن نثر الجاحظ لم يكن ليوجد لنفسه هالة بلاغية متميزة لو لم يستنجد بسمات فنية تنأى بجماليتها عن سلطة الشعر، وتفتح لنفسها آفاقًا تخرج بلاغة النص من الحدود الضيقـة التي طالما انحســرت في جزر جمالية معزولة تحدها أبواب من التشبيه والاستعارة وعموم المجاز، لتتجاوز ذلك إلى حدود أرحب تجعل النثر يستند في رؤيته البلاغية على سمات جمالية تنقاد لمسلمة "الوعي بالجنس"  (générique ِConscience) و تبني في المقابل ملامح النثر الأدبي الجميل.

ففي رسالة القيان يكشف النثر عن رهان بلاغي يتقصد الجاحظ من خلاله بناء أسس مناقضة لأصول الشعر  العربي القديم2، وهو بذلك يتحدى بنثره بلاغة الشعر التي عنيت بتصوير مفاتن المرأة ومحاسنها، دون أن تخوض في تصوير أفعالها وسلوكاتها؛ من هذا المنطلق تغدو رسالة القيان بمثابة صراع من الكتابة الأدبية التي تسعى إلى الانتصار على ما ألفه الذوق النقدي القديم من بلاغة تولى زمام ريادتها الشعر، وحاول غير ما مرة أن يقدم أيقونة المرأة في حلة من التصوير الجسدي الذي لا يغادر ما تقع عليه الحواس وما تقف عنده العيون. غير أن الجاحظ اتخذ من رسالته هاته مدخلاً إبداعيًّا سخر من خلاله نثره الأدبي لمنازعة الشعر تلك المكانة التي طالما حظيت برضا النقاد القدامى واستحسانهم، وهو إذ يعلن عن هذا النوع من التحدي يثير في ذهن المتلقي  إشكالات أهمها: إلى أي حد استطاع نثر الجاحظ؛ في تصويره للنماذج البشرية؛ أن يتخلص من سلطان التصوير الشعري، ويبني في المقابل قواعد مغايرة للتصوير في النصوص النثرية؟ وهل استطاعت رسالة القيان أن تخرج صورة المرأة من حيزها التقليدي "الصورة الجسد" إلى حيز  أغرب يتمثل في "الصورة الفعل"؟ بحيث يسترد النثر ما تم تغييبه من جوانب في شخصية المرأة التي يأبى الجاحظ اختزال أنوثتها في فتنة الجسد ومحاسنه.

1 - ومضات من رسالة القيان:

 رسالة القيان هي إحدى رسائل الجاحظ في مجموعة "داماد" التي اعتمدها المحقق عبد السلام هارون، وعنوانها "كتاب القيان"، وهو كتاب دعا من خلاله الجاحظ إلى الخروج عن الأعراف والتقاليد في معاشرة النساء، مدافعًا بذلك عن حضور المرأة في النظام الثقافي العام. لأن في هذا الحضور حضورًا لبلاغة المرأة وثقافتها وسحرها، واستشهد لذلك بنوادر النصوص والأخبار، وعرج؛ بما وهب من قدرة على الملاحظة ودقة في الوصف؛ على وصف عالم القينة وثقافتها، ورصد بلاغة تأثيرها في نفوس "الربطيين"، دون أن يغض الطرف؛ وهو الخبير بتصوير خبايا النفوس ودقائق الأشياء؛ على ما يفعله الغناء بنفوس المستمعين وما يوقده "الجمال" من مشاعر الحب والعشق والغرام، وقد سخر أبو عثمان رسالته لتصوير خلال "القينة" الساحرة بكلامها، المالكة قلوب العشاق بغنائها، راصدًا بذلك طبقة اجتماعية أفرزها التمدن الحضاري في المجتمع العباسي، حيث كان لحياة البذخ والترف والنعيم التي رسا عليها المجتمع في ذاك العصر الدور الأساس في نشوء فئات مهمشة وروابط اجتماعية متباينة، تلقفها نثر الجاحظ بكثير من التصوير والوصف والتحليل.

والناظر في كتاب (القيان) يقف به نظره على أن الكتاب هو رسالة موجهة من "مقينين"3 ذكر الجاحظ أسماءهم في صدر رسالته، وأسبغ عليهم أوصاف الإخوان " المستمتعين بالنعمة، والمؤثرين للذة، المتمتعين بالقيان والإخوان" 4 ، وهم أناس تربطهم أواصر التمتع بالجمال وتحكمهم تجارة الجواري والقيان، ولذلك تنافسوا في الدفاع عن "أنفسهم وفرض تجارتهم حتى لا تبور سلعتهم، وحرصوا على دفع الناس إلى وصفها تجارة حلالاً، إذ لا نص يحرمها في اعتقادهم، ولا حديث ينكرها" 5. فمن هؤلاء المقينين وجهت الرسالة إلى " أهل الجهالة والجفاء، وغلظ الطبع، وفساد الحس" 6 الذين ينكرون نعمة القيان، وينتصرون لإنكارهم بدليل من القرآن أو الحديث الشريف.

لقد جعل الجاحظ من رسالته فضاء يتعاور في فقراته قضية نزاع فقهي بين فريقين متعارضين، أولهما يؤمن بجواز اختلاط المرأة بالرجال ومحادثـاتهم، والثانـي يرفـض هذا الاختـلاط و يحرمه؛ ونتــيجة هذا التباين في المواقف والاختلاف في القناعات طغى على الرسالة؛ بالإضافة إلى المقصدية الأدبية الإمتاعية؛ المقصدية الحجاجية التداولية التي شكلت ملمحًا من ملامح بلاغة الرسالة  ورافدًا من روافد خطابها.

 إن رسالة "القيان" فن من الكتابة النثرية تم تسخيره لتصوير عالم "القيان" بكل متعلقاته النفسية والاجتماعية والثقافية. وما هؤلاء القيان إلا إماء "يحسن الرقص والمداعبة والغناء"7 وتكفيهن في ذلك شهادة الجاحظ الذي أقر بأن الواحدة منهن تنشأ "من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث وصنوف اللعب والأخانيث وبين الخلعاء والمجان، ومن لا يسمع منه كلمة جد، ولا يرجع منه  إلى ثقة ولا دين ولا صيانة ولا مروة "8، هكذا استوى عالم القينة على خلال من اللهو والمجون والإغراء، وانعقدت نتيجة لذلك روابط مهنية لم يكن للمجتمع العربي إلف بها ولا عهد، فالتــأم  شمل "القيان" في رابطة اجتماعية تجمع كلا من "القيان" و "المقينين" و"الربيطين" حتى غدا التقيين "صناعة كريمة شريفة"9 تلبي حاجات من عشق القد الجميل، وسلم  مهجته برمية من لحظ ودعابة من تبسم، فأوقعه ذلك في حبال الهوى وانقاد إلى غواية القينة بسحر كلامها وعقيرة حلقها. والظاهر مما سبق أن الجاحظ في تناوله لهذه الطبقة من النساء لم ينطلق "من تجربة غزلية ذاتية، ولم يصف قينة بعينها، بل انطلق من ظاهرة حضارية عامة "10، ودليل ذلك أن الرجل لم يختر للقينة "التي يصفها اسما من الأسماء"11، فقال "إن القينة لا تكاد تخالص  في عشقها، ولا تناصح في ودها لأنها مكتسبة ومجبولة على نصب الحبالة..12، وكأن الجاحظ يروم تصوير نموذج إنساني ترتد إليه خلال القيان جميعهن. وتقف عند بابه أفعالهن. 

لقد شكلت رسالة القيان مرتعًا فسيح الصفحات نثر من خلاله المؤلف ملامح بلاغته الرحبة، وضمنه ما يؤمن به من رؤى ثقافية وفنية  واجتماعية، حتى صارت؛ بما حظيت به من شهرة؛ قبلة كل أديب، ووجهة كل بليغ شغفه من الكلام سحر وصفه وبراعة تصويره ومنطق احتجاجه.

2: صورة المرأة في نثر الجاحظ:

 2-1 : المرأة البليغة:   

لم يخل الشعر العربي القديم من قصائد شعرية تناولت بالوصف والتصوير صورة المرأة الجسد، بوصفها أيقونة تبعث على المتعة والتسلية، حيث عرج كثير من الشعراء على تقصي أوصافها الجسدية، وأسهبوا في وصف محاسنها الفاتنة، التي جعلت منها رمزًا يدل على ما تبوح به الطبيعة من جمال أخاذ، ولم يكن الشعر ليستر  هذا الوصف الذي أرخى ظلاله على جسد المرأة دون روحها وفعلها، حتى غدا بذلك ظاهرة فنية يتلمسها النقاد في أغراض فنية من قبيل الغزل والتشبيب وغير ذلك، فكان من الطبيعي والحال هاته أن يزخر تراثنا الشعري بشعراء كبار عرفوا بمعية من أسماء صويحباتهم، واستقرت صورة المحبوبة الجميلة موضوعًا للشعر عند طائفة منهم، إلا أن هذه الصورة لم تحد في تكوينها عما تتصف به النساء من جمال فتان "في الوجوه النيرة، والمحاسن الرائعة المعجبة، والصور المليحة الأنيقة، واعتدال التركيب، واستقامة التدوير، وسبوطة الشعر وجزالة الفروع، وجعودة الغدائر واسترسالها على المتون كالأشطان، ونجل العيون وحور الأحداق وبرج المقل وأسالة الخدود"13 وغير ذلك مما لهجت به خواطر الشعراء، وجادت به قرائحهم في التصوير، حتى ليخيل إلى دارس الشعر القديم أن الباعث على قول كثير من قصائده ما للمرأة من جمال ساحر يخلب ألباب الشعراء و يأخذ بتلابيب إبداعهم. وحسبي من ذلك أن معظم هؤلاء الشعراء14 وقفوا في وصفهم على مفاتن المرأة ومحاسنها أكثر مما وقفوا على خلالها النفسية، وأفعالها التي تعكس أحوالاً من طبيعتها وشيمًا من سلوكياتها وتصرفاتها، فهذا ذو الرمة يصف الجمال المادي لحبيبته فيقول:

براقة الجيـد واللبات واضحة

                         كأنـهـا  ظـبـيـة  أفـضـى  بـهـا  لـبـب

  عجزاء  ممكورة  خمصانة قلق

                         عنها الوشاح وتم الجسم والقصب

زين الثياب وإن أثوابها استلب

                         فـوق  الحـشية  يومـــًا زانها  السلب

تريك  سنة  وجه  غـير مقرفة

                         ملساء  ليس  بها  خـــال  ولا ندب  15 

 

وهو وصف جسدي سخره الشاعر بغية تشكيل صورة مكتملة وجميلة لمواضع من جسد حبيبته، بحيث لا مجال للوقوف في هذه الأبيات على ما يرتبط بجوانب أخرى تتعلق بالروح والفعل والعقل، التي قد تفيض بها المرأة  على ما حفره الشعر في الوعي الجمعي، فتمحو بذلك صورتها المختزلة في خصال من جسدها، والتي تجعلها ذاتًا تربطها بالمتعة واللذة والإثارة أواصر متعددة.

بيد أن نثر الجاحظ لم يذعن لما ترسب في الذائقة الشعرية من اختزال يحسر المرأة في محاسن جسدها، وإنما سعى؛ في تصويره المرأة؛ مسعى يشكل صورتها من روافد متباينة، وكأن الجاحظ بتبنيه هذا النهج في التصوير يروم كشف الستار عما  أغفله الشعر من سمات تقدم المرأة بوصفها "نموذجًا اجتماعيًّا فاعلاً في محيطه"16، ولذلك لم تكن المرأة في رسالة القيان لذة تباع وتشترى ومتعة تعشق وحسب، إنها؛ بالإضافة إلى ذلك كله؛ قوة جامحة من الرزانة، وأنموذج بشري ناطق بدرر من الجمل البليغة، وكاتبة بارعة 17 تبدع بدواتها رسائل من العشق تخيط منها شركًا لمربوطيها. أو ليست المرأة عنده مسامرة للرجال في حديثهم، وحافظة من الشعر عيونه التي تصطاد بها طلابها، وصاحبة رأي ومشورة عند بعض الخلفاء؟ ثم ألم تكن بلاغة جوابها هي التي حقنت دمها من الإهدار؟ ففي سياق إبراز الجاحظ لهذه السمة من شخصيتها البليغة أورد في رسالته خبر جميل وبثينة التي "حسك في صدر أخيها ما حسك من استعظام المؤانسة، وخروج العذر عن المخالطة، وشكا ذلك إلى زوجها وهزه ما حشمه، فكمنا لجميل عند إتيانه بثينة ليقتلاه، فلما دنا لحديثه وحديثها سمعاه يقول ممتحنًا لها: هل لك فيما يكون بين الرجال والنساء فيما يشفي غليل العشق ويطفئ ثائرة الشوق؟ قالت: لا، قال: ولم ذلك؟ قالت: إن الحب إذا نكح فسد. فأخرج سيفًا قد كان أخفاه تحت ثوبه فقال: أما والله لو أنعمت لي لملأته منك، فلما سمعا بذلك وثقا بغيبه وركنا إلى عفافه، وانصرفا عن قتله، وأباحاه النظر والمحادثة " 18

لم تذعن بثينة في هذا الخبر لما راودها به جميل وأبت أن تنقاد لغوايته المفتعلة، وأخرجت بجوابها (إن الحب إذا نكح فسد) المرأة من حيز الشهوة الجامحة التي طالما تغنى بها الشعراء إلى حيز الخطاب البليغ الذي دفع جميلاً إلى تغيير موقفه وسلوكه معًا. جواب مختصر لكنه بالغ التأثير في مخاطبه، وبفضله انتصرت المرأة الناثرة على الرجل الشاعر دون أن تكون في حاجة إلى تطعيم كلامها بشيء من التشبيه و الاستعارة والمجاز، وبذلك يعلن النثر انتصاره على يد المرأة التي أتاح لها الجاحظ فرصة الكلام لتكشف ملامح من شخصيتها البليغة التي تجمع الشعر والنثر والكتابة والارتجال والحفظ والرواية، فتنأى بذلك صورتها عما ألفه القارئ من ملامح مادية فاتنة. وتصطنع لنفسها أبعادًا  رحبة  تشكل صورتها الشخصية.

2-2 المرأة الفاتنة:

" صورة المرأة في النثر ليست صورة  حسية تقوم على وصف المحاسن  والمفاتن   كما هو الحال في شعر الغزل ، بل تقوم على تأثير الجمال في المحيط الإنساني الذي تعيش فيه"

                                               ٭٭٭محمد مشبال 

 

بتنا على يقين تام بأن أبا عثمان قد جعل من نثره فضاء تصويريًّا يسع أبعادًا رحبة من السمات الفنية التي غيبها الشعر في تشكيله صورة المرأة، فبعد أن ظفر الشعر بجسد المرأة واحتفى بمفاتنها المادية، يقف نثر الجاحظ مستلهمًا لصورتها خصائص وأفعالاً تعري جوانب منسية في شخصيتها، وتفتح بلاغة التصوير عنده على رؤية من الوصف لا يقف مداها عند حدود الجسد وتفاصيله التي يستسيغها الذوق النقدي العربي، ففي رسالة القيان يكشف النثر عن سمة "المرأة الفاتنة" التي تتخذ من سحـر فتنتها سلاحًا تسحــر به طلابـها من الرجال  وتبلغ به أهدافها وطموحاتها؛ ولعل في هذه الفتنة من الفعل ما استدعى من النثر أن يولي وجهه نحو تصوير المرأة الفاتنة وأثرها في المحيط الاجتماعي الذي تعيش فيه. يقول الجاحظ واصفًا غناء القينة و تأثيره على سامعيه:

"وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغني حدق إليها الطرف، وأصغى نحوها السمع، وألقى إليها القلب الملك، فاستبق السمع والبصر أيهما يؤدي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه، فيتوافيان  عند حبة القلب فيفرغا ما وعياه، فيتولد منه مع السرور حاسة اللمس، فيجتمع له في وقت واحد ثلاث لذات لا تجتمع له في شيء قط. فيكون في مجالسته للقينة أعظم الفتنة". 19

هي لوحة من التصوير إذًا، انكب فيها الجاحظ على تصوير ما يتركه غناء القينة من أثر في سامعيه؛ بحيث تصبح القينة ردفًا للبلاغة في التأثير، وتنصهر بذلك المرأة في البلاغة من جهة ما تحققه من أثر في المخاطب، وهو أثر تعوذ منه الجاحظ بقوله "اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل" 20، هذه الفتنة التي رصد لها النثر في رسالة القيان إمكانات سردية تعاقبت فيها الجمل الفعلية على تصوير  جوانب من أثر الغناء في جسد السامع ونفسه معًا، وهو الأثر الذي اقتنص له الجاحظ من ردود فعل السامع صورًا مترابطة من التأثر الذي تذعن له حواس من بصره و سمعه حتى يصل ذلك إلى القلب، وقد استجار السرد في ذلك بجمل ذات أفعال وارفة الظلال في معانيها(حدق، أصغى، ألقى، استبق، تولد ..)، وقيد هـذه الأفعال بتواتر الأحداث التــي علقت أفعالها بوصف خطية من الحركة المتنامية في نسق تصاعدي (فاستبق السمع والبصر أيهما يؤدي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه فيتولد منه مع السرور حاسة اللمس)، وأوغل بوصفه في رصد الحالة الوجدانية التي تنتج عن سماع الغناء (السرور)، بحيث يجتمع للسامع (في وقت واحد ثلاث لذات لا تجتمع له في شيء قط). كل هذا وذاك يجعل من غناء المرأة ثوبًا من ثياب فتنتها، ولونًا من ألوان بلاغتها التي تنازع الشعر في قوة تأثيره على النفوس.

ولم تكن المرأة فاتنة بعقيرة حلقها ورخامة صوتها وحسب، بل أبرز لها الجاحظ وجها آخر من وجوه فتنتها التي ميزت شخصيتها، فهي المرأة المحتالة التي جمعت بالإضافة إلى سمات الغدر والإيهام قلة المناصحة والخيانة، وجبلت في فطرتها على "نصب الحبالة والشرك للمتربطين"، وأظهرت من سلوكياتها عكس ما تضمر في باطنها، "فتبكي لواحد بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي واحدًا سرها والآخر علانيتها، وتوهمه أنها له دون الآخر" 21 فجاءت فتنتها مترجمة بترسانة من الأفعال التي تستدرج بها مربوطيها، حتى لتبدو في تصرفاتها متفننة في الاستدراج، قادرة على الاحتيال، متنصلة من عهودها ووعودها، وهي في كل ذلك مراودة بالقول والفعل والحركة. تنصب؛ في خطابها؛ شراكًا من الكلام الجميل الذي يعضد من سحر جمالها وغنائها  فيغدو شعرها أداة إغواء وكيد، وتستعين بحركات وجهها في الرفع من حدة المراودة ( فإذا شاهدها المشاهد رامته باللحظ، وداعبته بالتبسم..)22، بحيث لم يهدأ لها بال من دون أن تسخر لمراودتها أفعالاً مصطنعة تتوخى منها الإيقاع بضحيتها وإيهامه بقدر ما هو عليه من منزلة عندها، فتكاتبه "تشكو إليه هواه، وتقسم له أنها مدت الدواة بدمعتها، وبلت السحاءة  بريقها، وأنه شجبها وشجوها في فكرتها وضميرها، في ليلها ونهارها، وأنها لا تريد سواه، ولا تؤثر أحدًا على هواه، ولا تريده لماله بل لنفسه.." 23، وهي في كل ادعائها تتظاهر بالصبابة،  وتبرع في صنعتها بحسن تمثيلها، وتتقن من الحيل ما تسحر به مخاطبـها  لتملك منه زمام عقله وقلبه. حتى إنها على حد تعبير الجاحظ تحسن ما "ليس يحسن هاروت وماروت، وعصا موسى، وسحرة فرعون". 24    

وقد تولى السرد رسم سمات شخصيتها المحتالة، فأخرج ذلك في أفعال متلونة ساهمت في نمو الأحداث وتقدمها، وأسبغ عليها نعوتًا من الأفعال والأوصاف تفضي كلها إلى  معاني الاحتيال والمكر والمراودة، والحق أن هذه الأوصاف  جعلت منها امرأة فاتنة بغواية الغناء، ساحرة بما للكلمة البليغة من تأثير في نفسية المتلقي، بحيث لم يكن من المصادفة في شيء أن يعمد الجاحظ إلى وصف ما تحفظه من مادة غزلية توظفها في مقام المراودة والإغراء، فــ "تروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت فصاعدًا...ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة، ولا ترهيب من عقاب، ولا ترغيب في ثواب؛ وإنما بنيت كلها على ذكر الزنى والقيادة، والعشق والصبوة، والشوق و الغلمة"25، ويكون في حفظها لهذه المادة من شعر الغزل ما يكشف عن مكون آخر من مكونات صورتها الفاتنة. 26

 في الختام:

لم يكن نثر الجاحظ ليجاري بعض الفنون النثرية التي حاولت أن ترسخ حضورها الأدبي من خلال إذعانها للسلطة الجمالية التي رسخها الشعر في الذوق الأدبي العام، حيث كانت القصيدة "الشكل الأدبي الأقوى حضورًا في الوعي الجمالي والأقوى تحكما في صياغة المبادئ النقدية والمقولات البلاغية" 27، وإنما نحا نثره؛ ممثلاً في رسالة القيان؛ منحى بلاغيًّا يهتدي في رؤيته البلاغية إلى مسلمة الوعي بالجنس، وهي مسلمة اقتضت من الجاحظ أن ينهل من تصور بلاغي زحزح إلى حد بعيد ما قام عليه الشعر من أصول بلاغية طالما احتفى بها النقد القديم وفرش لها من مصنفاته الشيء الكثير، ولعل في ذلك ما يفسر للقارئ المذهب البلاغي الذي تبناه الجاحظ في تصويره  المرأة القينة، والذي جنح فيه نحو شيء من الواقعية في الوصف، وحرص على أن يستمد مقوماته الأدبية بمنأى عن خيالات الشعر ومجازاته، وأخرج بذلك الوصف الأدبي من حدود الجسد وتفاصيله إلى مساحات رصد من خلالها جمال الفعل والكلمة والتأثير. هذا و يظهر من الرسالة أن الجاحظ  قد راهن في نثره على نقل "الأدب من طور بلاغة الأسلوب إلى طور بلاغة الحياة"28 بحيث لم يعد النثر معه مشدودًا إلى سحر الكلمة وفتنتها الأدبية، بقدر ما أنه عكف على تصوير تفاصيل الحياة ودقائقها، وفي ذلك ما يفسر اهتمام الجاحظ بطبقة القيان مولدًا ومنشأً، ثقافةً وسلوكًا، جمالاً وغناءً، فتنةً وتأثيرًا، وهو في  ذلك كله لم يحد في كتابته النثرية عن "التصوير الدقيق الذي لا يقاس إليه تصوير" 29 محاولاً بذلك تصوير نماذج من البشر على حقيقتها الإنسانية التي تجمع بين الخير والشر من دون مبالغة أو غلو. 

 

الهوامش:

٭٭ البلاغة والسرد، جدلية التصوير والحجاج  في أخبار الجاحظ  محمد مشبال  منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة عبد المالك السعدي  تطوان 2010، ص: 110

1 - من حديث الشعر والنثر، طه حسين، دار المعارف بمصر ، سنة 1969 ، ص: 66

2 - البلاغة والسرد، ص: 162

3 - من هؤلاء المقينين نذكر أبا موسى بن إسحاق بن موسى، ومحمد بن خالد خذار خذاه، والحسن بن إبراهيم بن رباح،  وغيرهم.

4 - رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ، مكتبة الخانجي  بالقاهرة ، 1964 الجزء الثاني، كتاب القيان، ص:143

5 - التقيين في العصر العباسي، محمد المختاري العبيدي، مجلة حوليات الجامعة التونسية، كلية الآداب جامعة تونس، العدد 28 ، سنة 1988،ص :257

6 - كتاب القيان، ص: 143

7 - مرجع سابق، محمد المختار العبيدي، ص: 256

8 - كتاب القيان، ص: 176

9 -نفسه، ص: 179

10 -أدبية النص النثري عند الجاحظ، صالح بن رمضان، مؤسسة سعيدان للطباعة والنشر، تونس، سوسة، الطبعة 1 ، سنة 1990 ، ص،23

11 - الجاحظ والمرأة ، شارل بلا، حوليات الجامعة التونسية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تونس، العدد 25 ،  1986 ، ص :17

12 - كتاب القيان، ص: 171

13 -المرأة في الشعر الأموي، فاطمة تجور، منشورات اتحاد كتاب العرب، 1999 ، ص: 298

14 - من هؤلاء الشعراء شعراء العصر الجاهلي الذين سخروا شعرهم لوصف جسد المرأة ، وافتنوا في تصويره حتى عد مذهبهم في ذلك نموذجا يحتذى من لدن من لحقهم من الشعراء، وحسبي من ذلك دليلا قول امرئ القيس:

     مهفهفة بيضاء غير  مفاضة           ترائبها  مصقولة كالسجنجل

انظر في ذلك: ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الخامسة، دار المعارف بمصر، ص:15

15 - ديوان  ذي الرمة،  رواية أبي العباس ثعلب، تحقيق وتقديم  عبد القدوس أبو صالح، مؤسسة الإيمان بيروت، سنة 1982، ص: 26

16 – أدبية النص النثري عند الجاحظ، ص: 40

17 - يعتقد عبد الفتاح عثمان  أن كتابة الرسائل الغرامية نوع  فني جديد  ابتكرته الجواري في العصر العباسي، انظر في ذلك: شعر المرأة في العصر العباسي، دراسة  تاريخية وتحليلية وفنية، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة ، 2004، ص:153

18 - كتاب القيان، ص : 149

٭٭٭ البلاغة و السرد، محمد مشبال، ص: 132

19 - كتاب القيان، ص: 171

20 - البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة الطبعة السابعة،1998. الجزء الأول، ص:3

21 - كتاب القيان ، ص: 175

22 - نفسه ، ص: 171

23 - نفسه ، ص: 172

24 - نفسه ، ص: 175

25 - كتاب القيان، ص: 176

26 - أدبية النص النثري عند الجاحظ، ص: 29

27 - بلاغة النادرة، محمد مشبال، دار جسور للطباعة والنشر، الطبعة الثانية،  2001 ، ص: 64

28 -الفن ومذاهبه في النثر العربي، شوقي ضيف، مكتبة الدراسات الأدبية، دار المعارف، الطبعة التاسعة، ص: 161

29 - من حديث الشعر والنثر،ص:66

المصـادر:

- البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة السابعة،1998.

- ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الخامسة، دار المعارف بمصر، 1969.

- ديوان   ذي الرمة،  رواية أبي العباس ثعلب، تحقيق وتقديم  عبد القدوس أبو صالح، مؤسسة الإيمان بيروت، سنة 1982.

- رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة ، 1964 .

المراجع:

- أدبية النص النثري عند الجاحظ، صالح بن رمضان، مؤسسة سعيدان للطباعة والنشر، تونس، سوسة، الطبعة 1، سنة 1990.

- بلاغة النادرة، محمد مشبال، دار جسور للطباعة والنشر، الطبعة الثانية،  2001

- البلاغة والسرد، جدلية التصوير والحجاج  في أخبار الجاحظ، محمد مشبال، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي تطوان 2010.

- التقيين في العصر العباسي، محمد المختاري العبيدي، مجلة حوليات الجامعة التونسية، كلية الآداب جامعة تونس، العدد 28 ، سنة 1988.

- الجاحظ والمرأة، شارل بيلا، حوليات الجامعة التونسية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تونس، العدد 25 ،  1986 .

- شعر المرأة في العصر العباسي، دراسة  تاريخية وتحليلية وفنية، عبد الفتاح عثمان، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، 2004

- الفن ومذاهبه في النثر العربي، شوقي ضيف، مكتبة الدراسات الأدبية، دار المعارف،  الطبعة التاسعة.

- من حديث الشعر والنثر، طه حسين، دار المعارف بمصر، سنة 1969 .

- المرأة في الشعر الأموي، فاطمة تجور، منشورات اتحاد كتاب العرب، 1999.

 


عدد القراء: 19297

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-