المـفـارقـة في الأدبالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-29 18:54:25

سالم العرابي

ليبيا

أسلوب المفارقة من الأساليب البلاغية التي يستخدمها الأدباء والمبدعون في التعبير عن أفكارهم، ويتصف مصطلح المفارقة بالمراوغة، وعدم الثبات، فاختلفت تعريفاته عبر العصور المختلفة؛ فهو يعني في عصر غير ما يعنيه في عصر آخر، وعند أديب غير ما يعنيه عند أديب آخر، وهذا يعود إلى قدم مصطلح المفارقة وجذوره الضاربة في القدم، قدم الآداب الإنسانية من جانب، وإلى طبيعتها المراوغة من جانب آخر.

والمفارقة "في النقد الغربي تتضمن معان متعددة تبدو أحيانًا متنافرة؛ فهي عند أفلاطون تعني الأسلوب الناعم الهادئ الذي يستخف بالناس، ويقتبس خالد سليمان تعريف (معجم أكسفورد المختصر) Concise Oxford Dictionary  للمفارقة حيث يورد التعريف التالي:

"المفارقة هي إما أن يعبر المرء عن معناه بلغة توحي بما يناقض هذا المعنى أو يخالفه، ولاسيما بأن يتظاهرالمرء بتبني وجهة نظر الآخر؛ إذ يستخدم لهجة تدل على المدح، ولكن بقصد السخرية أو التهكم، وإما هي حدوث حدث أو ظرف مرغوب فيه في وقت غير مناسب البتة، كما لو كان في حدوثه في ذلك الوقت سخرية من فكرة ملاءمة الأشياء، وإما هي استعمال اللغة بطريقة تحمل معنىً باطنًا موجهًا لجمهور خاص مميز ومعنى آخر ظاهر موجهاً للأشخاص المخاطبين أو المعنيين بالقول"1.

وينقل أيضًا تعريف الأديب الإنجليزي "صمويل جونسون (1709-1819) "بأنها طريقة من طرائق التعبير يكون المعنى فيها مناقضًا أو مضادًا للكلمات"2. وهذا التعريف هو في حقيقته تعريف للمفارقة اللفظية، ولم يتعرض للأنواع الأخرى. ويعرف ميويك المفارقة بأنها "طريقة في الكتابة تريد أن تترك السؤال قائمًا عن المعنى الحرفي المقصود، فثمة تأجيل أبدي للمغزى، فالتعريف القديم للمفارقة ـ قول شيء والإيحاء بقول نقيضه ـ قد تجاوزته مفهومات أخرى، فالمفارقة قول شيء بطريقة لا تستثير تفسيرًا واحدًا، بل سلسلة لا تنتهي من التفسيرات"3.

وينقل سعيد شوقي تعريفًاعن كلينث بروكس أن المفارقة هي "أكثر المصطلحات شمولية بين أيدينا لوصف التعديل الذي تلقاه العناصر المختلفة في داخل السياق، أي بمعنى أنها التطور في المعنى الذي يصيب أحد العناصر في العمل الأدبي تحت تأثير سياقه"4.

- المفارقة عند شليجل· كما ينقلها ميويك عنه "شكل من النقيضة"5.    

فهي عنده تعني الموضوعية؛ لأنها تعني السمو الكامل فوق الذات، وهي المناورة باللعب على كل الاحتمالات، بل المناورة باللعب على الذات نفسها، وبهذه التحديدات يدخل شليجل التعريف الحديث للمفارقة من أوسع الأبواب، وهذا هو السبب في أن أي بحث عرض للمفارقة بعد شليجل، سواء كان ذلك من الناحية الفلسفية أم النقدية البلاغية، لا بد أن يذكر تعريف شليجل لها، وهو التعريف الذي عرف فيما بعد بأنه تعريف المفارقة الرومانسية؛ ذلك بأن شليجل ربط بين هذا التعريف بمفهوم الجمال عندما قال "إن الشيء الجميل هو ذلك الذي له علاقة بالكوني اللامحدود"6.

    إن صاحب المفارقة في حالة افتراض على الدوام؛ إذ إن الإنسان كلما توهم أنه وصل إلى فهم صحيح للحياة، اكتشف أنه لا تزال هناك احتمالات أخرى للفهم. وليست التعريفات الحديثة، في كثير منها أقل تبسيطًا في مفهومها للمفارقة من              كثير من المفاهيم الأكثر قدمًا. فنحن نقرأ مثلاً أن المفارقة في رأي صمويل هاينز "نظرة في الحياة نجد الخبرة عرضة لتفسيرات متنوعة ليس فيها واحدة صحيحة دون غيرها، وأن تجاور المتنافرات جزء من بنية الوجود" ومثل هذا التعريف يقرب المفارقة من الغموض7.

وننتقل إلى تعريف النقاد العرب للمفارقة فنرى سيزا قاسم تعرفها بأنها "طريقة لخداع الرقابة حيث أنها شكل من الأشكال البلاغية التي تشبه الاستعارة في ثنائية الدلالة"8.

إن تعريف. سيزا قاسم بهذه الصورة يجعلها حبيسة في نطاق ضيق، حيث جعلتها هروب من الرقابة وهذا هدف ربما كان واردًا في بعض الأحيان، وليس دائمًا موجود، إن المفارقة تعطي جمالية للعمل الأدبي، وتدعو القارئ إلى كدّ الذهن لكي يصل إلى المعنى الحقيقي الذي يقصده النص، وبذلك يجد القارئ متعة في قراءة النص الذي أمامه، وغرض المفارقة ليس خداع الرقابة فقط بل إن الغرض الأكثر أهمية أنها أداة للتهكم الاجتماعي، الذي يسخر من واقع المجتمع السيء الذي يطمح صانع المفارقة إلى إصلاحه؛ ولهذا يلجأ إلى هذا الأسلوب.

وعند محمد العبد نجد أنها "أداة أسلوبية فعالة للتهكم والسخرية"9.

وعند نبيلة إبراهيم "أنها لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين، صانع المفارقة وقارئها، على نحو يقدم فيه صانع المفارقة النص بطريقة تستثير القارئ وتدعوه إلى رفض معناه الحرفي، وذلك لصالح المعنى الخفي الذي غالبًا ما يكون المعنى الضد، وهو في أثناء ذلك يجعل اللغة يرتطم بعضها ببعض، بحيث لا يهدأ للقارئ بال، إلا بعد أن يصل إلى المعنى الذي يرتضيه ليستقر عنده"10.

وعند ناصر شبانة "المفارقة انحراف لغوي يؤدي بالبنية إلى أن تكون مراوغة وغير مستقرة ومتعددة الدلالات، وهي بهذا المعنى تمنح صلاحيات أوسع للقارئ وفق وعيه بحجم المفارقة"11.

ويلاحظ الباحث أن هذا التعريف مقتصر على المفارقة اللفظية، ويهمل مفارقات الموقف التي تشمل مفارقات الشخصيات والزمان والمكان ومفارقات الأحداث، وبهذا قدم التعريف المبسط الذي حاول في دراسته أن يبتعد عنه وأشار إلى ذلك في أكثر من موضع.

وعند أمينة رشيد نجد أنها "نظرة إلى العالم وموقف من حقيقة الأشياء"12.

وعند سعيد شوقي "بناء المفارقة يتمثل في الإدراك الواعي لطريقة من طرق الأداء تنهض على الخداع، وتعتمد وجود الازدواج والتنافر في حيزها"13.

ويبدو تعريف د. سعيد شوقي للمفارقة وكأنه يتحدث عن وعي قارئ المفارقة بها، وعن صانع المفارقة الذي يعي أسلوب المفارقة؛ بحيث يستطيع بناء نص مفارقي يستخدم الخداع اللغوي في هذا البناء ويهمل تعريف المفارقة ذاتها ليقدم وصفًا للمفارقة اللغوية، ولم يقتصر أمر تناولهاـ في مراوغته ـ على مفهومها فقط بل امتد أيضًا ليشمل أشكال تبديها ففي النقد الأجنبي نجد ميويك ـ على سبيل المثال ـ يحدد بعض أشكال تبديها على النحو التالي:

المفارقة تنفيذًا بلاغيًا- التواضع الزائف أو مفارقة الاستخفاف بالذات ـ هزء المفارقة ـ المفارقة بالتشابه ـ المفارقة غير اللفظية ـ المفارقة الدرامية أو منظر العمى - مفارقة تنم عن نفسها ـ مفارقة خداع الذات ـ مفارقة الأحداث ـ المفارقة الكونية مفارقة التنافر ـ المفارقة المزدوجة - المفارقة الرومانسية*14.

وفي النقد العربي نجد محمد العبد ـ على سبيل المثال ـ يحدد أشكال تبديها في القرآن الكريم كما يلي:

مفارقة النغمة ـ المفارقة اللفظية ـ مفارقة الحكاية أو الإيهام ـ المفارقة البنائية ـ الالماع ـ مفارقة المفهوم أو التصورـ مفارقة السلوك الحركي15.

إن المفارقة ليست ظاهرة بسيطة، وإنما معقدة، إن الناس يتحدثون عنها وكأنها ظاهرة بسيطة ومألوفة، وهذا ما جعل إدراكها صعبًا، فضلاً عن مراوغة المفهوم والشكل كما يرى ميويك والمفارقة في حالة متطورة باستمرار؛  فلقد تغير مفهومها وتبدل عبر العصور وأيضًا بين مختلف شعوب الأرض، وتغير أيضًا مفهومها بحيث أصبحت لا تعني في لغة الشارع ما تعنيه في لغة الدرس الأكاديمي بل واختلفت بين الاكاديميين والباحثين أيضًا.

وكما يرى سعيد شوقي إن هناك صعوبة في تحديد المصطلح ونقله إلى العربية وترجع الصعوبة في نقدنا العربي في تعامله مع هذا المصطلح لسببين أساسيين ننفرد عن الغرب في أولهما ونشترك في ثانيهما معه.

الأول: يتعلق باختيار اللفظ IRONY في الإنجليزية وأشكاله في اللغات الأجنبية الأخرى، مثل في الفرنسية، IRONE  والألمانية.

ولقد اعتمدت السخرية في كثير من الترجمات للقيام بهذا الدور، وتبعها في ذلك التهكم"16.

وقد ترجمها بعضهم إلى الخيال، وهذا أمر غريب كما يقول سعيد شوقي ونحن معه في ذلك ويورد بعض الأمثلة منها (نعمان محمد أمين طه في كتابه "السخرية في الأدب العربي حتى نهاية القرن الرابع الهجري "نشر دار التوفيقية بالأزهر 1976) حيث يتعامل مع كتاب G.G.SEDgewick الذي عنوانه Irony Of  Especially in Drama على أنه كتاب في السخرية17.

وواضح من عنوان الكتاب انه في المفارقة الدرامية.

وعبداللطيف حمزة في كتابه "حكم قراقوش" (نشر عيسى الحلبي 1950) يتعامل مع لفظ IRONIE في الفرنسية على أنه التهكم.

ورد عبدالجليل جواد في ترجمته لكتاب "نظرية الاستقبال مقدمه نظريه" لروبرت. سي. هول (نشر دار الحوار اللاذقية. سوريا، 1992) يترجم كتاب     W.C.Booth الذي عنوانه A Rhetoric Of Irony طبع Chicago Univ.Press 1974م، إلى بلاغة الخيال.

ومن الواضح أن الصراع في اللغة الإنجليزية بين ثلاثة ألفاظ هي: Irony وParadox وSarcasm ففي الوقت الذي ترجمت Irony إلى السخرية أو التهكم وحتى الخيال ترجمت أيضًا Paradox إلى التناقض أو المفارقة الضدية أو جدل الأضداد18.

وهذا دليل على اضطراب هذا المصطلح ومراوغته؛ حيث يتداخل مع مجموعة من المصطلحاتٍ، ويدل أيضًا على اتساع مدى المفارقة، إلا أنه يبقى هناك أمر تتميز به المفارقة عن غيرها من المصطلحات البلاغية، وهو التضاد سواء كان في المفارقة اللغوية أو مفارقات الأحداث، فشرط التضاد سواء كان في المعنى أو الموقف شرط أساسي، بل هو أساس المفارقة.

ومن خلال تتبعنا للفظ مفارقة في اللغة العربية وجدنا أول استخدام لهذا اللفظ كما أشار خالد سليمان عند عبدالرحمن البرقوقي الذي استخدمها في تقديمه وشرحه لكتاب "التلخيص في علوم البلاغة" للقزويني وهو منشور في 1940 وذلك في معرض حديثه عن متشابهات القرآن، كما وجد الباحث استخدام آخر لها في كتاب "السخرية في الأدب العربي حتى القرن الرابع الهجري "لنعمان محمد أمين طه، الذي تؤرخ طبعته الأولى 1978. حيث استعملها وهو يعدد أنواع السخرية يقول ومن ذلك: السخرية بالمفارقة في الحوادث وتسمى سخرية القدر وتستخدم في القصص، فعلى هذا يكون هذا المصطلح قد استخدم كلفظ أول مرة في هذا الكتاب19.

ولكن استخدامها مصطلحًا نقديًا نستطيع أن نقول: إن عبدالواحد لؤلؤة أول من استخدمه في ترجمة كتاب ميويك "المفارقة وصفاتها" ويذكر عبدالواحد لؤلؤة تجربته في اختيار لفظ المفارقة في العربية دون غيره مقابلاً للفظ Irony في الإنجليزية قائلاً: المفارقة Irony أحسن الحلول السيئة لترجمة هذه الكلمة إلى العربية.

والكلمة في اللغات الأوربية مشتقة من الإغريقية (ايرونئيا) التي تفيد(التظاهر) أو(الادعاء)، وهي صفة شخصية في الكوميديا الإغريقية باسم (أيرون) وتفيد المفرق، أي الذي يفرق بين المظهر وواقع الحال ...ولكن يصعب في العربية صياغة صفة أو ظرف من مصدر التفريق فاضطررت إلى قول (المراقب) المتصف بالمفارقة، وموقف المفارقة، وتنطوي على مفارقة لأن الكلمة تجري مجرى الاصطلاح20.    

وفي رأينا أن عبد الواحد لؤلؤة وفق في اختيار لفظ المفارقة، فلفظ المفارقة يعتمد على ثنائية الدلالة، فمادة (ف.ر.ق) في اللغة لها معنيان الأول يعني المباينـة أو الفصل وما في حكميهما والثاني يعنى الخوف.

نجد في لسان العرب "فارق الشئ مفارقة وفراقًا: باينه والاسم فرقة، وتفارق القوم، فارق بعضهم بعضًا، وفارق فلانًا امرأته مفارقة وفراقًا بينهما"21، وفي القاموس المحيط "فرق بينهما فراقًا، وفرقانا بالضم، وفيها يفرق كل أمر حكيم "أي يقضى "وقرانا فرقناه "أي فصلناه وأحكمناه، (وإذ فرقنا بكم البحر) "فلقناه" والفارقات فرقًا "الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل، والفرق، الطريق في شعر الرأس"22.

وفي الصحاح "الفرق بالتحريك الخوف وقد فرق بالكسر، نقول فرقت منك، وامرأة فروقة ورجل فروقة أيضًا، وفي المثل (رب عجلة تهب ريثا، ورب فروقة يدعى ليثا"23.

يتبين من ذلك أن جذر المفارقة يشير إلى الفصل والتعدد والتفريع، وخير ما يعبر عن المفارقة قولهم فرق له الطريق "أي اتجه له طريقان " فالمفارقة ترسم للقارئ أكثر من طريق، وتطلب إليه أن يوظف وعيه وحدسه لسلوك الطريق المؤدية إلى المعنى الحقيقي، أما الطريق الأخرى فهي الكفيلة بأن توقع بسالكها ضحية من ضحايا المفارقة24.

الثاني: يتعلق بتشابك حدود المفارقة مع كثير من أشكال التعبير الفني، بدرجة أو بأخرى يصعب فصلها في كثير من الأحيان. ولقد حدث هذا التشابك في النقد الأجنبي بقدر ما حدث في النقد العربي قديمة وحديثه ففي الإنجليزية –على سبيل المثال- تشابكت حدود Irony مع مصطلحات عدة مثل:

Paradox (التناقض، المحاكاة الساخرة) Antonym (نقيضة، تضاد) Satire (الهجاء)

Antonomasia (الكناية) Illusion (توهم) Wit (الفطنة) Mock Heroic (الملحمة الساخرة) Asteism (تأكيد المدح بما يشبه الذم) Meiosis (التحليل لبلاغي).     

Tibaq (الطباق) Pastiche (المعارضة) Scorn (ازدراء) Travesty (التقليد الساخر) Insinuation (تلميح) Metaphor (استعارة) Aporia (الحكمة الساخرة)

Trope (المجاز) Innuendo (الالماع)25.

وهذا يعني أن الكلمة اكتسبت معاني جديدة مع محافظتها على معانيها القديمة، وهذه المعاني الجديدة التي أصبحت تعنيها الكلمة كانت تحولاً جذريًا؛ يمكن تشبيهه بما أحدثته الحركة الرومانسية من تحول جذري في رؤية العالم عن ما كان سائدًا قبلها.

وفي العربية أيضًا، تشابكت حدود المفارقة مع كثير من أشكال التعبير الفني، نذكر منها:

المجاز: المجاز المرسل، المجاز الاستعاري: الاستعارة ـ التمثيل ـ المثل ـ الكناية ـ الرمز ـ التعريض-التلويح ـ التورية ـ التوجيه ـ الإيماء ـ التلميح ـ الملح ـ اللمزـ الغمزـ الالماع ـ معنى المعنى عند عبدالقاهر ـ الوحي ـ الأحجيةـ الإشارة ـ التضاد ـ الطباق ـ المقابلة ـ التهكم ـ السخرية ـ الاستهزاء ـ الازدراء ـ الهجاء ـ الإثبات بالنفي ـ النكتة ـ الكوميديا  الفكاهةـ المزاح ـ المبالغة ـ التفخيم ـ الانقلاب ـ (الكاريكاتير) ـ تجاهل العارف ـ  سوق المعلوم مساق غيره ـ التشكيك ـ المدح بما يشبه الذم ـ الجد في موقف الهزل ـ الهزل في موقف الجد ـ الكذب ـ تخفيف القول ـ تضخيم القول26.

وظلت المراوغة التي تتصف بها المفارقة تفعل فعلها في تصعيب أمر إدراكها منذ المعلم الأول أرسطو حتى آخر الباحثين؛ هذا كانت صعوبة إدراكها ملازمة لكل العصور.

مما سبق يمكن القول: إن تعريفات النقاد العرب اتكأت على الدراسات الغربية؛ لأن الغربيين هم أول من درس المصطلح وأصله من خلال الدراسات النقدية والرسائل العلمية؛ ولأنه قديم جدا في الآداب الغربية.

من خلال استعراض الدراسات السابقة نلاحظ الآتي:

أولاً: نتفق مع ناصر شبانة في قوله "ويبدو أن هذا التفاوت في التعريفات كان له اليد الطولي في فرز أنواع وأشكال مختلفة للمفارقة، فبات التعريف الأبسط للمفارقة، هو أن تقول شيئًا وتعني شيئا آخر، تعريف للمفارقة اللفظية فقط، غير أن هذا التعريف الأبسط والأقدم ظل الخيط الذي ينتظم التعريفات اللاحقة جميعها مهما تطورت وتعددت"27.

ونلاحظ من هذه الفقرة أن شبانة يقدم تعريفًا للمفارقة؛ ويقول إنه التعريف الأبسط وهو يقدم هذا التعريف في دراسته للمفارقة؛ أي إنه لم يقدم جديدًا بل إن تعريفه لم يشمل المفارقات الأخرى.

ثانيًا: ونختلف معه في تحليله للاستعارة، في قول العرب "فلان كثير الرماد" وذلك في قوله "فالاستعارة مثلاً تقدم بنية لغوية لا تعطي دلالة مباشرة، وكذلك الكناية (فكثير الرماد) بنية لغوية تصرح بمضمون وتوحي بسواه، لكنها ليست مفارقة، والسبب ـ برأيي ـ هو تحقيق الإجماع حولها، واستحالة وقوع ضحية لها، فقد باتت هذه البنية تصرح بالمضمون البعيد، دون المرور بالمعنى القريب الذي تلاشى بفعل الزمن والاستعمال، ولو لم يكن ثمة إجماع حول هذه العبارة لجاز أن يقع غافل في سوء الفهم، لتنقلب إلى مفارقة حقيقية"28.

وفي رأينا أن المفارقة يشترط فيها التضاد بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي، وهذا مفقود في المثال الذي طرحه ناصر شبانة، فالصحيح أن كل مفارقة استعارة أو كناية أو معنى المعنى وليس كل استعارة أو كناية أو معنى المعنى مفارقة، فالاستعارة والكناية ومعني المعنى لا تشترط التضاد في المعنى الخفي مع المعنى الظاهري. 

وبناء على ما سبق يمكننا أن نعرف المفارقة ـ وهو تعريف ستسير عليه هذه الدراسة ـ التعريف التالي:

المفارقة تعني أن يكون المعنى الظاهري للخطاب في تضاد مع المعنى الخفي أو أن يحدث حدث غير متوقع الحدوث، ولابد للمفارقة من أن تحمل رمزًا يوجه انتباه القارئ إلى المعنى السليم.

فالجزء الأول من التعريف يعني المفارقة اللفظية أو اللغوية والجزء الثاني يختص بمفارقات الموقف التي تشمل بقية المفارقات مثل مفارقات الشخصيات ومفارقات الأحداث ومفارقات الزمان والمكان كما أشرت إلى إن المفارقة هي جزء أساسي من الوجود الإنساني وفي الجزء الأخير شرط نجاح صياغة المفارقة وهو أن تكون به قرينة أو رمز يدل المتلقي إلى المعنى الصحيح ويكون ذلك من خلال السياق.

وقد تبنيت هذا التعريف بعد أن استعرضت ودرست تعريفات النقاد العرب للمصطلح لاحظت اقتصار أغلب تعريفاتهم على تعريف المفارقة اللغوية، وقد حاولت تلافي ذلك من خلال هذا التعريف.

وترى نبيلة إبراهيم أن المفارقة "تحدد بعناصر أربعة:

أولاً: وجود مستويين للمعنى في التعبير الواحد: المستوى السطحي للكلام على نحو ما يعبر به، والمستوى الكامن الذي لم يعبر عنه، الذي يلح القارئ على اكتشافه أثر إحساسه بتضارب الكلام.

ثانيًا: لا يتم الوصول إلى إدراك المفارقة إلا من خلال إدراك التعارض أو التناقض بين الحقائق على المستوى الشكلي للنص.

ثالثًا: غالبًا ما ترتبط المفارقة بالتظاهر بالبراءة وقد يصل الأمر إلى حد التظاهر بالسذاجة أو الغفلة.

رابعًا: لابد من وجود ضحية في المفارقة. قد تكون أنا الكاتب هي الضحية، وقد تكون الضحية الـ"أنت" أو الآخر"29.

وهي بهذا تقدم أهم المرتكزات التي تجعل الخطاب يوصف بالمفارقة هذه المرتكزات التي تقوم على أساس التضاد بين المعنى الظاهري للنص والمعنى العميق، ويتم الوصول إلى المعنى العميق من خلال إدراك التعارضات والمتناقضات في النص، وكذلك التظاهر وهو أن يتظاهر كاتب النص بعدم المعرفة التي قد تصل حد السذاجة والغفلة، ولابد من وجود ضحية للمفارقة وهذه الضحية قد تكون القارئ أو الكاتب نفسه أو أنت أو الآخر، ولهذا يعد تعريف نبيلة إبراهيم للمفارقة هو تقريبا التعريف الأشمل للمفارقة، وقريب جدًا من تعريفنا الذي توصلنا إليه في هذا البحث.

 

الهوامش والإحالات:

1 - خالد سليمان، المفارقة والأدب، دار الشروق عمان، الأردن ط1999.1ص14.

2 - المرجع السابق، ص15

3 - دي. سي. ميويك، المفارقة وصفاتها، ترجمة، عبدا لواحد لؤلؤة، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، ط1987,2 ص42.

4 - سعيد شوقي، بناء المفارقة في المسرحية الشعرية، دار ايتراك للطباعة والنشر، القاهرة ط 1،2001، ص26

* فر يدريك فون شليجل (1772 ـ 1839) رائد الحركة الرومانسية الألمانية ولد في هانوفر بألمانيا، ودرس القانون ولكنه اهتم بالأدب أهم كتبه" محاضرات في تاريخ الأدب القديم والحديث" و"فلسفة الحياة" و"فلسفة اللغة" وفلسفته مزيج من كانط، وفخته، وسبينوزا وجوته وشلر وهو يقول بأن الوعي الجمالي إما كلاسي أو رومانسي والشاعر الكلاسي يستعبد نفسه لمادته، بينما الشاعر الرومانسي يخضع مادته لشخصيته. وهو يضع التأمل في مرتبة أرفع من التفكير ومن ثم يعطي الأولوية للتخيل المبدع يمارسه بسخرية على العالم ويصف السخرية بأنها أعظم تعبير عن الحرية. انظر د. عبدالمنعم الحفني، موسوعة الفلسفة والفلاسفة، مكتبة مدبولي، القاهرة ط 2،1999،ج1، ص797.

5 - دي. سي. ميويك، المفارقة وصفاتها، سبق ذكره ص35

6 - نبيلة إبراهيم، فن القص في النظرية والتطبيق، مكتبة غريب، القاهرة، ب. ت، ص204

7 - انظر خالد سليمان، المفارقة والأدب، سبق ذكره، ص15

8 - سيزا قاسم، المفارقة في القص العربي، مجلة فصول م2 ع2، ص 144

9 - محمد العبد، المفارقة القرآنية، دراسة في بنية الدلالة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 1،1999 ص18

10 - نبيلة إبراهيم، فن القص بين النظرية والتطبيق، مرجع سابق، ص198

11 - ناصر شبانة، المفارقة في الشعر العربي، المؤسسة العربية للدراسات بيروت ط1، 2002، ص46.

12 - أمينة رشيد، المفارقة الروائية والزمن التاريخي، مجلة فصول، مج، ع4، 1993، ص157.

13 - سعيد شوقي، بناء المفارقة في المسرحية الشعرية، مرجع سابق، ص84.

* - ترجمة أنواع المفارقة عند ميويك (المفارقة تنفيذا بلاغيًا Irony as Rhetorical Enforcement التواضع الزائف أو مفارقة الاستخفاف بالذات Modesty or Mock self-Disparaging هزء المفارقة Ironic Mockery المفارقة بالتشابهIrony by Analogy  المفارقة غير اللفظيةNon-Verbal Irony ـ غرارة المفارقةIronic  Naivety المفارقة الدرامية أو منظر العمى Dramatic Irony or the Spectacle مفارقة تنم عن نفسها Unconscious مفارقة خداع الذات Irony self-betraying مفارقة الأحداث Irony of Events المفارقة الكونيةIrony Cosmic - مفارقة التنافر Irony Incongruity المفارقة المزدوجة Double Irony المفارقة الرومانسيةٌ Romantic Iron).

14 - دي. سي. ميويك، المفارقة وصفاتها. سبق ذكره ص20-25.

15 - محمد العبد، المفارقة القرآنية، سبق ذكره، ص53-189.

16 - سعيد شوقي، بناء المفارقة في المسرحية الشعرية، سبق ذكره، ص30.

17 - سعيد شوقي، بناء المفارقة في المسرحية الشعرية، ص32.

18 - المصدر السابق، ص32.

19 - انظر، د. نعمان محمد أمين طه، السخرية في الأدب العربي حتى القرن الرابع الهجري، دار المطبعة التوفيقيةط1، 1978. ص21 وما بعدها

20 - انظر دي.سي.ميويك، المفارقة وصفاتها، تر. عبدالواحد لؤلؤة، مرجع سابق، ص5.

21 - جمال الدين محمد بن منضور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ج10، 1994. (مادة فرق)

22 - الفيروز آبادي، القاموس المحيط، دار الجيل، بيروت لبنان، ج3.. 1978(مادة فرق)

23 - إسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، دارا لعلم للملايين، بيروت، ج5.ب.ت

24 - انظر، ناصر شبانه، المفارقة في الشعر العربي الحديث، سبق ذكره، ص49

25 ـ انظر سعيد شوقي، بناء المفارقة في المسرحية الشعرية، سبق ذكره، ص35،34.

26 - سعيد شوقي، بناء المفارقة في المسرحية الشعرية، سبق ذكره ص35

27 - ناصر شبانة، المفارقة في الشعر العربي، سبق ذكره، ص47.

28 - ناصر شبانة، المفارقة في الشعر العربي، سبق ذكره ص54.

29 - نبيلة إبراهيم، فن القص بين النظرية والتطبيق، مصدر سابق ص201


عدد القراء: 8474

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-