في الحاجة إلى سقراطالباب: مقالات الكتاب
د. عثمان حسيني المغرب |
يرحل الكثيرون دون أن تكون لحياتهم ولا حتى لموتهم معنى يخلدهم في التاريخ، بل هناك من يحيى في صمت وفيه يموت ليترك من خلفه لا شيء يذكره. إن التاريخ البشري هو تاريخ تناقض مستمر على الدوام، يكاد يكون هذا التناقض هو المحرك الأساسي للتاريخ البشري؛ فهناك من يحيى بالحب وبعشقه يموت، وهناك من يحيى بالحرب وبسيفها يموت، وهناك من يحيى بالحكمة وبمحبتها يموت .
لا تكاد تذكر الفلسفة إلا ومعها أعداءها، فالتاريخ الإنساني يتذكر ولا ينكر، التحامل الذي أبداه أعداء الفلسفة في سبيل هدم صروحها المجيدة، لكنهم نسوا، ويا للغباء، أنها مشيدة بالعقل والمنطق والحجة والبرهان، وإن مساعيهم تلك تحييى الفلسفة، إنهم يضخون نفسًا جديدًا في قلبها ويحشدون محبين وعشاقًا لها، فهم لم ولن يفهموا أن الصغيرة "صوفيا" وقعت في محبة الحكمة وخاضت رحلتها الجميلة وتذوقت لذتها، بسؤال قد يعده العامة صغيرًا وساذجًا، "من أنت؟"
بسهام بائسة ورماح منكسرة حاولوا قتل الفلسفة في الفيلسوف، وبرزانة عقل وبشجاعة قلب أحيا الفلسفة والفيلسوف، إنه سقراط العظيم الذي انبعث من رماد موته نفَس ـ بفتح الفاء ـ الفلسفة، لقد أفسد عليهم نخب ما اعتقدوا بأنه نصر.. ربما لم يكن يعنيهم موت الفيلسوف بقدر ما كانوا ينتظرون موت الفلسفة، وربما كانوا ينتظرون لحظة ضعف يستسلم فيها العقل لعاطفة المحبين والأصدقاء، لكن الحكمة انتصرت على الأهواء والعقل خان العاطفة وبسعادة الموت تلاشت الحياة. فحتى حين أصدروا حكمهم الجائر بتهم رخيصة، لم يكن صعب عليه تفادي الموت، ولكن "الهرب من الشرور أصعب"، كما يقول، لأن "شرور الكون هي الأسرع"، فهكذا لم يستطع فيدون إخفاء غرابة شعوره أمام لحظة لم ولن تتكرر كثيرًا في التاريخ البشري، قائلاً: «في الواقع إن شعوري كان غريبًا حقًّا وأنا إلى جانبه - يقصد سقراط قبيل الموت - وفي الحقيقة لم تتملكني الشفقة عندما كنت أفكر أني أشاهد رجلاً كنت أتعلق به كثيرًا ذلك لأنه بدا أمام عيني سعيدًا سعادةً لا يعرفها إنسان أبدًا" .
إنه لتأكيد حق، لقيم النبل والشجاعة الحقة، التي تبناها سقراط كممارسة وليست كفقاعات نظرية تتهاوى أمام أولى لحظات الحقيقة والواقع، "فالذي قضى حياته في الفلسفة حقًا، تكون نفسه مليئة بثقة عظيمة في لحظة الموت"، وليس سقراط إلا واحد من الذين تعلقت قلوبهم وعقولهم بمحبة الحكمة، لذلك فقد كان منشغلاً عن الموت بالحديث عن اللذة والألم وتحرير الفكر، والفضيلة الحقة، والتطهير والحجة، وموضوعات الحواس والفكر والمسائل العامة للطبيعة وحتى واجب الاهتمام بالذات ... فالموت لم يكن يعنيه في شيء "يوجد حينًا لا نوجد، ونوجد حين لا يوجد".
ها هنا حقًّا وصدقًا تصبح الحاجة إلى الفلسفة، أكثر من غيرها، ضرورية؛ ذلك إن الإنسان الفيلسوف وحده يشعر بملكية الفكر ومعه الحرية وسعادة الموت، كم نبغضك على سعاتك بموتك ياسقراط، وكم هم أعداؤك يائسون، بائسون، تعساء حين اكتشفوا أنهم فشلوا أيما فشل في احتلال وجود الفلسفة لما طردتهم من كينونتها إلى سفسطتهم المتلاشية.
تغريد
اكتب تعليقك