صورة الثغر في الشعر العربيالباب: مقالات الكتاب
د. السعيد الدريوش المغرب |
الشاعر لا يقدم أفكارًا جديدة، بقدر ما يقدم أفكارًا تداولية بتراكيب جديدة، الشيء الذي يطرح سؤال النمطية والمشاكلة بخصوص ما يقدمه من صور شعرية يتوخى من خلالها التعبير عن ما يخالج عواطفه وأحاسيسه، بهدف الانتقال بالذات الشاعرة من سؤال الفردية والحسية الضيقة المحدودة إلى التعبير عن توجهات ومطامح الجماعة.
فصورة الثغر للمرأة المثال في الشعر العربي هي نموذج لهذا الاتباع والمماثلة التي تعرفها الشعرية العربية عبر سيرورتها التاريخية، لذلك سأسلط الضوء في هذه الورقة النقدية المختصرة على أهم سمات هذه الصورة، وأهم تشكيلاتها عبر العصور، وكيف استطاع الشاعر هدم الصورة الأصلية وإعادة بنائها في إطار مفهوم التناص والتضافر.
إن المتأمل في الموروث الشعري الجاهلي، خصوصا القصيدة المؤسسة، يلحظ حضورًا مكثفًا لصورة الثغر الدالة على رؤيا شعرية جماعية للمرأة المثال، فطرفة بن العبد من خلال معلقته يصف ثغر حبيبته خولة قائلاً (الطويل):
وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوِّراً
تَخَلَّلَ حُر الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِ
سَقَتْهُ إِيَاةُ الشَّمْسِ إِلاَّ لِثَاثِهِ
أُسِفَّ وَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بِإثْمِدِ1
هو ثغر يضرب لون شفتيه إلى السواد (كأنه أقحوان خرج نوره في دعص ند...وإنما جعله نديا ليكون الأقحوان غضًّا ناضرًا)2، فالقضية الأساس من هذا التشبيه هو تبيان لون الثغر المفضل لدى العربي بصفة عامة، الشيء الذي يفسر التكرار المتداول لهذه الصورة الشعرية عند العديد من الشعراء الجاهليين الذين يرون في لون ثغرها اللامع الأبيض دليلاً ملموسًا على صحة فمها وعافيته.
ومن بين أبرز صفات ثغر المرأة المثال في الشعر العربي رائحة فمها وطعمه، فها هو الأعشى ميمون يقول في هذا المعنى وفي هذه الصورة (المتقارب)
كَأَنَّ جَنِيّاً مِنَ الزَّنْجَبِي
لِ خَالَطَ فَاهَا وَأَرْياً مَشُورا3
ويستمر وصف الثغر بالرائحة وبالطعم الذي يستخلص من عنب قُطف طريًا، يقول سُحَيم عبد بني الحسحاس (المتقارب):
كَأَنَّ الْقُرُنْفُلَ وَالزَّنْجَبِي
لَ وَالمِسْكَ خَالَطَا جَفْناً قِطَافَا
يُخَالِطُ مِنْ رِيقِهَا قَهْوَةً
سَبَاهَا الذِّي يَسْتَبِيهَا سُلاَفَا4
لقد بينا كيف ركز الشاعر الجاهلي على صورة المرأة المثال، من خلال تصويراته الشعرية الدالة على لون الثغر ورائحته الطيبة، وكما قلنا سابقًا فالشاعر ليس خالق كلمات بل خالق تراكيب (وهكذا تكون عظمة الشعر في مدى تفجيره البنية القمعية للمجتمع، وفي الأبعاد التي يوحي بها، وفي العلاقات الجديدة التي يقيمها، وفي الآفاق التي يفتحها بلغة جديدة لرؤية جديدة وحساسية جديدة، وكتابة جديدة)5، فالمعاني مطروحة في الطريق كما قال الجاحظ، وإنما المزية في اختيار اللفظ وحسن نظمه، لذلك حاول الشعراء في العصور اللاحقة هدم النصوص السابقة وإعادة بنائها محتفظين بنفس القيم والمضامين الجماعية، فنجد في العصر الأموي، شعراء مجيدين ساروا على نفس المنوال محتفظين بنفس المعاني السابقة نذكر من بينهم النابغة الشيباني صاحب أطول قصيدة في الشعر العربي يقول (الطويل):
وَتَـبْـسـِمُ عَنْ غُــرٍّ رِوَاءٍ كَأَنَّـهَـا
أَقَاحٍ بِريانٍ مِنَ الرَّوْضِ مُشْرِقُ
كَأَنَّ رُضَابَ الْمِسْكِ فَوْقَ لِثَاثِهَا
وَكَافُـــورَ دَارِيٍّ وَرَاحَا تُــصَـفّـقُ
حَمَتْهُ مِنَ الصَّادِي فَلَيْسَ تُنِيلُهُ
وَإِنْ مَاتَ مَا غَنَّى الحَمَامُ الْمُطَوَّقُ6
وبما أن الشعر فعالية إنزياحية إبداعية، قد يقع الحافر على الحافر فيه، وبالأخص في معاني الصورة وأبعادها، فما تعنيه القصيدة العربية عبر العصور هو تبيان جمالية المرأة العربية التي من خلالها يحصل العربي على صنف من الأبناء الأصحاء الأقوياء القادرين على الانسجام مع البيئة الصحراوية المعقدة، المؤمنة في كثير من الأحيان بحق القوة وليس قوة الحق.
أما العصر الأندلسي، فلم يكن نشازًا عن غيره من العصور التي سبقته، وبالأخص العصر الغرناطي كنهاية لفترة هامة من حياة الشعرية العربية، حيث نجد تكرارًا عجيبًا لصورة الثغر الأقحوان من خلال التشبيهات بأنواعها، وفي هذا الصدد يقول لسان الدين ابن الخطيب (الكامل):
وَلِثَغْرِهَا عِنْدَ ابْتِسَامِ أَقَاحِهِ
بَرْقٌ تَأَلَّقَ فِي سَنَا وَجَنَاتِهَا7
وإذا انتقلنا إلى تلميذ ابن الخطيب، الشاعر المداح ابن زمرك الصريحي، نجده وفي نفس المعنى يقول (الطويل):
وَقَبَّلَ خَدَّ الْوَرْدِ ثَغْرُ أَقَاحِهِ
فَمَدَّ عَلَيْهِ لِلْحَيَاءِ نِقَابَا8
أما بخصوص الطعم والرائحة فنجده يقول (الطويل):
وَنُورِ أَقَاحٍ قَدْ سَقَتْهُ سُلاَفَةٌ
رَشَفْتُ بِهِ ثَغْراً شَهِيّاً مُفَلَّجَا9
في تناص مباشر مع سابقيه من الشعراء الذين يختارون أجود الألفاظ المعبرة عن حسن الرائحة والمذاق، كالسلاف الذي يمثل العصرة الأولى من الخمرة.
إن التمحيص في هذه الشواهد الشعرية، المنتقاة من عصور مختلفة، يجعلنا ندرك أن المفاتن الأنثوية في جانبها الحسي لم تكن هي شغل العربي الشاغل، بل كانوا يهدفون إلى إبراز عنصر مميز في بناء الثقافة العربية الجماعية للإنسان، تصورات الجماعة، مطامح الجماعة، رؤيا الجماعة للعالم، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بعث أم سليم لتنظر إلى امرأة: شمي عوارضها10، أطيب أم خبيث.
فالتركيز على رائحة فم المرأة إنما هو رؤيا جماعية لثقافة الإنسان العربي الطالب للزواج والراغب في ذرية قوية صلبة، كما أن (إلحاح الشعراء كما لاحظنا عند طرفة والأعشى وسحيم والنابغة الشيباني على وصف الثغر بتلك المواصفات الراقية إنما هو شكل من أشكال الإشهار لهذا الفن – الدور الإعلامي التربوي للشعر – ذلك أن الهدف هو تعميم مثل هذا الفن وتعميقه في الثقافة الصحية والجمالية)11.
الهوامش:
1 - شرح المعلقات السبع، الزوزني، تحقيق محمد الفاضلي، المكتبة العصرية، 2010، ص 68 – 69.
2 - المرجع السابق، ص 69.
3 - ديوان الأعشى ميمون، تحقيق محمد حسين، مكتبة الآداب، ص 93
4 - ديوان سحيم عبد بني الحسحاس، تحقيق عبدالعزيز الميمني، دار الكتب المصرية، 1950، ص 40.
5 - أدونيس، سياسة الشعر، ص 165، دار الآداب، ط 1، 1985.
6 - ديوان النابغة الشيباني، دار الكتب المصرية، 1932، ص2
7 - ديوان لسان الدين بن الخطيب، تحقيق محمد مفتاح، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة 2، 2007، ص 170.
8 - ديوان ابن زمرك الصريحي، تحقيق محمد النيفر، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1997، ص 251.
9 - ديوان ابن زمرك الصريحي، ص 258.
10 - أنظر لسان العرب، مادة عرض.
11 - الدكتور محمد السكاكي، من محاضرة ألقاها برحاب جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، المغرب.
تغريد
اكتب تعليقك