قراءة في الموروث النقدي للسنوسيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-29 18:29:23

بكر منصور بريك

الكلية التقنية في جازان

لعل الاستثمار اللغوي والتوظيف التركيبي في فن صناعة الشعر هو الفارقة لخصوصيته واستقلاليته عن سائر الفنون القولية الأخرى، واستقلالية هذه التراكيب الشعرية وتفردها في انتظامها الخاص بكل شاعر أو مجازًا لكل جماعة شعرية أو رابطة شعرية كاتحاد منهاج وقوامة مدرسية يظل المعيار في ذلك هو اللغة. وخصائص التركيب الشعري لكل حالة من حيث نفور تلك التراكيب عن التراكيب التقريرية، والجنوح إلى لغة متفردة وخاصة تقطر شاعرية ولذلك فلا نستعجب مقولة الشاعر محمد بن علي السنوسي في إحدى دراساته النقدية في كتابه (مع الشعراء) حينما قال: «واللغة أهم أدوات الشاعر، وأبرز مميزات شعره»(1).

وكأنَّ مقولة السنوسي عندما طبقها واقعًا تشير غالبًا إلى درجات معينة في الاستعمال الشعري للبنى اللفظية المفردة،

وهي التي قصدها غالبًا، وكان يشترط فيها اتساع المدى المعنوي للمفردة، ويشترط فيها الدقة في الدلالة، والصدق في التعبير عن الشعور الحقيقي، وكأنَّ السنوسي قد استحضر غالبًا فصاحة الصوت المفرد وشاعريته على غير المعهود تراثيًا، فقد كان الصوت مدار بحثٍ وتقصٍ عند البلاغيين واللغويين القدامى، فقد اشترطوا لفصاحة الصوت المفرد عدة شروط، والسنوسي تجنَّب ذلك وتمسَّك بالمفردة الواحدة؛ لأن المفردة اللفظية هي لبُّ التركيب الشعري وأساسه، والمعيار في جودتها حُسْن المختار منها وجزالة اللفظة المفردة مع صفاء تلك المفردة اللفظية، وكذلك المعول في جودة الألفاظ هو: «صفاء اللفظ، وطلاوة التعبير، وصحة المعنى، وإشراق الديباجة»(2). ولذلك استبعد السنوسي بحسه الشاعري بعض الألفاظ المختارة من بعض الشعراء المعاصرين له مثل:

وسرى الصاحبان بالأمل البسام ... تحدوهما المفاخر مجنى.(3)

فقال السنوسي معقبًا على البيت: ولستُ أدري ما الذي حبب إلى الشاعر كلمة (مجنى)؛ لأن صلة القرابة بينها وبين (الحداء) بعيدة جدًا، ولا وجه للشبه بينهما، ولقد كانت كلمة (لحنا) في هذا الموضع، لو وضعها الشاعر، أليق وألصق بالبيت لفظًا ومعنى، ولكنها القافية، وكم لها من عثرات أمام التدفق الشعري لتشتت قواه، وتزعزع ما بناه.(4)

وأنا لا أتعجب من دقة الملحوظة وسرعة البديهة في اكتشاف عوار البيت من قبل الشاعر محمد بن على السنوسي؛ لأنه يمتلك قامة شعرية مشهود بها، إنني أتعجب من مقدرة السنوسي في انتقاد الاختيار وفي ذات الوقت الإتيان بالبدائل المتاحة. ولذلك كان السنوسي يرى بمنظاره الشعري الخاص، وكان يرى أنَّ أهمَّ أعمال النقد الشعري: «الوقوف عند كل لفظة وصياغة وتركيب لغوي .... وعلى الناقد رصد الجمال الفني في التعبير ...»(5)

ولعل مما رآه السنوسي من انتقاد مفردة (مجنى) هو افتقادها لجمال النغم الموسيقي، أو أنها جاءت في غير موقعها المعنوي المناسب للتركيب، وهي كمفردة لا غضاضة فيها، وربما رأى فيها تبايناً معنوياً للبيت إجمالاً.

ولنا أن نسأل: هل سنجدُ كلمة تحمل جوازها الشعري من المعجم العام؟

لقد اجتهد محمد بن علي السنوسي إجابة على التساؤل الافتراضي وأتى بإجابة ذات خصوصية شاعرية واسم "جميلة" اسمٌ موسيقي النبرة غنائي الحروف، وهذه الموسيقى تأتي من الأصالة التي تظهر من كسر الميم والياء، ثُم رنين اللام المفتوحة والهاء الساكنة مضافًا إلى ذلك الصورة الذهنية التي يرسمها هذا الاسم في مخيلة الشاعرين  فهو إلى كونه اسم البطلة إلا أنه يلقي في روع السامع والقارئ معنى الصفة الباهرة للموصوف الجميل بخلاف الأسماء التي لا تعطيك ألفاظها دليلاً على موضوعاتها، ومن هنا يأتي رنين الاسم "جميلة" لارتباط لفظه بمعناه، والجمال محبوبٌ في كل مظاهره المادية والمعنوية(6)

لعل من أهم شروط المفردة الشاعرة هو دقة الاقتران بين الصفة والموصوف كما جاء في نقد السنوسي لبيت الشاعر المعاصر له محمود عارف الذي يقول فيه:

والهجير السوَّار في أصغريها

                          لهبٌ فاض ثورة وفحولة(7)

... على أنّ وصف الهجير في البيت الأخير (بالسوَّار) لا يعطي الموصوف دقته التامة، وقد كان في وسع الشاعر أن يقول (الهجير الفوَّار)؛ لأنه أدقُّ وصفٍ لوهج الحرارة وشعلة التوقد، وهو أليقٌ بالموصوف ....(8)

وقد يُعزى انتقاد الألفاظ إلى الجانب الموسيقي والإيقاع الصوتي للفظة المفردة المجردة من السياق والتركيب ذات الحساسية الفنية.

ويمضي السنوسي في استقصاء البنى المفردة وفي تتبع الألفاظ المفردة حتى أنه ليأتي باستطرادات تتبعية وتأويلات لها مثل تعاملاته مع مفردات الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي، فيصف تلك المفردات أنها مفردات عربية، وهي من مفردات الأصالة والمحافظة، ولم تتأثر  لغة الشاعر ايليا  أبوماضي بالبيئة الأمريكية التي كان يعيش فيها رغم طول العهد وطول المدة الزمنية المعاشة في أمريكا، وبرغم من قوة التأثير للثقافة الأمريكية في الشخص المهاجر إليها، وتتعدَّى تأويلات السنوسي للمفردات عند إيليا أبوماضي إلى التصريح المبين أنَّ الشاعر الهجري ظلَّ محافظاً على طابع أقرب تسمية أنَّه (الكلاسيكية الجديدة) التي ظلت محافظة على الأصالة وحرارة المعاني ودفء الشعور وصدق التجربة ... حتى في التركيب الشعبي عند الشاعر صلاح لبكي في مرثيته للشاعر إيليا أبوماضي يقول:

فقدتك البلادُ (يا عمُّ) لا زحلة من دونها ولا الأبناء.

فقال السنوسي معقبًا على توظيف التركيب الشعبي (يا عم): وانظر إلى كلمة (يا عمُّ) في هذا البيت فإنها مع سذاجتها جاءت مشحونة بعاطفة الاحترام.(9)

وتبقى للشاعر محمد بن علي السنوسي آثارٌ في السنوسي الناقد، ولذلك تتعزز الجوانب النقدية والايقاعية للمفردات والملفوظات المجردة من التركيب وصولاً إلى التشكيلات الشعرية المنتقاة والمختارة بقصدية اعتمادًا على الجوانب الموسيقية وهو ما يصفه السنوسي بالترف الموسيقي وبالنعومة الفنية التي تتموج فيها التراكيب والسياقات الشعرية.

وقد مثَّل السنوسي لذلك بإحدى القصائد وهي بعنوان (أنا الماضي) من ديوان (شموع) للشاعر إبراهيم العُريِّض: (... وهي كما قلادةٌ من المشرق، والوصف البديع، والأداء الشعري المبين جمعت في هذا السلك المتين من استقامة الوزن وجمال الموسيقى في ألفاظ مألوفة على السمع قريبة من الفهم لا يكتنفها غموض الشطحات ولا ضبابية الإبهام ولا تزايدات المبالغة ... (10)، وأحيانًا مثَّل بأبيات مثل البيت التالي من قصيدة بعنوان (نجوى) للشاعر حسن عبدالله القرشي:

نضِّري بالجمال عمري وبالإشراق فجري وبالحنين كياني.

فيقول السنوسي معلقًا على هذا البيت تحديدًا «وقل له بأي صورة من صور التحليل تستطيع أنْ توفي هذا البيت حقه الكامل من الشرح والتعبير والاستحسان؛ لأنَّ كل كلمة من كلماته اختيرت اختيارًا دقيقًا ونُسِقتْ تنسيقًا بارعًا حتى جاء كالسبيكة الذهبية لمعانًا وإشراقًا(11)، ومثَّل بالبيت التالي في براعة المختار من البنى اللفظية المفردة في الجمال الفني والتمكين الشعري للتراكيب، ومثل كذلك بالبيت التالي للشاعر إبراهيم العُرَيِّض من  ديوان (شموع):

فتحسُّ وخزاً بين نهديها وتجهل ما تعاني.

فقال السنوسي معقباً على هذا البيت «وأعجبُ لكلمة "وخزًا " في البيت الرابع: وخزًا بين نهديها وتجهل ما تعاني، ففي هذه الكلمة غنى وثروة ترتفع بالذوق الفني إلى أسمى مراتب النشوة والانجذاب(12).

وقبل أن تُستغرق مجهودات السنوسي في التعليق على مختارات الملفوظ من التركيب الشعري فإننا نسجل سمة الاقتداء بما يشبه أسلوب ومنهاج القدماء القائم على الموازنات بين تركيبين أو بين صياغتين أو بين تشكيل شعري وآخر لدى شاعرين مختلفين ... ولكي تنضبط عملية الموازنات بين الشاعرين راعى النقاد القدامى توافر شرائط معينة لإقامتها على نحو موضوعي ومحايد. وقد حانتْ صدفة شعرية وجاءت قصيدتان شعريتان من وزن وبحر شعري واحد، وقافية واحدة وروي واحد لدى شاعرين سعوديين معاصرين للشاعر محمد بن علي السنوسي، وفي موضوع واحد... (وسنحاول في هذه الدراسة الأدبية أن نقوم بدراسة لقصيدتين لشاعرين من شعرائنا الموهوبين تجمعهما بيئة واحدة، ووسط واحد، ومفاهيم واحدة، ويعدان آخر الأمر من طليعة رواد النهضة الأدبية في الحجاز الحديث، وهما الشاعران: محمود عارف، وطاهر زمخشري(13)

وقد قام السنوسي بهذه الموازنات وبالذات بين شاعرين من الحجاز وكأنَّ هذا العمل النقدي ردٌّ من جملة الردود على أصحاب (الشعر الحر او الشعر الجديد) في زعم بعضهم خلو القصيدة الكلاسيكية العمودية من حرارة المعاني ودفء الشعور وصدق التجارب، ولأنَّ الموضوع الشعري للقصيدتين هو (جميلة بوحيرد) التي كانت حينئذ أيقونة النضال العربي ورمز التضحية والفداء، ولما عاشته من تراجيديا، فقد تبارى مدرسة الشعر الجديد مع الشعر العمودي في مضمار واحد، وسجل الشعراء بكل أطيافهم وبمختلف مدارسهم حضورًا فاعلاً وخاصة عند الشعراء الأقطاب، وكان الشعر الجديد أشدَّ وقعًا في تضاريس الحدث فكان لزامًا على محمد بن علي السنوسي وهو الأديب والشاعر والناقد المحافظ أن يقارع الشعر الجديد بالبديل المحافظ فوجد ضالته في هذين الشاعرين المعاصرين من أصحاب  المنهاج الشعري العمودي، ووجد بغيته في موضوع شعري يعدُّ  وقتها موضوع الساعة، ويعد حدث القبض على المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد مالئ الدنيا وشاغل الناس .... يقول الشاعر السعودي محمود عارف في قصيدته عن جميلة بوحيرد التي كانت بعنوان (بطلة الجزائر):

خلدوا في القلوب ذكرى جميلة

                      فهي  بنت الــعـــلا ورمـــز البطــولــة

جـاهـدت في بـلادهـــا في ثـبـــــات

                      كجــهــاد الـــرواد تبتــغي الفـضـيــلة

ومشتْ  والإبـــاء  في  ناظـريــهـــــا

                      تحــمـــل  الــعــــبء  شـأن البطولــة

وســقــت  بالدمــاء  أرض  ذويهــا

                       فانتشى الشرق من  دماء  الطفولــة

شعَّ  في  صدرها الحفاظ كفجر

                      شعَّ  نورًا  على  ســـواد الــخـمــيلة

فالربيع  المعطار  في  وجنتيـهـا

                      نفحةٌ  تنمي  لغير  الرذيلة

والهجير  السوَّار  في  أصغـريهــا

                      لــهــبٌ  فـــاض  ثــورة وفــحولــــة

لفت ناظري توقفات السنوسي عند البنى اللفظية المفردة في قصيدة (بطلة الجزائر)، والمعروف عن السنوسي ومحمود عارف أنهما من أصحاب الاتجاه المحافظ المعتمد على القصيدة العمودية، ولكن السنوسي تنبه  لتلك الألفاظ وسجل عليها (... وأقول من أجل الفضيلة؛ لأنني أرى لفظة  "تبتغي الفضيلة" أفقدت هذا البيت المتين جلال إيقاعه الموسيقي في الأذن الموسيقية، فهو، في نظري، كالمنحدر من صبَب حتى إذا انتهى به الشوط النغمي  إلى كلمة الرواد  جاءت لفظة "تبتغي" كالصخرة التي تتكسر على صلابتها موجة النغم السيال، ثم وثبتْ بعد أن تناثرت قواها الفياضة إلى قرار القافية... وقد وهنت فيها قوة الدفع وقوة الانطلاق، وهذا ما يدركه صاحب الحاسة الفنية أيسر  إدراك من استعراض البيت التي جاءت هذه الكلمة في نهايته، فأوهنت قواه وبددت تماسكه ....(14)

وكذلك في الأبيات التالية من نفس القصيدة (بطلة الجزائر) لمحمود عارف التي يقول فيها:

خلدوا في القلوب ذكرى جميلة

                      فهي  بنت  العلا  ورمــــز البطـولـة

جاهــدت  عن  بلادها  في  ثبات

                      كجـهـاد  الــرواد  تبتغي  الفـضيلة

ومـشتْ  والإباء  في  ناظــريـهــا

                      تحمل العبء شأن عزم البطولة.

فقال السنوسي معلقاً عليها (... كلمة البطولة تتكرر في مستهل القصيدة وكذلك في البيت الثالث مباشرة، وكان التكرار في قافية القصيدة، وهذا التكرار معدودٌ من العيوب في فنون النظم إلا بعد ستة أبيات، بل إنَّ من الشعراء الفحول مَنْ يأخذ نفسه بعدم تكرار اللفظة في قصيدة واحدة مهما طالت(15)

والحقيقة أنَّ الملحوظة النقدية السنوسية جاءت في محلها وفي موقعها، وكانت موافقة لقواعد النظم المحافظ، ولا أدري كيف وقع فيها شاعر  شديد المحافظة على قواعد النظم ومنهاج القصيدة ومتمكنٌ من أدواته الشعرية، خاصة أنَّ التكرار السلبي يُعدُّ من العيوب الجلية، وهو يعرف بالإيطاء؛ لأنَ من قواعد النظم المعتبرة عند المحافظين عدم التجوز في تكرار الكلمة أو اللفظة (لفظًا ومعنى) في أبيات متتالية إلا بعد أكثر من ستة أبيات على الأقل؛ لأنَّ تكرار لفظة القافية (لفظًا ومعنى) في أبيات متعاقبة فيه دليل افتقار في المختزن اللفظي لدى الشاعر، ولا  أظنُّ الشاعر محمود عارف كان غافلاً عن ذلك، ولكن ربما غلبت عليه شهوة الارتجالية، وسرعة البديهة لضرورة المناسبة خصوصًا أنه قالها في مناسبة مستعجلة لما عرف في المملكة العربية السعودية (يوم الجزائر) لمساندة كفاح الشعب الجزائري في مطالبته بالاستقلال من فرنسا، أو ببساطة استعذب اللفظة اقتناعًا بها فكررها رغبة فيها.

وسيمضي السنوسي مع أبيات القصيدة إعجابًا بها خاصة البيت الذي يقول فيه محمود عارف:

وســقــت  بالدمــــاء  أرض  ذويها

                      فانتشى الشرق من دماء الطفولة

فيطرب لهذا البيت ويشهد أنه من نفحات الإلهام، وأنه وثبة من وثبات الخيال، وسرُّ الروعة في هذا البيت تكمن في المعاني الإنسانية الجليلة التي تمتزج بها كلمة (فانتشى الشرق من دماء الطفولة)، وأعظم ما جعل هذا البيت يشعُّ كاللؤلؤة في سمط القلادة كلمة (الطفولة) لما تنطوي عليه هذه الكلمة من معاني البراءة والطهر والصفاء والعذوبة، إنها من المفردات الغنية الدلالات خاصة ذات الصبغة الإنسانية العليا التي تُعرض ولا تُوصف، وكذلك البيت القائل (يشعُّ في صدرها الحفاظ) فهو من المعاني الرائعة ناهيك بأشعة الفجر الزاهية على سواد الخميلة الغناء، تصوير بديع وتشبيه رائع للمعنى الناغم في الصبا الريان لتلك الفتاة الباسلة، ولكن وصف الهجير في أحد الأبيات (الهجير السوَّار) لا يعطي الموصوف دقته التامة، ولقد كان في وسع الشاعر الاستاذ محمود عارف أنْ يقول: «الهجير الفوَّار» لأنَّه أدقُّ في وصف توهج الحرارة وشعلة التوقد، وهو أليقٌ بالموصوف.

بقي محمد بن علي السنوسي مخلصًا لمذهبه النقدي الذي اختطه لذاته، وظلَّ وفياً لخطواته المرقومة، واستمرَّ سالكًا دروبه التي رسمها من قبل بعناية ذوقية وحضور أدبي رفيع مدرعًا بكل ما وقعت عليه عيناه من جديد النقد ومتخذًا من سليم الرؤية معتمدًا، فنراه يقف عند كل ملفوظ مختار، ونراه متفحصًا كل معنى مبتكر، مقلبًا أدواته النقدية في كل تركيب منتقى، ولم يكتف بالوقفات الرصينة وحسب، ولم يرضَّ فقط المصاحبة والمسامرة للقصيدة والمؤانسة للأبيات، والمرور عليها مرور الكرام العابرين، وإنِّما انبرى إلى إعمال قراءاته في الأبيات مثلما كان مسلك النقاد العرب القدامى في غربلتهم للمفردات الشعرية، وفي تقليبهم للتراكيب الشعرية المختارة، لذلك سيسلك ذات المسلك الأول مع قصيدة الشاعر السعودي طاهر زمخشري التي بعنوان (جميلة المجاهدة)، وذلك  اكتفاء بعدته النقدية، واقتراحًا مع منهاج الموضوعية والحيادية في إقامة الموازنات بين القصيدتين بعد اتفاقهما في الوزن والبحر الشعري الواحد، والقافية الموحدة، والروي الواحد بين القصيدتين، وإن كان السنوسي قد علل هذا المتفق الفني النادر وأرجعه ترجيحًا إلى أنَّ الاسم (جميلة) هو الذي فرض على الشاعرين كل هذا التوافق، وكل هذا الاتفاق الذي يكاد يبلغ عنان المعارضات الشعرية، والحقيقة أنَّ هذا الترجيح في إرجاع التوافق إلى اسم (جميلة) غير منطقي وغير مقنع من السنوسي؛ لأنَّ التعليل من السنوسي لا يتماشى مع الاتفاق في وحدة الوزن والبحر الشعري، قد يستقيم تعليل السنوسي في الاتفاق في القافية والروي الموحد، ولكن السنوسي يكاد يلفت أنظارنا إلى أهمية وقيمة وتأثير المفردة الواحدة في كيفية تسلطها على القصيدة الشعرية، وقد سبق أن ذكر ما يشبه ذلك من قبل في قوة تأثير (جميلة) وحضورها الطاغي في الأبيات الشعرية في القصيدتين.

يقول الزمخشري في قصيدة (جميلة المجاهدة):

القرون الطوال من أي عهد

                           لم تخلد بطولة كجميلة

وعلى زندها سوار حديد

                        رقَّ كالخزِّ فوق كفٍّ نحيلية

للفداء المحبوب للخلد،

                         للإيثار، قد مــهــد  ســبيله

بالفتاة التي  بها  هتف الكون

                        وقــدمــت  معـاني الرجـولـة

 

ومشتْ في الحديد  في نشوة

                       الظافر  قد جرَّ في فخار ذيوله

وعلى  خطوها  يزمجر   شعبٌ

                        ثار من أجلها ودقَّ  طبـولـه

وداعًا للحفاظ  والأخذ  بالثأر 

                         أباةٌ   أسيافهم   مصـقـولـة

يمكننا بثبات أن نقول إنِّ السنوسي ظلَّ كعادته وفيًا مع منهجه النقدي ومخلصًا في عشقه الأدبي في تقليب التراكيب الشعرية المختارة من الشعراء، فما كان منها عوارًا تركيبيًا أشار إليه، وما وجده عارضًا وقلقًا في سياقه أومأ إليه بل وحاول استبداله، والإتيان بالبديل اللائق بسياقات التراكيب، ومعللاً أسباب ذلك ... فعلى سبيل المثال البيت التالي:

للفداء المحبوب، للخلد، للإيثار، قد مهد العذارى سبيله.

يقول السنوسي معقبًا على البيت: (... ولفظة "العذارى" هنا هي لبُّ هذا البيت وروحه لما تحمله من طاقة تعبيرية ترتفع بجلال معناه إلى ذروة السمو الفني، كيف لا والأمة العربية أمةٌ تغار على العِرْض، وتتأثر للشرف وتخوض في سبيلهما أشدَّ الحروب ضراوة وأغزرها دمًا(16)

ومثالٌ آخر هو البيت التالي:

تتعالى إلى السماء سموقًا

                        وتعود الأحداث عنها كليلة

فقد كانت الرؤية النقدية للبيت لا تقتصر على رصد الجوانب الجمالية في التركيب المختار، وإنما عدم محاباة القصيدة، والكشف عن هناتها، وتجلية العوار التركيبي العارض (.... على أننا لا نريد أن نمرَّ غافلين عن التفكك الموسيقي الذي يظهر في البيت والذي يبرز في قلق كلمة (الأحداث) في موضوعها التركيبي من هذا الانسجام النغمي وعدم تعاطفها مع بقية الألفاظ المؤلفة منها سبيكة هذا البيت؛ لأنك إن أشبعتَ لفظة (الأحداث) ونطقتها مرفوعة انقطعت صلتها عما بعدها، وشعرتَ بهدوء السكتة، وإنْ أنت رفعتَ كلمة (تعود) شعرتَ بالتوقف في النطق والانفصال في اللحن(17).

يشعرك السنوسي دائمًا بأهمية الملفوظ وأهمية السياق التركيبي كذلك في آن واحد، بل دائمًا ما يشير السنوسي متقصدًا تقليب الألفاظ وبعثرة المتخير من المفردات وإذابة المنتقى من الصياغات وصولاً إلى خطاب شعري، هو الأمثل وهو المنشود في نظره ... وإن بقيت إطلالاتٌ من التقريرية تشرئب، وظلت نبرات خافتةٌ من الخطابية تتبدى في بعض أبيات الزمخشري لم يتسع لها منظار السنوسي المتفحص، الذي كعادته أبدًا، يكفيه من فهذه الأبيات التالية:

في مجال يحلو الفداء ويحلو

                      فيه  بـذل  الأرواح  وهـــي  جليلة

ولئن  أثخنت  جــــراحًا  ولاقت

                      من صنوف العذاب  شرَّ  حصيلة

فالمـــروءات  هاتــفــات: أعينوا

                       بالنفيس  الثمين  أرض البطــولة.

قال السنوسي معقباً عليها: (وكلمة "الأرواح" هنا في البيت الأول هنا ثقيلة ثقلاً موسيقيًا، وكان أخفَّ منها كلمة القلوب أو  النفوس  لو وضع مكانها ليلتحم البيت التحامًا وثيقًا فلا يبدو فيه انقطاعٌ ولا تمزقٌ(18).

برغم أنّ البيت الأول في الأبيات ظاهر للعيان أنه أقرب للنثرية منه إلى الشعر.... ومثال على تعقب السنوسي هذا البيت التالي:

هل  تساوي  جرحًا  بكف  أبيٍّ

                       أو  تســـاوي  بالله  بـذل  جمـيـلة

فإنّه بالرغم من القسم المعترض حتى في سياقه الذي كان من شأنه أن يجعل للبيت رعشة في النفس، فقد بردت الألفاظ في آخره بسبب الاستفهام الاستنكاري الذي أشاع في أقسامه الفتور(19).

لقد كان محمد بن علي السنوسي وفيًّا في شدة إخلاصه لنصوصه التي اشتغل عليها وقام بقراءات نقدية لها دونما التفات للعوامل الخارجية للشعر، ولم تأخذه العزة برمزية الحدث الكبير (جميلة بوحيرد) فينساق مع الاعتزاز القومي وينجرف تلقاء عاطفته القومية متناسياً منهاجه الذي أخلص له، وبقي مستديم الوفاء لذلك النهج الذي اختاره وارتضاه قائمًا على استقصاء اللغة الشاعرة في النصوص والوقوف على الملفوظات والمفردات والتراكيب الشعرية، ولم يشأ الاستطراد في درس العوامل الخارجية للشعر وإن كانت ذات أثر وذات تأثير، وفي هذا رضوانٌ للحقيقة النقدية، واستثمارٌ  للنقد الأصيل والمنضبط بروح قارئ محايد.

 

الهوامش:

1 - محمد بن علي السنوسي، (مع الشعراء)، مطبوعات نادي جازان الأدبي، الطبعة الأولى، 1397 هـ / 1977 م، دراسة نقدية بعنوان: (إيليا أبوماضي)، ص 38.

2 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان (إيليا أبو ماضي)، ص 37 .

3 - من قصيدة حسن عبدالله القرشي، بعنوان: (قبس من الهجرة).

4 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان (حسن عبدالله القرشي، في موكب الذكريات)، ص 26.

5 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر طاهر زمخشري)، ص 62.

6 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر محمود عارف)، ص 57.

7 - من قصيدة (بطلة الجزائر)، للشاعر السعودي محمود عارف.

8 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر محمود عارف)، ص 59.

9 - المصدر السابق رقم (1) م، دراسة بعنوان: (غرباء، ديوان شعر صلاح لبكي)، ص 123.

10 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة بعنوان: (شموع، ديوان شعر إبراهيم العريض) ص 30.

11 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان: (حسن عبدالله القرشي، في موكب الذكريات)، ص 27.

12 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان: (شموع، ديون شعر إبراهيم العريض)، ص 34.

13 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر محمود عارف)، ص 56.

14 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر محمود عارف)، 58 .

15 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر محمود عارف)، ص 58.

16 - المصدر السابق رقم (1) م، دراسة نقدية بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر طاهر زمخشري)، ص 63.

17 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر طاهر زمخشري)، ص 64.

18 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر طاهر زمخشري)، 65.

19 - المصدر السابق رقم (1)، دراسة نقدية بعنوان: (جميلة الجزائرية في شعر طاهر زمخشري)، ص 65.


عدد القراء: 2201

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-