رائحة الترابالباب: نصوص
زهير بوعزاوي المغرب |
مازلت ممددًا، أصبحت ضلوعي لصيقة بالأرض، صار شعري كثًا ولحيتي تشعثت، تنبعث مني رائحةٌ كريهة، تخنقني، أحاول الهرب منها، تتعقبني، تعاقبني، أكاد أفقد صوابي، بين الجدران الأربعة.
فُتحت النافذة، رمى الحارس كوب شاي وكسرة خبز من خلالها، صفقها خلفه، دو الاصطكاك في أرجاء الدهاليز الفارغة، سمعت صوت المطر يتساقط فوق قصدير السقف، تخترق رائحة التراب الجدران الصلدة، أشمها، تقذفني إلى عالم آخر، أطارد الفراشات، أصطاد الطيور، أسبح في الجداول، أقطف ليمون البساتين، أتناوله بين الصخور الكبيرة، أحفر حفرة في الأرض، أدفن قشوره فيها، أواريها بالتراب، ألعق أصابعي الدابقة، أتمدد تحت ظل شجرة، أعب من النسيم أنفاسًا عميقة، تلج رائحة التراب أنفي، أنتشي بها، أغمض عيناي، أغازلها، تأخذني الهجعة، أتمنى ألا أستيقظ، وتتلاشى رائحة التراب.
قبل وفاة جدي ترك خلفه أمي وخالي وجدتي، ووصية كتب فيها أن حقله الصغير أمسى في ملكية والدتي، ثارت حفيظة خالي، غضب غضبًا شديدًا، اسود قلبه عليها، سار يبغضها، رغم أن جدتي نهرته عن ذلك.
أحببت ذاك الحقل كثيرًا، مازلت غضًا على حرثه وزرعه، قد مات أبي قبل أن أولد، عزمت على تقليب ترابه في فصل الشتاء، اقترضت قادومًا وبذور القمح من جارنا، وزاد تعلقي بالأرض ورائحة التراب.
أخبرتني أمي أن خالي أحضر لها أوراقًا، عليها أن توقعها، تحت ذريعة تحفيظ العقاري للحقل، وقعتها، دلفت للغرفة، خلدت للنوم، وفي النافذة وضعت محبقًا مليئًا بالتراب، لأنام قرير العين على رائحته.
بلغنا فصل الشتاء، مشيت إلى الحقل ومعي عدتي، تفاجأت بخالي ومعه أعوان السلطة، أمروني بالابتعاد عن الحقل، لم يعد ملك أمي، صعقت ودهشت، أهرقت جام صراخي عليهم، تساءلت عن المانع، اقترب أحدهم، وهمس في أذني:
- بني لقد وقعت والدتك على تفويت ملكية الحقل لخالك، ولم يعد لكم الحق فيه.
رمقني خالي بنظرة المنتصر، شعرت بنار الظلم تتأجج شعلتها في صدري، تنهدت، هدأت، غادرت الحقل والدموع تنز من عيناي، حتى استكنتا في محجري، تساءلت:
-أين سأشم رائحة التراب الآن؟
وجدت أمي في انتظاري، بحت لها بالمصيبة، عانقتني، ربثت على كتفي، قالت بصوتها العذب:
- لا تخف إن الله يمهل ولا يهمل.
ماتزال رائحة التراب تنفذ إلي، أشمها، أشتهيها، أسمع زخات المطر ترتطم بها، تلك الزخات التي كان صراخ جدتي يشق صدر الليل فيها، يحمل الرجال المشاعل والقناديل، يبحثون هنا وهناك، لا أمل، تصرخ جدتي مرةً ثانية، الخوف سائد، تفشى الهلع في نفوس الباحثين عن خالي، الكلاب تنبح، الرجال ينادون الفراغ، يواجهون الأشجار الكثيفة، يسقط بعضهم في الأجمات، تمسك جدتي يدي، تهرول، تمزق صندلها، لم تشعر بوخز الشوك، شعرت به أنا، انفجرت سيول الدماء من قدميها، تبحث، تصرخ، تكاد تجن، بح صوتها، جف حلقها بالنداءات، تخر ساقطة، تقاوم، تنهض، تسرع في اتجاه العدم، يتلقفها الشك، ينطفئ مشعلها، تعتمد على حدسها، طال الليل، عندما أشرقت الشمس، أنهك العياء أهل القرية، عادوا أدراجهم، الظهيرة وصلت، جاء راعي الغنم، يلقي زفراتٍ حارة من صدره، انعقد لسانه، أخبرهم أن كلبه عثر على خالي مقتولاً والقادوم مغروسًا في رأسه.
فتح الباب، أخذني الحراس، غادرت الزنزانة، وماتزال رائحة التراب عالقةً في تلابيب أنفي، فوق ركح المشنقة، ابتسمت، قال القاضي وهو يشير إلى مساعده أن يضع الحبل حول رقبتي قائلاً:
- ماذا تريد كآخر أمنية؟
أجبته والدموع تتزاحم داخل عيناي:
- أريد أن أشم رائحة التراب.
تغريد
اكتب تعليقك