الصراع بين الإخوة الأدباء... آل غويتيسولو أنموذجًاالباب: مقالات الكتاب
علي بونوا مترجم وباحث في الأدب الإسباني (مكناس - المغرب) |
بقلم: لويس أليماني
كاتب صحفي مختص في الشؤون الثقافية بجريدة إل موندو الإسبانية
ترجمة: علي بونوا
حين نتحدّث عن قابيل وهابيل يتبادر إلى أذهاننا ذلك التنافس بين الإخوة كأنّه سمٌّ يُدمِّر إحدى العائلات. وعلى سبيل المثال، آل غويتيسولو، خوسيه أغوستين(1)، خوان(2) ولويس(3): ثلاثة كُتّابٍ معروفين ومتباعدين فيما بينهم ويُضايق بعضُهم بعضًا. لماذا؟ قد يظنُّ أيّ شخصٍ بأنّهم كانوا يتصارعون من أجل أنْ يكون الواحدُ منهم أفضل من أخويه الآخرَين في الحياة والأدب، ويمكنُ أن يكون ذلك صحيحًا إلى حدٍّ ما، كما يُمكن أيضًا أن تكون لمشاكلهم صلةٌ بالحزن أكثر مما تتّصلُ بالنجاح.
ذلك هو الانطباعُ الذي تُخلِّفه قراءةُ «آل غويتيسولو»، كتاب السيرة المشتركة الذي كتبه عنهم ميغيل دالماو (دار أناغراما للنشر، 1999). يبدأ الكتابُ كأنه أحد فصول رواية «آل بودنبروك»(4)، مثل قصةِ سلالةٍ أسطوريّةٍ من رجال أعمال يحقّقون، على مدى أجيال، سمعةً بورجوازيّةً كبيرة: ضيعةٌ في ليكييْتو(5)، مصنعٌ لتكرير السُّكر في كوبا، المنزلُ في ساحة كاتالونيا، ضيعةٌ أخرى في منطقة الأمبوردان(6)، القصرُ ذو الأبراج الثلاثة...
هكذا حتى نصل إلى خوسيه ماريّا غويتيسولو، والدُ الكُتّاب الثلاثة، وهو كيميائيٌّ وسبّاحٌ في البحار المفتوحة، مهنيٌّ ناجح، مُمتنِعٌ عن تناول المُسْكِرات، نباتيٌّ وزوجٌ محظوظ للحسناء والمثقَّفة خوليا غاي. كانا يعيشان معًا في شارع بابلو ألكوبير، بالجزء العلويِّ من برشلونة وكانت لهما طفلةٌ تُدعى مارتا وطفلٌ يُدعى أنطونيو الذي كان الأبُ يفتخر بذكائه المُدهش. لكنّ أنطونيو مات ذات يومٍ فحزن عليه خوسيه ماريّا إلى حدِّ أنّه لم يكترث لمولوده الذكر الآتي، طفلٌ ذو بشرةٍ داكنةٍ جدّاً سُمّي خوسيه أغوستين أو بيبي (Pepe) كما ينادونه. وجاء بعد ذلك خوان، جميلٌ وله عينان فاتحتا اللون فاختاره والدُه ليكون ابنه المفضّل الجديد (هنا تبدأ المأساة) ثم جاء لاحقًا، بشكلٍ غير متوقَّع تقريبًا، ابنٌ آخَر: لويس. وجاءت الحربُ(7) أيضًا فقضى خوسيه ماريّا يومًا ونصف اليوم في معتقلات الجمهوريِّين التي خرج منها، لسوء حظِّه، مريضًا مرضًا مُزمِنًا. وفي العام التالي، قُتِلت خوليا في قصفٍ على برشلونة. وحينئذٍ، انقلبت قصةُ آل بودنبروك إلى حكايةِ بيتٍ يَسكنُه أحدُ الأشباح.
كان خوسيه ماريّا غويتيسولو هو شبح الحكاية أما صِهرُه، شيخٌ ذو سلوكٍ إشكاليّ، فقد تحوّل إلى عقابٍ خاص له. وكان الأرملان يعيشان معًا لأنّ السيد غاي (الصهر) كانت له إيراداتٌ يُخفِّف بها اتجاه آل غويتيسولو نحو الإفلاس، لكنّه كان شخصيةً تشعر دومًا بالإهانة في بيتٍ سائرٍ نحو الانحطاط. رغم ذلك فقد كان الأطفالُ يرتادون مدارسَ جيّدة: إعدادية اليسوعيين في حي سارّيا، إعدادية لاسال في حي بونانوفا... وكان خوسيه أغوستين يلعب كرة القدم وكان شخصًا اجتماعيًّا لطيفًا يُخفي حاجته إلى أن يكون محبوبًا والتي لم يتمّ إشباعُها أبدًا. في المقابل، كان خوان يتظاهرُ بأنّه ليس في أدنى حاجةٍ إلى الحُبّ. كان يكتفي بالغضب الذي كان يُضمِرُه. غضبٌ على نظام فرانكو، غضبٌ على طبقته الاجتماعيّة، البورجوازيّةُ الكاتلانيّةُ التي تكيّفت مع النظام وغضبٌ على البيت البائس الذي كان ينمو فيه.
«شيخوخةُ الأشخاص والأشياء، البرد، قلة النور، أسئلةُ أبي القلقة، صمتُ الجَدّ، ابتسامةُ [الخادمة] إولاليا المؤثِّرة، الضّيمُ المُطبق، الذكرياتُ الحزينة، الكرْب، الغمّ، تأنيبُ الضّمير». هكذا وصَفَ خوان غويتيسولو بيتَه البرشلوني بعد هروبه إلى باريس. هل وصل الأمر إلى ذلك الحدّ؟ يرى ميغيل دالماو أنّ الإخوة الثلاثة كانوا، في العمق، يكتبون بصفةٍ دائمةٍ تقريبًا عن ذلك البيت الشبيه بالأشباح: خوسيه أغوستين من أجل تأويله بطريقةٍ رومانسيّة؛ خوان لتسويد صورته؛ أما لويس فيراه بعيونٍ مُشفِقة. ولذلك فأنا لديّ حدسٌ بأنّ المشكلة بين الإخوة لم تكنْ تتجلّى في الصراع مِن أجل الريادة بل في التنافر بين أحزانهم العائليّة.
لقد قاموا بتوزيع الأدوار فيما بينهم: كان خوسيه أغوستين، من وراء مظهر «الرجل الطيِّب» بتعبيرِ الشاعر أنطونيو ماتشادو، هو الأخَ الأكبر التقليدي المُزعج. وكان يسخرُ من خوان حين يكتب في نصوصه الأولى جُملاً بليدةً مثل «نَزَلَ عَبْرَ السّلالم» أو «دخل إلى الحمّام». وفي إحدى المناسبات حيث كان هذان الأخوان في مسامرةٍ مشتَركة، تحامَلَ خوسيه على الكاتب المسرحيِّ خوان خيرمان شرودر الذي كان يُشاركهم الجلسة بدعوى أنّه كان مِثلِيًّا. بينما كان على شقيقه، الذي لا يزال حينئذٍ متردِّدًا في اختياراته، أنْ يعيش ذلك الموقفَ باعتباره إهانة وُجِّهت إليه بطريقة سريّة.
في ما يتعلق بخوان، فهو كان غضوبًا ومتصلِّبًا ومتهرِّبًا من أيِّ تعاملٍ وديٍّ أو حميميّ. وكان يحتقر خوسيه أغوستين لأنّه تحالف مع الحياة. فقد كان بيبي محاميًا وكان قد تزوّج ويقود سيارةً من نوع رونو ويعيش في حيٍّ بورجوازيّ... والأسوأ من ذلك: لقد كان لقاؤه مع الكتابة من باب تحصيل الحاصل حين كان في الخدمة العسكريّة بجزيرة مينوركا وكان يلعبُ في وسط الميدان بالدرجة الثالثة. لكنه لم يكن كاتبًا حقيقيًّا، حسب رأي خوان المهيب.
لم يَبْقَ لنا إلا لويس، لكن لويس لا يزال حيًّا يُرزَق ويَكتُب ويُمكن أنْ يَقرأ هذه السُّطور ولذلك يَجبُ علينا أن نتوخّى الحذر. إنّ صورته تبدو كصورةِ أولئك الإخوة الصغار الذين يُولَدون وقد تعلّموا الدرس بعد ألفِ مشاجرةٍ بين أخويه. حسب البورتريه الذي يحدِّدُهُ دالماو في كتابه، فإن لويس كان هو الطفلُ المحافظُ واللطيفُ والمفضَّل لدى النساء والكاتبُ الذي يمتلك الموهبة الأكثر فطريّة بين آل غويتيسولو. بينما كان خوسيه أغوستين _بشكلٍ سريٍّ وميئوسٍ منه_ يحتاج إلى أنْ يكون محبوبًا؛ وكان خوان يبحثُ عن شيءٍ يُنفِّس فيه عن غضبه؛ فإن لويس كان يُعجبه أن يكون محطّ إعجابٍ لدى الآخرين. وكان موهوبًا من أجل ذلك: وسيمٌ وخفيفُ الظِّل وكان يُحالفه الحظ أينما حلّ وارتحل.
كان يُحالفه الحظ في كل مكان إلا في الحزب الشيوعي الإسباني، الحزبُ الذي كان قد خيّبَ أمله بصفةٍ حتميةٍ حين تمّ اعتقاله باعتباره مُناضلاً ضِمْنَ صفوفه. في أيّام الاعتقال تلك، عاش إخوتُه الكبار أخطر أزمةٍ في تاريخ عائلة غويتيسولو: تزعّم خوان حملةً في باريس من أجل إطلاق سراح لويس صاحَبَتْها تعبئةٌ من التوقيعات لم تخلُ من البهرجة. أما خوسيه أغوستين، بإمكانياتٍ أقلّ، فقد ضغطَ على معارفه داخل النظام الحاكم. ويُؤكِّد دالماو أنّ جُهوده كانت ثمينةً لكنّها لم تكنْ جيّدةً في نظرِ خوان. وكان هذا الأخيرُ يُعاتبه دائمًا على عدم الدفاع عن أخيه لويس.
حين توفيّ خوان غويتيسولو تمّ تكريمُه باعتباره مَرجِعًا أخلاقيًّا بفضل تلك الصرَامة اللوّامة نفسها. إنّنا في القرن الواحد والعشرين ونصفُ إسبانيا ما زالت كما هي، وكان يقول صارخًا بأنّ العالم كان قذارة وسيبقى كذلك، أنا أعلمُ ذلك، في عام 510م كما في العام 2000م أيضًا. ماذا عساي أن أقول؟ إنّه كان على حقّ، لكنّ تضخيمه للأُمور يبدو أحيانًا وكأنه تعبيرٌ عن الغُرور. لماذا كان خوان غويتيسولو هكذا؟ لماذا كان يَشعرُ أنّه عندما يجعل العالمَ سوداويًّا فكأنّما يُبيِّضُ روحَه هو؟ رُبّما لنْ يَعرفَ السببَ وراء ذلك إلا شقيقُه لويس.
المصدر:
مقالٌ نُشر على موقع صحيفة إل موندو الإسبانية يوم 16 أغسطس 2019 على الرابط:
https://www.elmundo.es/cultura/2019/08/16/5d53f2b0fdddff0f038b45f1.html
الهوامش:
(1) يُعدُّ خوسيه أغوستين غويتيسولو (1928-1999) واحدًا من أكثر الشعراء الإسبان شعبية في القرن العشرين ومن أشهر دواوينه ذلك الموجه إلى ابنته خوليا (سماها على اسم أمه) وهو بعنوان «كلمات إلى خوليا» الصادر عام 1979.
(2) خوان غويتيسولو(1931-2017): الكاتب والروائي الإسباني الكبير والمعروف بدفاعه عن قضايا العالم العربي والإسلامي. عاش فترة من حياته في باريس وتزوج هنالك من سيدة فرنسية وبعد وفاتها قرر الاستقرار في مدينة مراكش المغربية منذ عام 1996 إلى أن توفي بها عام 2017. وقد استلهم من الثقافة المغربية والعربية العديد من رواياته وقصصه ومقالاته وكتبه من قبيل: مقبرة (1980)؛ في مماليك الطوائف (1986)؛ إسطمبول العثمانية (1989)؛ دفاتر سراييفو (1993)؛ الجزائر في مهب الريح (1994)؛ قراءة في فضاء جامع الفنا (1996) وغيرها كثير.
(3) لويس غويتيسولو: وُلد عام 1935؛ عمل أستاذًا للأدب في جامعة برشلونة وهو من كُتّاب الرواية الإسبانية المميّزين. يُمكن الإطلاع على إحدى مقالاته التي يتحدّث فيها عن علاقته بأخويه خوان وخوسيه في العدد 92 من مجلة نزوى، أكتوبر 2017، (ص 62-63) وهي مقالة ترجمها الأستاذ خالد الريسوني بعنوان: «خوان وآل غويتيسولو في محنتهم وميراثهم».
(4) آل بودنبروك: رواية للكاتب الألماني توماس مان (1875-1955)، صدرت عام 1901 وحصل بفضلها على جائزة نوبل في سنة 1929. وتسرد الرواية قصةَ انحطاط عائلة تُجّارٍ ألمانية مرموقة من أربعة أجيال ما بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر. من ترجماتها العربية تلك التي أنجزها محمود إبراهيم الدسوقي والصادرة عن دار المدى عام 2000.
(5) (Lequeitio) هي بلدة في إقليم الباسك شمال إسبانيا.
(6) (El Ampurdán) منطقة تاريخية في إقليم كاتالونيا.
(7) يقصد كاتب المقالة الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) التي اندلعت بين الملكيين والجمهوريين وانتهت بسقوط الجمهورية... أي أن الحرب جاءت بعد عام من ميلاد الابن الثالث لعائلة آل غويتيسولو وهو لويس، المذكور في السياق.
تغريد
اكتب تعليقك