الصراع النفسي في روايات ديستويفسكيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-29 19:02:49

د. عبير خالد يحيي

ناقدة سورية

"ديستويفسكي" هو الوحيد الذي أفادني شيئًا في علم النفس، كان اكتشافي له يفوق أهمية اكتشافي "ستاندال"1 .

                                                                                                             نيتشه2

 

ويقول فرويد: "ديستويفسكي معلِّم كبير في علم النفس. لا أكاد أنتهي من بحثٍ في مجال النفس الإنسانية حتى أجد دوستويفسكي قد تناوله قبلي في مؤلّفاته"3.

ويقول عنه ميخائيل نعيمة: عنده قدرة إبداعية شاملة، إذ لا يستطيع حشد كبير من رجال الدين، وعلماء النفس، والاجتماعيين، أن يقدّموا عملًا كـ(الأخوة كاراموزف).

وهو الذي قال عنه الشاعر الروسي الكبير نيكولاي نيكراسوف: "إن (غوغول) جديدًا قد ظهر ".

فلماذا نالت هذه الشخصية الأدبية كل هذه الشهرة حتى أصبحت تقترن بصفة العبقرية، فيقال (عبقرية ديستويفسكي)؟  كيف تجلّت هذه العبقرية وما هي الأسباب المؤهبة لبزوغها؟

يقول مكسيم غوركي: "إن هذا الكاتب صوّر لنا صفات المظلومين، وخصائص الإنسان على القرون.. وإن عبقريته يمكن مقارنتها بعبقرية شكسبير".

الحقيقة أن تلك العبقرية تجلّت في اختياره لشخصياته الفنية في أعماله الأدبية، جلّ شخصياته من الفقراء والمساكين والمشرّدين والسكارى والمدمنين، القديسين وأشباه القديسين، الفوضويين والمهزومين والمهزوزين نفسيًّا، الذين لا يتورّعون عن ارتكاب جرائم مروّعة بدوافع نفسية منحرفة، يقتلون آباءهم، وبعضهم أيضًا من المصابين بالهستيريا، يراودهم حلم الانتحار، لكنهم جميعهم، وعلى بشاعة وغرابة سلوكياتهم، يبدون مألوفين بالنسبة لنا، حتى أنه من الممكن أن نتعاطف معهم رغم شدّة إجرامهم، كيف ذلك؟ وكيف يمكن تبرير هذا التعاطف؟ الحقيقة أن ذلك يعود إلى أمر  منطقي بسيط، وهو أن تلك الشخصيات المريضة، غير السوية، يمكنها أن تتمتع بحرية لا يمكننا – بحال من الأحوال – بلوغها ونحن أسوياء، هم يفعلون ما لا نجرؤ على فعله، ويعبرون عمّا نسكت عنه، لأنهم محميّون بعذرهم، بأزماتهم وأمراضهم النفسية الخطيرة الانفصامية والمازوخية والسادية والأوديبية، كما أنهم محميون بغطاء الصراع بين الخير والشر الذي هو الصراع المحوري والفكري المشترك، والذي نجده في كل أعماله، بدءًا من (الجريمة والعقاب) تحت الخيمة الأخلاقية الذرائعية التي أبرزت تأثير الأفكار الأخلاقية في ارتكاب جريمة قتل وسرقة  (بدافع تحقيق العدل بتوزيع الثروة) والعقاب النفسي والأخلاقي المترتب على هذه الجريمة (الندم وتأنيب الضمير على إزهاق روح إنسانية وترك الثروة التي ارتُكبت جريمة القتل بسببها)، بينما نجده في (الأبله) يستكشف الأفكار الأخلاقية والروحية والفلسفية المترتبة على الصراع بين  القناعات المقدّسة والأكثر قربًا من القلب وبين المحن الشخصية التي من الممكن أن تواجه البطل كمرض الصرع والخوف أو الوهم من الإعدام،  ثم الانتصار  أخيرًا للجمال والخير ، وتحقيق الهدف السامي في دفق المحبة الروحية والدينية المسيحية في بوتقة المجتمع الروسي المعاصر ، تلك الرواية التي أثارت اهتمام النقّاد بتنظيمها الفوضوي، في هذه الرواية تجلّت عبقريته بارتباط الفكرة الجمالية، كيف يمكن أن يعيش إنسان في غاية الجمال والطيبة  في مجتمع إنساني عادي، على غرار ما قاله غاري شول مورسون: "تنتهك رواية الأبله كل المعايير الحرجة وتستطيع بطريقة ما الوصول إلى العظمة الحقيقية".

لم تكن الحرية عند ديستويفسكي سطحية مقتصرة على قدرة الإنسان على الانتصار للخير في صراعه مع الشر، وإنما كانت عميقة ويقينية بحتمية قيام هذا الصراع مترافقًا مع المعاناة التي لا تنتهي إلا بموت الإنسان نفسه، وعندها ستتحقق تلك الحرية، وستكون مطلقة بلا قيود، هنا يبلغ ديستويفسكي ذروة الوعي فيجسّد تلك الفكرة العبقرية في مشهد من أروع المشاهد في (الجريمة والعقاب) حين يجثو روديون راسكولنيكوف عند قدمَي سونيا حين بلغت أعلى ذروة في معاناتها من الإثم والخطيئة قائلًا:

"أنا لا أسجد أمامكِ أنتِ ... بل أمام معاناة البشرية كلها".

لقد انطلق ديستويفسكي في كل أعماله، من معاناته وتجربته الحياتية الشخصية، أي متناصًّا مع الركيزة الأولى من ثلاثية التناص التي أقرّتها الذرائعية، فنجد ديستويفسكي يجسّد معاناته مع مرض الصرع في شخص بافل في (الأخوة كارامازوف) وهو الابن غير الشرعي للأب فيودور كارامازوف، تتميز شخصيته بالقسوة والعنف ويحب شقيقه إيفان ويشاركه في أفكاره الإلحادية، أيضًا نجد ديستويفسكي الكاتب الوجودي مجسّدًا في (إيفان) الأخ الأوسط في العائلة وهو كاتب وشاعر عمره 24 سنة يعيش حياة نفسية مضطربة بسبب معاناته مع القدر، كان كثير التساؤل عن ماهية الحياة والقدر والله، وقد حلم بالشيطان. لقد أطلق ديستويفسكي اسم ألكسي ( أليوشا) على بطل الرواية، تأسيًّا باسم ابنه الحقيقي الذي مات بعمر  الثلاث سنوات جرّاء مرض الصرع الذي ورثه الطفل من أبيه. العلاقة بين ديستويفسكي ووالده الطبيب الجراح القاسي السكّير لعبت دورًا كبيرًا في رسم شخصية الأب في الرواية. 

نجده أيضًا في الشخصية البطلة في رواية (المقامر)، الرواية التي تضيء جوانب هامة من شخصيته، فديستويفسكي كان مقامرًا حتى المرض، خسر مبالغ طائلة على موائد القمار في ألمانيا وفرنسا وسويسرا، الرواية تناولت قضية الإدمان على القمار بالتحليل الدقيق، كتبها ديستويفسكي في عز إدمانه المرضي.

نشأته في حي بائس فيه المستشفى الذي يعمل فيه أبوه، وفيه كذلك دار للأيتام، ومقبرة للمجرمين، تركت أثرًا بارزًا في كتاباته. تجربة الحكم بالإعدام واستبداله بالاعتقال والنفي إلى سيبيريا في العام 1849 كانت ملهمة للكثيرة من أعماله، منها (بيت الموتى).

الركيزة الثانية من ثلاثية التناص عند ديستويفسكي نجدها عند تناصّه وتأثّره مع العديد من الكتّاب والفلاسفة مثل: كيركغور، بوشكين، غوغول، وأوغسطينيوس، شكسبير، ديكنز، بلزاك، هوغو ، آلان بو، أفلاطون، هيرزن، كانت، بلنسكي، هيغل، شيلر، باكونين، ساند، وهوفمان....

ما هي الفلسفة التي جذّرها ديستويفسكي في أعماله؟

إن تركيز ديستويفسكي على الشخصية الإنسانية المغتربة والضائعة عن هويتها المجتمعية، المنعزلة والمتوحّدة في ذاتيّتها، والغارقة في آلامها وصراعاتها التراجيدية، الفاقدة لاتجاهات البوصلة الإنسانية الاجتماعية، جعله يعتمد الفلسفة الوجودية ويجذّر لها فكريًّا في كل أعماله على الإطلاق، فهو يبحث عن الوجود الإنساني في كل ما يكتب، وينظر للحياة على أنها صراع تراجيدي، يطالب بالحرية، وهو صراع لشخصية فردية كادحة في نزاع دائم مع المجتمع، فكانت قصته (الإنسان الصرصار أو رسائل من تحت الأرض) أول تجسيد أدبي  لفلسفته الوجودية. وديستوفسكي ينطلق بفلسفته هذه من ذاته الحقيقية، لم يكن ديستوفسكي ثريًّا ومرفهًا كما كان أشباهه مثل تولستوي وتورغنيف وغيرهم من الكتّاب الذين كانت دور النشر تتنافس على طباعة أعمالهم، بينما كان صاحب (الأخوة كارامازوف) يعرض أعماله على المجلات لنشرها على حلقات لتوفير  المال اللازم لقضاء ديونه، فكتب (الجريمة والعقاب) و(المقامر) في وقت واحد، ليستطيع حماية حقوق أعماله من مصادرة الناشر، تساعده في ذلك زوجته (آنا جريجوريفنا) التي كانت تكتب له ملخصات رواياته ليتمكّن من تسليمها لدور النشر في الوقت المحدّد حسب العقد.

وجوديّته لم تحل بينه وبين إيمانه وانتمائه الديني، فالإنسان عنده: "هو ذلك الكائن الذي يطفو على سطح الصراعات الناشئة من المواجهة المستمرة بين دواخله، من ناحية، وصراع الوجود والهدف- اللذين لا يلتقيان أبدًا – من ناحية أخرى"4.  كان تأثر دوستويفسكي بالمسيح تأثّرا نفسيًّا وجدانيًّا في المقام الأول قبل أن يكون إيمانيًّا، وفي رسالة له لصديقته التي أحضرت له العهد الجديد في السجن يقول: "أنا كطفل شكّاك ليس لدي إيمان حتى اللحظة، وأوقن بأني سأبقى كذلك إلى القبر، ولو أثبت لي شخص ما أن الحقيقة ليس المسيح، يجب أن أختار البقاء مع المسيح بدلًا من الحقيقة". 

ويروى أن تولستوي كان يبكي عندما يقرأ (بيت الموتى) وكان يقول: "لولا وجود الكتاب المقدّس، لقلت إن هذا هو الكتاب المقدّس".

أكثر من تأثّر به من الكتّاب والفلاسفة: جان بول سارتر، وفريدريك نيتشه، وأنطون تشيخوف، وألكسندر سولجنيتسين. 

تقول آنا جريجوريفنا معبرة عن علاقتهما معًا والتي عمّرت على مدى أربعة عشر عامًا من السعادة:

"في الواقع، كنت أنا وزوجي نعتبر أنفسنا أناسًا لهم مزاج مختلف تمامًا، لهم طابع آخر، رؤى مختلفة، لكننا بقينا على سجيّتنا دائمًا، لم يتدخل أحدنا في شؤون الآخر، لم يقلّده ولم يقتحم عالمه النفسي، وهكذا كنت وزوجي الطيب نشعر بحرية أرواحنا، كان فيودور ميخايلوفيتش يفكّر كثيرًا وحده في الأسئلة العميقة للنفس البشرية، وكان يقدّر لي عدم تدخلي في حياته النفسية والعقلية، ولهذا كان كثيرًا ما يقول لي: أنت المرأة الوحيدة التي فهمتني!  (هذا ما كان يمثّل أكثر الأشياء أهمية بالنسبة إليه)...."5

المصادر والمراجع:

1 - Stendhal :1783 - 1842 روائي فرنسي. اسمه الحقيقي ماري هنري بيل Marie Henri Beyle يعتبر أحد أبرز وجوه الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر. اتسمت أفكاره، الرومانتيكية الطابع، بسخرية بارعة، وبنفاذ نادر إلى أعماق النفس البشرية، وبنزوع واضح إلى النقد الاجتماعي. أشهر رواياته "الأحمر والأسود" عام 1830_ ويكيبيديا

2 - ديستويفسكي، مقالات ومحاضرات، أندريه جيد، ترجمة الياس حنا الياس، منشورات عويدات،بيروت، باريس، الطبعة الأولى، 1988 صفحة 7.

3 - ديستويفسكي رائد الرواية النفسية في القرن التاسع عشر، موقع الباحثون السوريون، 25/04/2016

4 - دوستويفسكي والمسيح: بين الصراع والمعاناة،بيشوي مجدي، موقع إضاءات، 03/ 02/ 2021

5 - آنّا جريجوريفنا ديستويفسك، مذكرات زوجة ديستويفسكي، ترجمة: أنور محمد إبراهيم، المركز القومي للترجمة، سلسلة الإبداع القصصي، العدد 2236- الطبعة الأولى، 2015، صفحة 512


عدد القراء: 3204

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-