اللـغـة الشعـريـة في الـروايـة النسوية العراقيةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-29 18:25:57

د. لقاء موسى الساعدي

العراق

تمكنت الرواية العربية منذ ستينيات القرن العشرين من ابتلاع الشعر وزحزحته عن صدارته في الثقافة العربية، إذ تسرب الشعر إلى لغة السرد وصار مظهرًا من مظاهر الحداثة الروائية، فلم يعد النقاد يتحدثون عن الشعرية في الرؤية التي تتمخض عنها الرواية، بل صارت الشعرية قضية واضحة في لغة السرد، التي طغى عليها المجاز والتكرار، والتشبيهات، كما وصلت بعض النصوص إلى الغموض بسبب الكثافة الشعرية في لغة الرواية. حتى إن جبرا إبراهيم جبرا اشترط أن تكون الرواية الجيدة متضمنة للجو الشعري، وأن يكون كاتبها على صلة عميقة بالشعر، أو قد يكون شاعرًا فيما مضى فيصب لغته الشعرية في لغة الرواية(1).

وحين تتمحور الرواية حول الذات وتعزز هذه المحورية باستخدام ضمير المتكلم «الانا» ترتفع الشعرية في لغة الرواية، لأنها تصير تعبيرًا عن هموم الذات الساردة، وإحساسها بالألم وقهر السلطة المستمر لها والملاحقة الدائمة، وأحيانًا إخفاقاتها في التخلص من هذه السلطة. فأصبحت الكتابة الروائية داخلية ذاتية الإحالة والانعكاس تتطلب الإيغال في الذات مما يتطلب لغة شاعرية(2).

وقد أطلق صلاح فضل على الكتابة الشعرية في لغة الرواية (البؤرة الغنائية)، التي ترافقها جملة من المظاهر النصية، منها غلبة النجوى على الحوار في مساحة النص، لأن الأصوات الأخرى تتحول غالبًا إلى مجرد صدى للباطن، وتتضاءل ذوات الأخرين لأن مركز التبئير في النص يقع على الذات، كما ينحسر الفعل إلى الدرجة الثانية تاركًا البطولة للانفعال، ويصبح الاستبطان سيد تقنيات العرض دون أن يصل إلى مستوى الدراما الداخلية، لأنه على يقين تام من عدالته المطلقة(3).

فاللغة الشعرية تجعل النصوص الروائية النسوية متضمنه الاهتمام والتركيز على الرسالة (اعتمادًا على هيكلية رومان ياكبسون للحدث الاتصالي) وهذا يستدعي الوظيفة الشعرية والجمالية، كما أشارت رشيدة بن مسعودة إن الكتابة النسائية تتميز بحضور مرتفع لدور المرسل، مما يعني ارتفاع حضور الوظيفة التعبيرية (الانفعالية والعاطفية)، وهو ما يفسر برغبة المرأة في الربط بين الكتابة والهوية بعد عصور طويلة من القلق على الهوية، وهذا ما يفسر كثرة الأنا في الرواية النسوية كرد فعل على التشكيك الدائم الذي كان يحيط بوجودها(4).

فاللغة الشعرية تجعل من الوظيفة الانفعالية أكثر وضوحًا في كثير من النصوص النسوية، التي تعالج السرد وفق رؤية قائمة على عبثية أحداث الواقع والتنصل من مسؤولية الأبطال عن هذه الأحداث، فهي تأخذهم معها إلى عالم الكارثة والدمار والفقدان، بينما يجتهدون للاحتماء بذواتهم هربًا من عالم الخراب الذي يحيط بهم.

في رواية (بعيدًا عن العنكبوت حارستي حمامة وأكره مدينتي) لفليحة حسن، تقدم الجدة عالم الرواية المسحوق تحت وطأة قدر مجهول الغايات، نصًّا شعريًّا يتضمن مجموعة من الأسئلة التي تكون مقدمة لأحداث الرواية وتستبق الرؤية العبثية التي تقدمها الرواية عن حياة الناس في ظل اللاعدالة وجموح الطمع، والحروب المتجددة.

«ولو أني رأيت شيئًا اسمه قدر لسألته لم فعلت بنا هكذا؟

ما الذنب الذي اقترفناه لتصنعنا على هذه الشاكلة؟

ما الذي دعاك لفعل ذلك؟

أم إن صناعتنا محكومة بمزاجك وحدك؟

نعم. لو رأيته لسألته لم جعلت ولدي يرحل دون عودة؟

لم جعلت دوامة الحروب تأخذه بعيدًا؟

لم لم تقطعهم بأسنانك وهم ينفذون أمر كبيرهم متضاحكين، كل شيء من أجل النصر؟

أخافهم، لم علينا أن نتكاثر من أجل حروبه؟».(5)

وفي رواية (سيدات زحل) تنسج لطفية الدليمي نصًّا شعريًّا تفتتح فيه الرواية يزدحم بالمجازات التي تعكس هذيان امرأة تتوق لرجل «يرش على جوارحي ترياق النجاة، يرقيني بتعويذات الهوى، فينسحب الموت مؤقتًا من نبرة النهار وفيئ النخيل، يفر من رائحة الحب التي تفوح من رعشتي، أسمعه يتقهقر مع دبابات الأمريكان وهرولة المسلحين الملثمين في شارعنا المستباح»(8).

هذه الاستعارات التي حفل بها النص وما يسبقه من صفحات أعطت النص بعدًا دلاليًا متجددًا، مفعمًا بالرمزية التي تقدم تناقضات الواقع وتداخلاته بلغة مكثفة تحيل الواقع الى الخيال والخيال إلى الواقع، وهي في الصميم من مهمة الفن، فالفن في النهاية مقاربة ماهو مألوف بأسلوب غير مألوف.

وبذات الاسلوب القائم على لغة شعرية تتسرب إلى لغة السرد لإضفاء الجماليات الشعرية على الكلمات، بنت نورية السعيدي نصها في رواية (عصفور في ليل مجنون) فالوصف والتشبيهات لا يغادر لغة الرواية كما في قولها: «نظرت روضة إلى الصورة الفوتغرافية نظرة بلهاء ثم إلى أمها التي بدت كورقة ورد ألقيت في أتون جراح فراحت تحترق بلهب الألم نشوانة»(7).ولست أحسب أن الكاتبة قد وفقت في هذه الصورة التي أثقلت النص لبعد العلاقة بين ورقة الورد والجراح كما أن النشوة بالألم لم تكن مناسبة لامرأة مسنة ومريضة.

وأحيانًا يكون استخدام المجاز والتشبيهات وظيفيًا وليس جماليًا كما لاحظناه في النصوص السابقة، وذلك حين يكون الشعر بديلاً كنائيًا عن توصيف رغبات الجسد والعلاقات الحميمة بين الشخصيات، فتميل الكاتبات الى استخدام اللغة المجازية دون الولوج في فجاجة التصريح فتمنح المشهد شفافية إيحائية خالصة. كما في مشهد اللقاء الجسدي في رواية (غايب) بين دلال وعادل على لسان دلال تقول: «بدأ يقودني إلى حيث نجوم الفضة دون مقاومة، نطوف سناجب فتية تنظف فروتها تحت ظلال خريفية. أتحسس شعره، خصلات من نبات زهرة الكجرات. يمددني على ظهري، يدخل إلي من زر قميصي، يتذوق كرزاتي، أصابعه مثل بامياء طرية، تجد طريقها تنزلق إلى أسفل، تظل طريقها، أنظر في عينيه غطاء ليلك يطير فوقه، نلعب، أيدينا تستكشف ثنايا من حرير، يطلب مني زيت الزيتون، برقة أخفض صوتي، أرجل السرير ترتعش».(8)

ولم تحفل بتول الخضيري باللغة الشعرية في روايتها (غايب) لكنها لجأت إليها في هذا المشهد مغادرة لغة السرد المباشرة التي طغت على الرواية.

أما في رواية (هروب المونليزا) لبلقيس حسن فإن لغة الشعر تطغى على النص لكن كثافة المجاز تتسع حين يكون الوصف مقبلاً على تقديم علاقة جسدية بين الشخصيات، كما في هذين النصين.

«بيضاء عاطفتي أيها الوسيم، فلا تخش التعدي على مملكتك السمراء»(9).

«كنت يائسة بوجود من يزلزلني في عالم سقطت كل تماثيله من عيني، أنا الباحثة عن جمال يوقض موسيقاي من نومها الذي طال، فطفقت أداري جمالي، بانتظار دورة أخرى للأرض»(10).

وقد تميل كاتبة مثل عالية ممدوح إلى استخدام لغة المجاز الشعرية في بعض مقاطع وصف العلاقة الحميمة، بعده تنويعًا اسلوبيًا على أسلوب كتابتها الذي يميل الى التصريح والمباشرة في تناول جانب العاطفة والوصال بين شخصيات رواياتها. كما في هذا النص «كلهن في غاية اللطافة والإغراء ونحن معا على الفراش، ونحن على وشك التهام فاكهة الموسم، أنا الفاكهة والوجبة كاملة الدسم»(11).

لم تستخدم الروائيات العراقيات اللغة الشعرية استخدامًا عشوائيًا، فقد كانت المجازات جزءًا من تحولات أحداث الرواية ساهمت في تقديم لحظات التوتر، والترقب في النص. كما إنهن لم يستسهلن لعبة المجازات ولم تتجاوز في كتابتهن الحد الذي يمكن أن يدخل الرواية إلى جملة من الاستيهامات البلاغية المغلقة.

ومن الجدير بالذكر في قضية علاقة الكاتبات بالجسد والكتابة الإيروتيكية، فقد وردت أراء نقدية تغطي الرواية النسوية العربية كلها، وصفتها بأنها من أهم قضايا الكتابة النسوية، كما في قول الكبير الداديسي: «الكتابة عن الجنس والجسد شكل ولع للكاتبات العربيات جعل من أزمة الجنس أهم قضية في متن ماتحكيه النساء وجعلن منها أهم قضية عربية في الرواية النسائية بلا منازع، فتجرأن على موضوعات ظل الاقتراب منها محرمًا محطمات أغلال كل رقابة أو مرجعية كانت تخرس الأفواه»(12) ... وبما إننا نحاول  أن نفكك خطاب التعميم الذي يبني نظريات شاملة اعتمادًا على استقراء نماذج نصية محدودة قد تغطي تجربة روائية في بلد ما،  ولكنها لا يمكن أن تشمل الرواية النسوية العربة بشكل عام، كما في رأي  الكبير الداديسي هذا، الذي يتجاهل أن لكل بلد خصائصه وظرفه التاريخي الذي يحكم الناس فيه. فلم أجد في الرواية العراقية النسائية هذا الولع الذي أشار إليه الناقد، بل كانت قضايا الجسد تأتي هامشًا مع الموضوع العام ولم يشكل ظاهرة إلا في روايات (عالية ممدوح) التي ظهر موضوع الجسد ونزواته واحتياجاته بشكل جلي في كل رواياتها تقريبًا، أما الأخريات فلم يكتبن به كمضمون مقصود بذاته.

 

الهوامش:

1 - ينظر: جبرا ابراهيم جبرا. مجلة آفاق عربية، وزارة الثقافة والإعلام، العراق، عدد 7، آذار، 1977، ص 95. نقلًا عن كتاب اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية الغربية، د. ناصر يعقوب.

2 - ينظر: د. ناصر يعقوب، اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية (1970-2000)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2004، ص: 22-23.

3 - ينظر: د. صلاح فضل، أساليب السرد في الرواية العربية، دار المدى، 2003، ط1، ص:101.

4 - ينظر: سماهر الضامن، نساء بلا أمهات، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2010، ص: 176-127.

5 - فليحة حسن، بعيدًا عن العنكبوت حارستي حمامة أكره مدينتي، دار أراس للباعة والنشر، أربيل، 2012، ص: 7.

6 - لطفية الدليمي، سيدات زحل، دار فضاءات، عمان، 2010،: 8

7 - نورية السعيدي، عصفور في ليل مجنون، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2002 :9.

8 - بتول الخضيري، غايب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004: 224

9 - بلقيس حسن، هروب الموناليزا، دار ميزوبوتاميا، بغداد، 2013: 83.

10 - هروب الموناليزا: 84.

11 - عالية ممدوح، غرام برغماتي، دار الساقي، بيروت، 2010: 49.

12 - في الرواية الجزائرية النسائية ج1، الكبير الداديسي، الرواية نت. www.alriwaya.net/ في- الرواية- الجزائرية- النسائية-ج1.


عدد القراء: 2168

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-