الفلسفة في عالم اليومالباب: مقالات الكتاب
د. عارف عادل مرشد كلية الآداب - جامعة الزرقاء- الأردن |
"لا يكفي أن تأتي بالإنسان إلى مدرسة الفيلسوف، بل لابد لنا أيضاً من أن نأتي بالفيلسوف إلى مدرسة الإنسان"
Maurice Blondel (1861-1949)
يتساءل ميشيل فوكو (1926-1984) في أحد نصوصه التي تعود إلى سنة 1967 عن "أي معنى للفلسفة اليوم؟"، وهو سؤال يجيب عنه فوكو بتأكيد أن المطلوب من الفلسفة اليوم "ليس أن تكون قولاً كليًّا في الأشياء"، فتجلي لنا "ماهية الحياة والموت" و"ماهية الحرية"، فادعاء الكلية قد تلاشى اليوم- بحسب اعتقاد فوكو- كي تصبح الفلسفة منشدة أكثر إلى "الراهن".
ويقتضي التفكير في الراهن، طرح أسئلة من قبيل "ما الذي يحدث الآن؟ و"ما هذا الآن الذي نوجد داخله؟" وهو ما يعني إننا إزاء أسئلة حول "الحاضر" وحول شكل وجودنا اليوم.
هذه الأسئلة ليست تمرين ترف فكري، بل هي عملية تتحدى الفرد، وتدفعه للتفكير مليًّا في إيجاد مسارات عبر ظروف الحياة الإنسانية ليس فقط ناحية اليوميات، ولكن أيضًا لأن البقاء في عالمنا الشديد التقلب بات يعتمد وبشكل متزايد على أفكار مدرسة فلسفية جديدة تُعرف بمدرسة "فلسفة التوجه"- وهي تتمحور بشكل خاص حول أعمال البروفسور والفيلسوف الألماني المعاصر فيرنر ستيغماير Werner Stegmaier (مواليد 1946)- وهي مدرسة تطرح أفكارًا مثيرة للاهتمام بشأن الصيغة التي يمكن فيها للفرد- غير المتخصص- الاستفادة من الفلسفة في تحديد توجهات بشأن علاقته الشخصية بالعالم حوله في ظل انعدام اليقين واستحالة توقع المستقبل بأي درجة مقبولة من الدقة.
فإذا كان كل توجه هو في النهاية اختيار بين مسارات ممكنة تحت ظروف حالة معينة، خاصة أو اجتماعية، أو حتى عالمية، فإن "فلسفة التوجه" تعيد تعريف الدور الذي ينبغي للفلسفة أن تلعبه اليوم عبر تقديمها للأفراد غير المتخصصين فرزًا وإعادة نظر في مجمل النتاج الفلسفي المتراكم وتعريفًا بقيمته التطبيقية، بالترافق مع إعادة توجيه بوصلة الممارسة الفلسفية، بعيدًا عن المسائل المغرقة في التجريد بحثًا عن الكوني والنهائي والخالد، إلى ساحة إعانة الأفراد على إدارة موضعهم من العالم، ومنحهم الأدوات للتعاطي مع المؤقت والعابر والمتغير، وتحسين قدرتهم على اتخاذ القرارات في أجواء عدم اليقين الغالبة.
وإذا كان المجال العام الواقعي يشكل بوابة للمشاركة في تفاعلات متباينة الانساق والقوة، فإن الانترنت قد تشكل فضاءً جديدًا يمنح الفرصة أمام تشكيل مجال عام جديد وهو المجال العام الافتراضي. وهو مجال يعتمد على التبادل المجاني للأفكار والآراء بين المواطنين، ويتصف بأنه مجال تفاعلي يعتمد على المشاركة.
وفي ظل هذا التغير تعاد صياغة العديد من التساؤلات مسايرة لهاته التحولات، وتجد الفلسفة ذاتها في هذا المعترك الجديد منتقلة من أروقه المدارس والمعاهد إلى أروقه التواصل الاجتماعي والفضاء الافتراضي بشتى تجلياته. لكن هنا نتساءل عن دور الفيلسوف والفلسفة في هذا الفضاء العولمي والعمومي المغاير.
فما موقع الفلسفة اليوم في هذا الفضاء العولمي؟ هل بإمكان الافتراضي ان يختزل الفلسفي النقدي ويعبر عنه في تجليات عولمية وتحل إشكالاته؟ وما موقع الفلسفة في المجتمعات الافتراضية وما تطرحه من اشكالات ومعالجات؟ وكيف يؤسس العقل الفلسفي لذاته من جديد امام سيطرة العقل الافتراضي؟ ذلك العقل المحكوم والخاضع غالبا في مناحيه الى عالم الافتراض، التقنية، التواصل، فهو عقل عولمي محكوم بلغة العولمة ووسائلها، وهو أقرب ما يكون إلى العقل الأداتي، إذ أن العقل الأداتي هو منطق في التفكير وأسلوب في الرؤية العامة، أي أن العالم الاجتماعي أصبح كالطبيعة غير قابل للتغيير ومستقل عن أفعالنا.
ومن منظور أن الفلسفة خالدة، وأن الفيلسوف ابن زمانه، فإن الفضاء الافتراضي يجسد لوجودية جديدة للإنسان عامة وللفيلسوف خصوصًا، فهو يمهد لفعل وممارسة فلسفية قد تختلف عن نظيراتها، يؤسس لدرس فلسفي جديد مرتكزة العولمي. فمواقع التواصل الاجتماعي تحفل بظهور متزايد وغير مسبوق لحضور النصوص الفلسفية في الفضاء العام، وانتشارًا متصاعد الوتيرة لترجمة مقالات قصيرة من أعمال الفلاسفة الكبار، وعرضها عبر فيسبوك أو تويتر، بالإضافة إلى مشاركة الأصدقاء، بمقاطع فكرية فلسفية، كوسيلة لحضورنا المتخيل على الانترنت.
غير أن على القارئ للفلسفة على الفضاء الافتراضي أن يكون حذرًا حتى لا يقع في سوء فهم لمقاصد الفلاسفة، وتشويه لأفكارهم واختزالها أو توظيفها في ما لا تحتمل خارج سياقها وبيئتها مما قد يخلق صراعًا ومفارقات افتراضية بعد أن كانت في وقت مضى سجالات واقعية، وغالبًا ما تنعكس تلك المفارقات في الحياة الواقعية، كما يتصادم هنا الفيلسوف مع العامي الذي يتلقى الفكرة فيتقبلها تلقائيًا أو يرفضها بشكل مطلق، دون تقصّ أو نقد.
ففي هاته اللحظات يؤسس المسبق والشائع لذاته بقوة، وهو ما يستدعي تدخل الفلسفي وتوجيهه لتدارك ورفع مستوى الوعي، أو إلى نوع من (التنوير الافتراضي) فينتقل بذلك الحوار الفلسفي إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ومختلف الوسائط التكنولوجية في الاتصال. وهو ما يؤسس فلسفة افتراضية رقمية بدل فلسفة واقعية تجسدت في المحاورات الفلسفية في الساحات، في المعاهد والمدارس، فمقابل تلك الأروقة الأكاديمية التي تأسست في زمن مضى، هناك الآن أروقة فلسفية افتراضية تتجسد من خلال مجموعات وصفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبواسطة المجلات الإلكترونية، وقد تتأسس مدارس افتراضيه تشترك في الطرح على شكل مجموعات.
وحتى لا يطغى العقل الافتراضي على العقل النقدي الذي لا يتقبل الحقائق كما هي، فنحن بحاجة إلى الفيلسوف بقدر حاجتنا إلى العالم، بل ربما أكثر نظرًا لأن التقدم العلمي أصبح يسير بشكل ميكانيكي وحيوي ويحتاج لمن يتأمله ويوجهه وجهه اخرى لصالح الإنسان.
فالفلسفة بقدر ما هي مرآة للواقع الحي ومفسرة اياه، كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الألماني الكبير هيجل بقوله: "أن الفلسفة هي عصرها ملخصًا في الفكر"، فهي أيضًا دافعة إلى التطور والتقدم مثلها مثل العلم وان كانت الرؤية الفلسفية للتطور والتقدم الإنساني تتميز دائمًا بأنها تكون في اتجاه تعظيم قدرات الإنسان على اكتساب أكبر قدر من السعادة، تلك السعادة المتوازنة التي تتيح لكل ملكات الإنسان أن تعمل وأن تتلقى نتائج عملها بتفاؤل وبنظرة يملؤها الثقة في مستقبل أفضل للبشر.
وتاريخ الفلسفة هو خير شاهد على أن الفيلسوف كان دائمًا سباقًا إلى اكتشاف نقطة الانطلاق الجديدة لعصر جديد للتقدم البشري؛ فعند الاستعراض لتطور الفكر الفلسفي عبر مراحله الرئيسية، مرحلة الفكر الشرقي، مرحلة الفكر اليوناني، مرحلة الفكر في عصر النهضة والعصر الحديث، ثم الفكر المعاصر، نجد أن الفيلسوف لم يكن يومًا منعزلاً عن واقعه الفكري، فضلاً عن واقعه الاجتماعي والسياسي، وإنما عبر عن كل ذلك وأصبح مرآة له فيما قدمه من أفكار فلسفية جديدة عبرت عن أحلام ورؤى البشر في هذا العصر أو ذاك من عصور التطور البشري. وهو في ذات الوقت رسم لمعاصريه دائمًا الطريق الجديد للنهوض، في الوقت الذي يظنون فيه أنه لم يعد هناك الجديد الذي يطرقونه، وسددت أمامهم الجدة.
تغريد
اكتب تعليقك