البيزنطيون والثقافة العربية الإسلامية في عصر بني أميةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-10-02 04:41:58

د. عبدالوهاب القرش

باحث في العلوم الإسلامية - مصر

تميز عصر الدولة الأموية بأهمية كبيرة في تاريخ الثقافة اليونانية في الشام ومصر وفي القسطنطينية نفسها، فبفقدان بيزنطة للشام ومصر لم يعد كل منهما إقليمًا بيزنطيًا، وتحولا إلى إقليمين عربيين إسلاميين، وقد أثر ذلك بدوره على وضع الثقافة اليونانية داخل الأقاليم البيزنطية الأخرى، ولم تمر هذه التحولات دون أن تترك آثارًا ثقافية عند البيزنطيين في ثقافتهم اليونانية، فلماذا؟

لقد اتجه رواد الفكر اليوناني في الشام ومصر وبيزنطة إلى دراسة ثقافة المسلمين الفاتحين (الدين الإسلامي واللغة العربية) - على كره منهم -، وذلك لسببين من وجهة نظرنا:

الأول: هو دخول الكثير من الرعايا المسيحيين في الدين الإسلامي، فشعرت الكنيسة البيزنطية بالخطر الذي يحيط بالمسيحية ومكانتها في الشرق، فتحركت لمحاربة الإسلام.

الثاني: أدرك البيزنطيون بعد الفتح الإسلامي للشام ومصر، أن المسلمين لن يتحملوا طويلاً حالة النقص الثقافي التي يعيشونها، وأنهم سيفرضون عاجلاً أو آجلاً لغتهم العربية في المعاملات الإدارية، وسوف يتحقق دون إبطاء ما توقعوه، وسيكون الرعايا المسيحيون في الشام ومصر هم ضحاياه.

لم يمض وقت طويل بعد الفتح الإسلامي حتى سادت اللغة العربية الشام ومصر وضعفت اللغة اليونانية والقبطية، كما أن المسيحية في البلدين قد بدأ تعربيها لغوياً وثقافياً وأصبحت عربية، فاضطرت أديرة فلسطين وسوريا إلى تلبية حاجات الرهبان ورجال الكنيسة بما يغذيهم من مؤلفات الآباء القديسين، فنقلت بعض كتاباتهم إلى اللغة العربية في نهاية القرن السابع الميلادي، وبذلك لم تتأخر اللغة العربية في إزاحة اللغة اليونانية، فحلت مكانها في البطريركيات الثلاث في الدولة الإسلامية، وأصبحت اللغة العربية لغة سكان البلاد، الذين بقوا على دين آبائهم في كنف الدولة، هذا فضلاً عن لغتهم الأصلية فالموظفون البيزنطيون والشوام والأقباط، الذين تركهم المسلمون في وظائفهم السابقة كانوا يجيدون التحدث باللغتين ، وكذلك السريان والنساطرة والبوليسيون والسفراء، وسكان الحدود من البيزنطين والمسلمين والإمبراطور ليو الثالث وبعض رجال الدولة من المسلمين والبيزنطيين كل أولئك كانوا يجيدون التحدث باللغتين اليونانية والعربية .

لذا اضطر سرجون بن منصور والد يوحنا الدمشقي، أن يضيف إلى منهج تعليم أولاد الأسر ذات المقام الاجتماعي السامي والثروة، وذات الطابع الثقافي اليوناني المنهج المعول عليه عند الخلفاء والأمراء والأغنياء في ذلك العصر وهو المعروف بحلقة الفنون السبعة الحرة في منهج تهذيب الأمراء وأولاد الأسر، وكان للشعر المقام الأول، بوصفه مدرسة الأخلاق العالية والمشاعر النبيلة، أما النثر فلا وجود له، وقد شمل منهج التثقيف درس القرآن الكريم وربما التفسير، ويضاف إلى هذه الدروس التي تفترض معرفة القراءة والكتابة الرياضة البدنية التي تصير الولد فارسًا كاملاً، ولم تفتقر الشام ومصر إلى أندية أدبية، فإن يوحنا الدمشقي قد فتح أبواب قصره للشعراء والموسيقيين، وجميع من يهتم بقضايا الدين، فكان يوحنا الدمشقي يفهم الشعر ويتذوقه، وتهتز مشاعره لدى احتكاكه بشعراء الصحراء، وقد تأثرت بعض تآليفه بهذا الاحتكاك، ولاسيما أناشيده وقوانينه.

هذا وقد اكتسب يوحنا الدمشقي من تربيته الثقافية المشتركة مع يزيد بن معاوية معرفة القرآن الكريم والفقه الإسلامي، وقد برهن على اطلاعه عليهما في جدله الكتابي مع الإسلام، وخاصة في الفصل الخاص بالهرطقاتDe Haeresibus ، الذي استشهد فيه بآيات كثيرة من سور "البقرة وآل عمران والمائدة والتحريم"، وهي الآيات التي تتعلـق بالمسيح وألوهيته، وكذلك الآيات الدالة على تقديس الكعبة بالإضافة إلى الآيات التي تتعلق بقضاء الله وقدره وسابق العلـم الإلهـي.

ولقد ولدت كتابات يوحنا الدمشقي في العقول المسيحية الرصينة المتروية التردد والشك، وفتحت بابًا واسعًا للطعن في المسيحيين الذين أعمتهم عقيدتهم عن معرفة حقيقة المسيح، وحرية الإنسان وسابق العلم الإلهي، وما فيها من المبالغات التي قادهم إليها الفكر اللاهوتي المسيحي التقليدي.

والحق نقول: أن الكنيسة القبطية ذات الثقافة اليونانية في مصر قد دخلت في الجدل الديني منذ الفتح الإسلامي لمصر، ففي عام 23هـ/643م جرت محاورة بين فاتح مصر عمرو بن العاص، وبنيامين بطريرك الإسكندرية، وفى عام 24هـ /644م تناقش سعيد بن عامر مع يوحنا الأول بطريرك أنطاكية، وارتبطت المناقشات الشفهية بتأليف كتب دفاعية، فكتب أثناسيوس البطريرك اليعقوبى (65 ـ 68ه/684 ـ 687 م) مقالاً حول العلاقة بين المسلمين والمسيحيين؛ وألف إبراهيم البيتحالى مقالاً دفاعيًا سنة 50هـ / 670م على شكل مناقشة بين مسلم ومسيحي؛ فقد صنف بطرس أسقف دمشق مقالاً ضاع فيما بعد وفاته اهتم فيه بالدفاع عن المسيحية ضد الإسلام؛ وبدا برتلماوس الرهاوي ملمًا كل الإلمام بالإسلام في مؤلفه "رده على هاجري"، ومؤلف "ضد محمد" ،وقد فند اعتراضات المسلمين على المسيحية لاسيما ضد التثليث والتجسد والصليب. والحقيقة أن الجانب البيزنطي ما كان يدخل في مناظرة مع الجانب الإسلامي إلا وأن كان ملمًا بالثقافة الإسلامية.

على أي حال لقد ساهم يوحنا الدمشقي بدور كبير في الدفاع عن المسيحية خاصة لأنه عاش في الأوساط الإسلامية واطلع على العقيدة الإسلامية، وعلى اعتراضات المسلمين على الدين المسيحي. ويشكل الفصل رقم (101) من كتاب الهرطقات تفنيدًا موجزًا للعقيدة الإسلامية وقد حفظ لنا ثيودور أبو قرة (ت 205هـ/820م) ـ علاوة على هذا التفنيد ـ خلاصة مناقشة على شكل حوار بين مسلم ومسيحي التقطها عن دروس يوحنا الدمشقي بعض تلاميذه...وعن حوار آخر مع مسلم لم يكتبه يوحنا الدمشقي مباشرة، ولم يعد النظر فيه، هو خلاصة دروس عربية ، كما أن بعض الفصول في ينبوع المعرفة على نحو (الإله الواحد، والتثليث، والتجسد) ، وبعض المقالات عن العلم الإلهي المسبق، وقضاء الله الأبدي وعنايته، كل هذا دفاع مباشر عن المسيحية ضد الإسلام.

ومما يؤكد على إلمام يوحنا الدمشقي بالدين الإسلامي واللغة العربية ما يقوله في (حوار مع مسلم Disputatio saraceni et christianio): "إذا سألك مسلم: ماذا تقول في المسيح؟ قل له: كلمة الله، ولا تظن أنك مخطئ، لأنه كلمة الله كما جاء في كتابهم، ويد الله وقوته، وأفعال كثيرة...، وبدورك اسأله ماذا يقول كتابكم عن المسيح؟ عندئذ ربما يريد هو أن يسألك عن أمر ما رغبة منه في أن يهرب من سؤالك، أما أنت فلا تجبه إلى أن يجيبك هو عن سؤالك، لأنه مضطر أن يجيبك قائلاً: كتابنا يقول: إنه روح الله وكلمته. وعندئذ اسأله: الكلمة في كتابكم مخلوقة أم غير مخلوقة، فإذا أجاب غير مخلوقة، قل له: إذن أنت متفق معي لأنه كل ما ليس مخلوقًا فهو الله...".

وتؤكد المصادر العربية الاهتمام البيزنطي بالثقافة الإسلامية، فقد نقل ابن قتيبة الدينوري في كتابه (عيون الأخبار) عن ابن عباس - رضي الله عنه - قوله: " كتب قيصر إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد فأنبئني بأحب كلمة إلى الله وثانية وثالثة ورابعة وخامسة، ومن أكرم عباده إليه، وأكرم إمائه... فلما قرأ معاوية كتابه قال: اللهم العنه! ما أدرى ما هذا، فأرسل إلى ابن عباس يسأله فقال له ابن عباس: أما أحب كلمة إلى الله فـلا إله إلا الله ـ والثانية سبحان الله ـ والثالثة الحمد لله ـ والرابعة الله أكبر ـ والخامسة لا حول ولا قوة إلا بالله ـ أما أكرم عباد الله إليه فآدم ـ وأكرم إمائه عليه مريم"؛ وأورد المبرد نصًّا لجدل من هذا القبيل بين معاوية وقنسطانز الثاني الذي أرسل إلى معاوية: "بقارورة فقال: ابعث لي فيها من كل شيء، فبعث إلى ابن عباس، وقال: لتملأ له ماء، فلما ورد بها على ملك الروم قال: لله أبوه! ما أدهاه! فقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك؟ قال: لقول الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).

كما تؤكد المصادر اليونانية على الاهتمام البيزنطي بالثقافة الإسلامية وذلك عبر نصوص المراسلات الجدلية التي دارت بين الخليفة عمر بن عبدالعزيز، والإمبراطور ليو الثالث الذي أجاب فيها عن أسئلة الخليفة؛ وعلى سبيل المثال: "...تسأل كيف أمكن لله أن يدخل أحشاء مظلمة وضيقة ونتنة في فرج امرأة؟ وإن شئت أن تفهم فإليك هذا التشبيه: ألا ترى الشمس تنتشر على النجاسة والسبخ والدمن، ومع ذلك فهي لا تتنجس بل تطهر كل شيء، فأحرى بالله الذي خلق الشمس ألا ينجسه مخلوق، فلا تنكر دخول الله في أحشاء البتول مريم".

ويؤكد المبرد في كتابه (الكامل في اللغة والأدب) على هذه الحقيقة حيث أور نص رسالة عمر بن عبدالعزيز إلى ليو الثالث، فبعض ما جاء فيها: "... فقال له ليو: يا عبدالله ما تقول في المسيح؛ فقال: روح الله وكلمته؛ فقال: أيكون ولد من غير فحل فقال عبدالله: في هذا نظر، فقال أي نظر في هذا إما نعم وإما لا، فقال عبدالله: آدم خلقه الله من تراب، فقال: إن هذا خرج من رحم".

ولهذا النص أهمية كبيرة هي أن تاريخ تدوين المصدر الذي ورد فيه يرجع إلى أوائل العصر التدويني، كما أن هذا المصدر هو المصدر العربي الوحيد الذي تحت أيدينا، الذي يروى لنا نص الرسالة الجدلية التي أرسلها الخليفة عمر بن عبدالعزيز مع عبدالله ابن عبدالأعلى إلى ليو الثالث، ويصور لنا هذا النص طبيعة الجدل الذي دار بين عبدالله بن عبدالأعلى والإمبراطور ليو الثالث، ويؤكد هذا النص مجانبة الصواب لما ذكره جيفرى Jeffery من أنه لا يوجد نص عربي للمراسلات بين الخليفة عمر بن عبدالعزيز والإمبراطور ليو الثالث.

وكان من نتيجة ذلك أن الكنيسة البيزنطية في العصر الأموي قامت بتدريس اللغة العربية، لمحاولة قراءة القرآن الكريم لنقض ما اشتملت عليه آياته، وقد برهن الإمبراطور ليو الثالث في مراسلاته مع الخليفة عمر بن عبدالعزيز على أنه كان يجيد اللغة العربية كما أنه كان مطلعًا على القرآن الكريم، وذلك من خلال استشهاداته بآيات القرآن الكريم.

صدى المعارك الحربية في الأدب اليوناني البيزنطي:

لقد كانت الأحداث السياسية والحربية بين المسلمين والبيزنطيين يتردد صداها في آداب الدولتين، ولعل الشعراء والأدباء قد قالوا شعرًا في تلك الحروب، ولكن لم يصلنا من شعرهم إلا القليل نتنسم فيه روائح البطولة العربية الإسلامية في ديار البيزنطيين، و يبدو أن السبب يرجع إلى أن طبيعة العلاقات السياسية والحربية المتبادلة بين الدولتين كان لها دورها الكبير في ذلك، فقد كانت معارك الفتح سريعة، وحركات الاستنفار للحرب كثيرة، الأمر الذي حال دون استقرار المسلمين والبيزنطيين، وألقى على أكتافهم أعباء ثقالاً، ووضع في طريقهم عقبات ومصاعب من أهمها ما تعرضت له قواهم المادية والمعنوية من امتحانات قاسية. هذا، وقد استطاعت حركة الفتوح هذه أن تحشد كل مطامحهم في النجاح والفوز.

على أي حال نستطيع أن نلاحظ الفرحة والفخر بالانتصارات الحربية الإسلامية على البيزنطيين في بعض القصائد للشاعر الأخطل، وهو مسيحي، ويدل هذا الأمر على أن العلاقة مع المسيحيين في دار الخلافة الأموية كانت علاقة تسامح وانفتاح عاش فيها المسيحيون حياتهم وارتبطوا بالمسلمين بعلاقات عمل وعلاقات اجتماعية على المستوى الرسمي والشعبي فانصهر المسيحيون في كيان الدولة ولم يشعروا بأنهم غرباء. ونقدم هنا مثالاً من شعر الأخطل الذي ينوه فيه بانتصارات الوليد بن عبدالملك على البيزنطيين:

 له  يومانِ  يومُ  قراعِ  كبْــشٍ

            ويــوم  يُــس  تـــظــــل بـــه مـــطـيرُ

بكـفّــيـه  الأعــنـَّة   لا  ســــئُـــوم

            قــتال  الأعـجمينَ   ولا   ضـجـــورُ

قتلتَ  الــرّومَ حتى شــذَّ منـها

            عــصـائبُ مــات حـرِّ زُها القـصـورُ

فلو كان الحروب  حروب عـاد

            لـقـام  على  مــواطــنهـا  صــبـــورُ

                          

وقال في قصيدة أخرى:

وَمــا  بَلَغَت  خَيلُ اِمــرِئٍ كانَ قَبلَهُ

                بِحَــيـثُ  اِنتَـهَـت  آثـارُهُ  وَمَـحـارِبُـه

وَتُضحي جِبالُ الرومِ غُبراً فِجاجُها

                بِما أَشــعَــلَـــت غـاراتُـهُ وَمَــقـانِـبُـه

مِنَ  الغَزوِ  حَتّى  اِنضَمَّ كُلُّ ثَميلَةٍ

                وَحَتّى اِنطَوَت مِن طولِ قَودٍ جَنائِبُه

يَمُدُّ  المَدى  لِلقَومِ حَتّى تَقَطَّعَت

                حِبالُ  القُوى  وَاِنشَقَّ  مِنهُ  سَبائِبُه

أما عن الجانب البيزنطي فقد تركت انتصارات المسلمين على البيزنطيين أثرًا نفسيًا شديد الوقع على كتابات رجال الدين البيزنطيين المعاصرين لتلك الأحداث الحربية، ولم نعثر على شعر بيزنطي يتناول هذه الأحداث، وقد قام "ولتركيجي Walter Kaegi " بتجميع بعض مصادر الأدب الديني المعاصر، التي ظهر فيها صدى الأحداث الحربية:

فيقول سيودو ميثوديوس Pseudo Methodius أو (سيودو المزيف)، "من يثرب كان نبع الكوارث، فقد جاء الشيوخ والشباب من الرجال والنساء والأغنياء والفقراء من العرب جاءوا إلينا، بينما نحن نعاني من الجوع والظمأ، كما نعاني من الأغلال الثقيلة، ونخاف الموت، ولم نعد نقدس الصليب، ولم نعد نعمل بتعاليم السيد المسيح، الذي نبأنا بذلك وبأن رجالنا يشردون كالحيوانات في البرية، والمواشي ستموت، وستقطع الأشجار في الغابة، وستذبل النباتات الجميلة التي كانت تغطي الجبال، والمدن الرائجة سوف تهجر غربًا وستؤخذ أقاليمنا، وذلك لأننا نخاف الموت، ولكن الأرض ستكون ملوثة وتنبع بالدماء بعد أن كانت تنتج الخير ".

ويقول يوحنا بن بنكاي Johm Bar Penkaye: "نحن لا نستطيع أن نقول إن المسيح لا يعود إلى العالم مرة أخرى، كذلك كان ظهور أبناء هاجر أمرًا طبيعيًا، ولكن يجب علينا العودة إلى ديننا، ونحن معشر المسيحيين سيرتنا حميدة، ولكي يستجيب لنا ربنا علينا أن نحسن عبادته، ونعمل بوصايا رهباننا ونحترمها، والآن عندما جاء هذا الشعب في قدر الله، وأخذ ممالكنا بالحروب بشكل مخز لنا، والله منحهم النصر علينا، لأنهم عملوا بتلك الكلمات التي كتبوها وأنجزوها: (عشرة رجال يواجهون مائة، وعشرون يواجهون ألفًا). كيف ونحن نقرع بين الناس، ونجرد الرجال بأسلحتهم وتجهيزاتهم، وهؤلاء يحاربون بدون تروس ودروع. إن ما أخذ بالسيف لا يحرر إلا بالسيف، وبعد انتهاء المعارك لا تستخدم الأسلحة، ونحن لا نستطيع الانتصار عليهم بدون عون من الله الذي يقول: (إن نهاية المسيحيين يصنعونها بأنفسهم وبما كسبت أيديهم بسبب أخطائهم وبعدهم عن الدين). لذلك هزمنا وأخذ الأسرى من أبنائنا وبناتنا، ودخلوا في هوان العبودية، وعملوا كخدام لهم، ونحن ركنا إلى اللهو والملذات في أوقات السلم، ولذلك أرسل إلينا الخالق المبدع هذا الشعب المتبربر الذي لم يرقب فينا شفقة ولا رحمة".

هذا، وقد تأثر الفن القصصي الملحمي اليوناني البيزنطي بنظيره العربي الإسلامي.. فمن الثابت تاريخيًا أن العرب أسبق تاريخيًا من البيزنطيين في حفظ وتأليف الملاحم الشعبية الطويلة، فالقصاصون العرب من قبل الإسلام وبعده اشتهروا بحفظهم لأيام العرب وهي كثيرة، وتذكر الروايات أن الخليفة معاوية بن أبي سفيان ومن بعده كانوا يخصصون جزءًا من أوقاتهم لسماع القصص الديني والبطولي المختلـط بالأحداث التاريخية والأساطيـر، بل كانت رواية القصص وظيفة تقف جنبًا إلى جنب مع القضاء والحجابة وغيرها من الوظائف، وكان للامتزاج السكاني بين المسلمين وأهالي البلاد المفتوحة والرومانيين على الحدود بين الدولتين أثره في معرفة البيزنطيين القصص الملحمي الحدودي، هذا علماً بأن أهل الحدود من البيزنطيين كانوا قاطنين من قبل ظهور الإسلام وخلال صراعهم مع الفرس، مما يقوي فكرة أن المسلمين كان تأثيرهم واضحًا على القصص الملحمي والأغاني الشعبية لأهل الحدود من البيزنطيين، وبخاصة وعلى الملاحم الشعبية البيزنطية لأبطالهم الذين لقوا حتفهم في حروبهم مع المسلمين، مثل ملحمة المغامر "ديجينيس أكريتاس Digenis Akritas" وتحي قصته أن والده كان مسلمًا ثم تحول إلى المسيحية، ودخل في خدمة الإمبراطورية البيزنطية، وقام ديجينيس نفسه بغارات سلب ونهب على أطراف الحدود الإسلامية في القرن الثامن الميلادي خارج نطاق الجيوش البيزنطية النظامية، كما ساهم في بعض الأحيان في العمليات الحربية لهذه الجيوش. وتصور هذه الملحمة كثيرًا من الوقائع، وحياة المحاربين على الحدود بين الدولتين. والقارئ لملحمة ديجينيس أكريتاس يجد أنها مقتبسة من الملاحم العربية السابقة عليها وبخاصة ملحمة (عمر النعمان)، خاصة في خطف الفتيات، والمبارزة بين البطل وأقرباء الفتاة، والمبارزة بين البطل والمرأة التي تعشقه، ثم التصالح والدخول في ديانة المحبوب ثم الزواج.. ويؤكد على هذا الاقتباس أن ملحمة ديجينيس أكريتاس تفتقر إلى الترابط الفكري، كما يجد بها فقرات أدبية لا تخدم الفكرة، وإذا قارنا أسلوب الأدب القصصي بالأغاني الشعبية الوارة في الملحمة، نجد أنهما لا يتوافقان كثيرًا، كما نجد أن هذه الأغاني لها شبيهة بها في الأغاني الشعبية، كما نجد التهاون في تركيب العناصر، وضعف الحبكة الفنية. ويؤكد فازيليوس خريستيدس على اقتباس ملحمة ديجينيس أكريتاس من الملاحم العربية فيقول: "إننا لا نستطيع أن نفهم كثيرًا من أفكار ملحمة ديجينيس إلا إذا اطلعنا على مصادرها الأولى الأصلية في الأدب العربي الحدودي، فهي المفتاح الوحيد لفهم ملحمة ديجينيس أكريتاس".

وبناء على ما تقدم يمكن القول بأن من لم يرحل من البيزنطيين واليونانيين في مصر والشام قد لجألوا إلى دراسة المعارف الإسلامية لكي يجدوا فرصة للعمل في دواوين الدولة يستخرجوا منها أدلة يستعملوها في مناظراتهم الدينية مع المسلمين، بالإضافة إلى صدى هزائم الجيوش البيزنطية أمام جيوش الفتح الإسلامي على الأدب البيزنطي، وتأثير الفلكلور الإسلامي على الفلكور الشعبي البيزنطي ممثلاً في ملحمة ديجنيتس إكربتاس.

المصادر والمراجع:

• ابن قتيبة: عيون الأخبار، مجلدان، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة ونشر، القاهرة 1963م.

• المبرد: الكامل في اللغة والأدب، جزآن، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1365هـ/1945ـ1946م.

• الأخطل: شعر الأخطل، نشره أوجينوس فيني الميلاني، مطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين، بيروت، لبنان 1907.

Damascenus. J., De Haerasibus., P.G. M., tome. XCIV., Paris, 1860.

Damascenus. J., Disputatio saraceni et christianio., P.G. M., tome. XCIV., Paris, 1860.

Ghevond., Histoire des Guerres te des Conquestes des Arabes en Armenie., tr. G. V Chahnozarian, paris, 1856.

Jeffery, A., Ghevond’s text of the cerrospanence Between Umar ll and leo lll., in: Har vadrd theological Review xxxvll., 1944.

Kaegi.w : Byzantium and the Early Islamic Conquests, Cambridge: 1996.

Nasralla.j: Saint Jean de Damas. Harissa.1950.

Christides :Arabic influence on the Akritic cycle., in. B., vol.il.Bruxell:1979.


عدد القراء: 1568

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-