التأمُل مجرد اختبار للوقتالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-29 14:22:07

شيرين ماهر

كاتبة ومترجمة من مصر

ترجمة: شيرين ماهر 

توم كاتوينكل – د. جاكوب سيمانك

تهرع الدقائق وكأنها تتبخر تارة، بينما لا تتحرك كحجر ثقيل تارة أخرى.. لماذا يحدث هذا وذاك؟ وما المعيار الذي يكسب الزمن زئبقيته الحركية؟ وماذا فعلت كورونا بإدراكنا للوقت؟ وكيف أن التأمل بمثابة فحص ذات معيارية متباينة للوقت؟!

يجيب "مارك فيتمان"، عالم النفس والفلسفة بمعهد المناطق الحدودية لعلم النفس والصحة العقلية بجامعة فرايبورغ وصاحب عدة مؤلفات وأبحاث عن التصورات الزمنية وكيفية إدراك الإنسان للوقت، على هذه التساؤلات في مقابلة أجراها معه موقع "دي تسايت" عبر تطبيق زووم، خاصة وأن الديناميكية التي يفك بها العقل شفرات الوقت أصبحت تحمل خصوصية أكثر إلحاحًا في ظل وباء يبدو للكثيرين وكأنه سيمكث للأبد.

 

سيد فيتمان، رغم أن معطيات الوقت مرهونة بثوابت حسابية لا تتغير، فاليوم 24 ساعة والدقيقة 60 ثانية. ومع ذلك، يبدو لنا الوقت، في بعض اللحظات، كأنه يتطاير، وفي لحظات أخرى، لا يتزحزح على الإطلاق. ما تفسيرك لهذه العملية الإدراكية المتفاوتة؟

ما تقوله هو بالضبط ما يٌعرَف بـ"لغز الزمن" الذاتي. إذا انتبهت إلى الوقت، سيبدو أنه يمر ببطء. وإذا كنت مستغرقًا في شيء أخر، لن تشعر به على الاطلاق. نعم، يمكننا قياس الوقت بقراءة الساعة. لكننا بهذا ندرك صورته فقط، وليس ماهيته. إذن، كيف ندرك الوقت؟ في حقيقة الأمر، نبني هذا الإدراك بمساعدة التصورات التي تسوقها لنا أجسادنا وعواطفنا ومحتويات الذاكرة. هناك أيضًا ما يعرف بـ"الحس الزمني" الداخلي. فعلى سبيل المثال، عندما أنتظر في محطة للحافلات وتتأخر الحافلة، يمكنني ملاحظة أنني أشعر بالبرودة، أو أن معدتي تُصدر أصواتًا، أو ساقي اليمنى تؤلمني. هذه الإشارات الحسية العديدة من شأنها أن تطيل إدراكي للوقت، بشكل شخصي، وليس على نحو واقعي. ولكن على العكس من ذلك، إذا قابلت أثناء انتظاري للحافلة التي تأخرت، صديقًا مقربًا، وبدأنا في الدردشة واندمجنا تمامًا في المحادثة، فلن ألاحظ حتى الكيفية التي مر بها الوقت. وذلك لأنني لم انخرط في التفكير في نفسي - وبالتالي لم التفِت إلى الوقت.

إذن، يقوم المخ بتأسيس إدراكنا للوقت، بصورة ذاتية، وفقًا لعدد الإشارات التي يقوم الجسم بمعالجتها وإرسالها إليه.. في رأيك، ما المؤثرات الأخرى التي تحكم سير هذه العملية؟

أجل، هذا بالضبط ما يحدث.. تتراكم جميع إشارات الجسد داخل المخ، حيث تبدأ عملية المعالجة لهذه الإشارات. وكلما وصل إلى المخ عدد أكبر من الإشارات في فترة زمنية معينة، كلما طال إدراكنا للوقت الذي يمر. هناك أيضاً عامل هام يتحكم في كيفية إدراكنا للوقت يتعلق بمستوى الإثارة. فعندما نكون في وضع استرخاء، يستقبل العقل القليل من الدوافع والمحفزات. لكن كلما ارتفعت لدينا مستويات الإثارة؛ سواء كانت إيجابية أو سلبية، زادت الإشارات التي يطلقها الجسد. وهذا، بدوره، يضاعف إدراكنا للوقت. يمكن ملاحظة ذلك بقوة في حالات الهلع والمواقف المرتبطة بقدر كبير جدًا من الإثارة. لقد اختبرت ذلك بنفسي ذات مرة، عندما نجوت بالكاد من حادث سير، بعد أن انفجرت إحدى إطارات السيارة وانعطفت بي في أحد طرقات "سان دييغو". كنت هادئًا تمامًا، عاجزًا عن فعل أي شيء بالمرة. شعرت، حينها، أن الوقت قد تمدد بشكل لا يصدق. لكنني حاولت اتخاذ إجراءات مضادة لهذا الشعور. أخذت أركز بالكامل في شعوري الداخلي بالوقت وليس الخارجي، لأن جسدي كان يعمل داخلياً بشكل أسرع من المعتاد، بينما، على العكس من ذلك، كان كل شيء بالخارج يحدث بصورة أكثر بطئًا.

هل تعتقد أن التجربة تلعب دورًا مؤثرًا فيما يخص إدراكنا للوقت؟

كلنا نقوم بتوجيه أنفسنا نحو إدراك الوقت بالطريقة التي تعلمنا بها ذلك منذ الصغر. حياتنا كلها تتشكل عبر الزمن، إذ يعمل ذلك بصورة عفوية بدءًا من الحياة المدرسية وإدراكنا أن الدرس المدرسي يستغرق دائمًا 45 دقيقة. ثم في وقت لاحق، عند ذهابنا للطبيب، حيث يصل أقصى مدة للجلسة أيضًا 45 دقيقة. وهذا يعني: أننا أصبحنا ندرك، بشكل بديهي، كم من الوقت تستغرقه 45 دقيقة. وبالتالي يمكننا تقييم ذلك جيدًا. نستخدم أيضًا إشارات أخرى مستوحاة من بيئتنا وتجربتنا. على سبيل المثال، تخبرنا الذاكرة أيضًا بالمدة التي نجلس فيها داخل المقهى، وعدد المرات التي تأتي فيها النادلة، والفترات الزمنية التي يتناوب فيها الضيوف على المقهى. هذا الإدراك المستتر لمثل هذه التفاصيل الزمنية التي اختزنتها الذاكرة، يتم ترجمتها لا شعوريًا بطريقة تساعدنا على تقييم مقدار الوقت الذي يمر علينا من واقع الخبرات اليومية المتكررة.

غالبًا ما تكون اللحظات التي يمر فيها الوقت سريعًا هي لحظات جميلة. ولكن ألا يشعر أولئك الذين لديهم إحساس دائم بأن الوقت ينفلت من بين أيديهم، عند التقدم في العمر، أنهم عاشوا حياة أقصر من غيرهم؟

لا.. الفارق كبير بين أن يكون للوقت وقعًا ليس ثقيلاً عليك وأن تفقد شعورك أصلاً بقيمة الوقت.. هنا، ينبغي التفريق بين شيئين: قد يمر الوقت بسرعة كبيرة في اللحظات الآنية. ومع ذلك، عند العودة إلى الوراء، نستشعرها وكأنها امتدت طويلاً لأننا عشنا في تلك الأثناء الكثير من المشاعر والتفاصيل التي تراكمت داخلنا وتراكمت معها الكثير من الذكريات.. الذاكرة هنا تعيد معالجة اللحظات الجميلة التي انقضت سريعًا في حينها. ففي الواقع تمنحنا الذكريات إحساسًا بأننا امتلكنا عمرًا طويلاً. وعندما نتذكر الأشهر والسنوات القليلة الماضية، غالبًا ما تكون هناك ملاحظات وجودية جديرة بالتأمل. يمكنني أن أخبرك أن الأشخاص الذين لا تتسم ممارساتهم الحياتية بالتنوع، هم مَن سيشعرون أن الحياة قد تسللت من بين أيديهم وانقضت سريعًا، وهنا تكمن المفارقة التي حدثتك عنها.. هؤلاء لم يقومُن بتغذية ذاكرتهم بتفاصيل تجعلهم يشعرون بقيمة الأوقات التي مرت عليهم، رغم أنه في الزمن الفعلي لمعايشتهم، كان الوقت يمر بطيئًا ويبدو على نحو أطول. الروتين يقتل الوقت. وإذا كنت تقوم بفعل الشيء نفسه دائمًا، وتلتقي بنفس الأشخاص وتتحدث عن نفس الأشياء، ستتقلص الذكريات وستبدو الحياة قصيرة جدًا. لقد أجرى عدد من الباحثين مقابلات مع أشخاص من مختلف المهن. وتوصلوا إلى أنه كلما كان الناس أكثر روتينية في عملهم وتفاصيلهم الحياتية اليومية، كلما شعروا بمرور الوقت بألية أسرع في الماضي، على عكس ما كانوا يشعرون به في الوقت الفعلي للأحداث.

بناءًا على نظريتك، يمكننا اعتبار الأشخاص الذين لديهم الكثير من المشاعر، لديهم أيضًا المزيد من الذكريات.. ولكن تُظهر إحدى دراساتك أن المشاعر المفرطة لا تجعل الحياة، بالضرورة، تبدو أطول في وقت لاحق.. كيف ذلك؟

صحيح.. يعتقد البعض أنهم إذا عاشوا حياتهم بطريقة تفاعلية وعاطفية للغاية، بكل تقلباتها، سوف يطيل ذلك من عمرهم الشخصي. لكن الأمر ليس كذلك. ففي عملنا الاستقصائي، لاحظنا أن السنوات العشر الماضية بدت أطول بالنسبة للأشخاص الذين كانوا قادرين على تنظيم عواطفهم جيدًا – وذلك وفقًا للمجلة الدولية للبحوث البيئية والصحة العامة، (2015). لقد فسرنا ذلك أن هؤلاء الأشخاص لم يكونوا تحت رحمة مشاعرهم تمامًا.. أحيانًا يتسبب أن تصبح أسيرًا، بصورة مطلقة، لمشاعرك وانفعالاتك إلى حدوث العكس.. يمكن أن يساعد هذا الفارق الدقيق في الاحتفاظ بذكريات مركبة وأكثر تعقيدًا، وهو ما ينعكس بدورة على آلية إدراك الوقت.

لنتحدث عن العامين الماضيين، منذ أن بدأت أزمة وباء كورونا. لقد ذكر غالبية المتطوعين في دراسة نشرها موقع PLOSE ONE في أبريل من هذا العام - أن الثمانية أشهر الذين أعقبوا الاغلاق الأول كانت طويلة جداً ومرت ببطء شديد.. ما تحليلك لذلك؟

أعتقد أن هذا له علاقة بالطريقة التي يتم بها تفكيك ذكريات هذه الفترة.. يشعر الكثيرون أن أيام العزلة والحجر الصحي كانت طويلة للغاية.. لا يمكننا أيضًا إغفال الطريقة التي ترجمت به ذاكرتنا هذه الفترة وإعادة اجترار تفاصيل المرحلة. إجمالاً، كان الأمر كأننا في فيلم مرعب يمتلئ بتفاصيل غير متوقعة طوال الوقت، وهو ما عزز عامل الإثارة، الذي أشرت إليه في بداية حديثي، والذي يتحكم في الطريقة التي يدرك بها "الدماغ" البشري آلية مرور الوقت. وبالتالي يمكن إرجاع ذلك الشعور بعامل الإثارة الذي اشتبك مع عملية التذكر، وأدى إلى إحساسهم بشعور زمني أطول لهذه الفترة.

كان للوباء أيضًا تأثير كبير على الروتين اليومي لملايين الأشخاص.. حيث العمل عن بعد من داخل المنازل وقضاء الكثير من الناس أوقات أكثر قربًا مع ذويهم نتيجة الإغلاق.. ترى، هل كان ذلك سببًا في مرور الوقت ببطء خلال هذه الفترة؟

الأمر هنا متفاوت، بشكل شخصي، ولا يمكن تعميمه على كل الحالات. لقد مر الوقت بشكل أسرع من ذي قبل بالنسبة للأفراد الذين استجابوا للأمر وأخذوا يشغلون أنفسهم دائمًا، وحرصوا أن يظلوا اجتماعيين، بصورة جيدة، عبر الوسائل الرقمية، على الرغم من الوباء. كان الأمر مختلفًا بالنسبة لأولئك الذين فقدوا الوظائف والذين انكبوا على تحديد أهداف بديلة لمواجهة تبعات الإغلاق. هؤلاء إدراكهم للوقت كان مطاطًا بحسب ما يعتريهم من مواقف. نحن، في النهاية، كائنات اجتماعية، نحتاج إلى أشخاص حولنا نتبادل معهم الآراء حتى نضمن أن نظل بصحة جيدة. وعندما لا نكون على ما يرام، نشعر بأن الوقت آنذاك يتمدد ويكتسب أطوالاً مبالغًا فيها. إن الطريقة التي ندرك بها الوقت تعكس حالتنا الذهنية - وعلى العكس من ذلك، فهي مؤشر جيد على رفاهيتنا وصحتنا النفسية وتصالحنا مع الواقع.. تصورنا للوقت يمثل نوعًا من أنواع التكامل مع ما يعترينا من حالات عاطفية متباينة. باختصار، وقتي يمثلني وإحساسي به يعكس طريقة تفكيري وحالتي الداخلية والطريقة التي انفعلت بها مع الأحداث. وهنا تكمن زئبقية الوقت رغم ثوابته الحسابية.

يمكننا إذن استخدام إدراكنا الشخصي للوقت لتقدير ما هو جيد بالنسبة لنا... ولكن، هل متاح استخدام ذلك واختباره بالفعل؟

أجل.. هذا يكون مُرضيًا، بشكل خاص، لكثير من الناس عندما يتمكنون من إدراك الوقت الحالي والاستمتاع به وتوظيفه جيدًا - وفي نفس الوقت يمكننا النظر إلى الوراء، إلى الماضي، وكأنه حياة طويلة ذات خبرة واعية يمكنني الاستفادة بها لاحقًا. يمكننا الاستفادة من كلتا الحالتين، ومن ثمة، علينا أن نخلق توازنًا صحيًا بين التدفق الزمني الآني والتجربة الواعية لما سبق. هناك جملة لطيفة لعالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال، تقول: "التعاسة تنبع من حقيقة أن الناس غير قادرين على الصمت في الغرفة". أحيانًا يكون لدي انطباع بأن الأمور قد ساءت منذ باسكال "ضاحكًا". اليوم، بعد مرور بضعة قرون من مقولة باسكال، لم يتبق لنا ولو ثانية واحدة لا يمكننا فيها إلهاء أنفسنا بهواتفنا الذكية لنبقى طيلة الوقت صامتين لا نهاتف بعضنا البعض بالطريقة نفسها. لقد أصبحنا متاحين دائمًا للآخرين وللعالم أيضًا دون أي اشتباك فعلى محسوس. لم يعد هناك مكان أكثر حماية للخصوصية والانفراد بالنفس على الإطلاق، ما يؤثر بدوره على المؤثرات السابقة التي تحدثت عنها وتتحكم في إدراكنا للوقت، لذلك أصبحنا نفقد تدريجيًا إحساسنا بالوقت مع هذه التقنيات الجديدة، وكأنها راحت تقتل مستقبلاتنا الحسية للوقت.. والدليل أننا قد نمضي بضعة ساعات على هواتفنا الذكية دون أن نشعر.

ماذا يمكننا أن نفعل حيال ذلك وقد أصبحت تلك التقنيات تلتهم أوقاتنا طواعية؟ وهل يمكن أن يساعد التأمل في قضاء الوقت مع أنفسنا بشكل أفضل؟

يمكننا أن نبدأ بتحديات صغيرة، من خلال التأمل أو ممارسة اليوجا أو تعلم لغة جديدة أو استخدام آلة موسيقية. يتعلق الأمر دائماً بفعل شيء ما، يستدعي التركيز دون تشتيت الانتباه. وبعد ذلك يمكن أن نكافئ أنفسنا بمشاهدة مسلسل أو فيلم أو شيء من هذا القبيل. يقترب المرء رويدًا بمثل هذه الخطوات الصغيرة من الشعور بأن الوقت لا ينفلت منه بطريقة تساعده على إدراكه بصورة ملموسة. التأمل أيضاً بمثابة اختبار للوقت، خاصة وأن الجانب المركزي لمعظم أنواع التأمل يتمثل في التركيز الجسدي. علينا أيضًا أن نتعلم التخلي عن وجهات النظر المستقبلية والماضية؛ كالأفكار حول الأشياء التي تم القيام بها بشكل خاطئ أو التي لم يتم القيام بها بعد. هذه الممارسات الذهنية تساعدنا أيضًا على الشعور بالوقت بصورة أفضل دون استغراقات مُضلِلة للشعور الآني بالوقت. نحتاج إلى التحكم في الخبرة الحسية للوقت، بحيث تصبح التجربة الممتدة للحاضر فيما يتعلق بالمستقبل والماضي أكثر تنظيمًا. علينا أيضًا أن نحرر عقولنا من مهام بعينها، حتى لا نقع في فخ الإدراك المُسبَق للوقت.. يمكننا أن نطبق ذلك في يوم العطلة وأن نقول لأنفسنا: "لن نفعل أي شيء، ولن نخطط لأي شيء، ولن نضبط منبهًا أيضًا. فقط نستيقظ ونرى ما سيأتي في طريقنا". لو تحررنا من خطة زمنية مُسبقة لتفاصيلنا اليومية، سيتحرر الوقت أيضاً من معيارية وضعناها له سلفًا.

 

المصدر:

موقع "Die Zeit/ دى تسايت" الألماني

رابط الموضوع:

https://www.zeit.de/gesundheit/2021-10/zeitwahrnehmung-psychologe-marc-wittmann-forschung-zeit-empfinden-corona-pandemie

تاريخ النشر: 1/11/2021


عدد القراء: 1722

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-