لحظة ومض واحدة مع النابالباب: مقالات الكتاب
ضحى عبدالرؤوف المل بيروت |
في رواية الأديب الياس العطروني " الناب" تختلط الأنساب في لحظة ومض اجتماعية لا ندرك خطورتها إلا بعد فوات الأوان، وما بين دار الأيتام ودار الصليب رحلة إنسانية لها اجتماعياتها التي اعتمدت على رصد أفكار اجتماعية لبنانية دخلت الأحياء الشعبية، والتقطت المشاهد الحركية التي استطاعت ادخال القارئ في دوامة كائنات من فضة لها أدوارها ووجودها وواقعها، فهي تشكل وجودًا لبنانيًا خاصًا وتميزًا عربيًا شعبيًا حاضرًا في كل زمان ومكان.
واقعية اجتماعية لها نقطة تقاطع هي دور الأب وعلاقته في تأسيس حياة لها دورها الفعال في حياة الأبناء، فالبذار الصالح في الأرض الطيبة هو أساس بنويوي عائلي له أصوله وأعراقه، فهو يمنح الطفل الإحساس بالأمان والوجود المرتبط مع أفراد العائلة، فالشرخ الاجتماعي يبدأ عند تكسر الخط الدائري للحياة لأن "الدمج القومي" لا يمكنه الحفاظ على الأنساب العائلية فلحظة الومض التي تجعلنا نقترب أو نبتعد عن الآخر هي وليدة أحاسيسنا العاطفية التي تولد فجأة عند حدث معين، فالنضال في الحياة يبدأ منذ لحظة الولادة التي تحدد الهوية الحقيقية التي سنحيا فيها.
ما بين البذار والإيناع والحصاد ثورة باردة تلاءمت مع الفكرة الواقعية التي عايشناها غالبا في قصص مختلفة، لكن معالجتها السردية في رواية الناب جاءت حاملة معها أطياف مختلطة تشبه "تكنو" المختلف، فهو يملك هالة غير مرئية تعمي البصر والبصيرة، وبين" وافو" أو" وفق الله "و"الناب" الذي بقي في الصورة مع صفاء في رمزية توقف عندها الزمن الروائي، ليطرح في ذهن المتلقي تساؤلات لها أكثر من جواب، وجعلني أتساءل كما تساءل الروائي، هل الرواية هي الراحة الناتجة عن البوح كما قال فرويد؟
ربما!. تعلق الأب بالأبنة هو تعلق انساني يتعلق بالمرأة والوطن، وربما سرقة أي حق منهما هو سلب ذاتي لقضية نؤمن بها ، وما زالت داخل جغرافيا الوطن العربي حتى الآن وهي الإنتماء، فالشخصية المحورية في الرواية لها أبعادها الوطنية والشعبية التي جعلتني أشعر بطرقات بيروت وأزقتها، والرغبة في خلق إحساس وطني يرتبط بالأنثى والأنا، والذات في حقيقة لا شعورية لها بعد حسي جعل "الياس العطروني" يفقد السيطرة على النص لأشعر أنني مع الروائي وابنته لا بل كأني مع أبي في حياة لا تخلو من أحلام يقظة لأننا "في الخمسين نمشي على الصراط الدنيوي، هنا وبالضبط يتم اكتشاف المتع العميقة، متع الغور، لا تلك الخلية السرابية الخادعة، رعشة النفس أرعش من رعشة الجسد، قطعة من السرمد الحقيقي، نوع من تجسيده"
تكنيك سردي متواصل سريع في مشاهد لا تحمل خلفيات مكثفة بل تسلط الضوء على الموضوع الأساسي، وهو الحقوق التي تُسرق منا منذ الولادة، ونحاول استرجاعها لكننا نصطدم بالواقع القاسي، وكأن المواضيع الحياتية تتشابه "فهل تكون القضية كمسألة الطبع والتطبيع؟. وهنا اتساءل مع الياس العطروني ما هو دور الأحزاب الفاعلة في حياة الشباب، وأين دور الدولة في حماية شبابها من أن يغرر بهم ليكونوا أداة تخريبية في وطن يجب التمسك به كي لا نفقد الهوية. أم أن الاتجاهات الحزبية التي نتبناها تجعلنا بلا نسب وطني موحد؟.
رمزية واقعية يحاول الروائي من خلالها تصوير حياة نعيشها، ونتعايش معها، بل ونتحدى بها أقدارنا، فالحذر والانتباه والخوف من سرقة البسمة على شفاهنا لا يمنع الأحداث المأساوية التي نتأثر بها اجتماعيًا ونفسيًا، فالبيئة لها الأثر الكبير في حياة الفرد، فهي تقوده غالبًا إما للخير وإما للشر، فالتأثر والتأثير لا بد منه، فمن هو تكنو غير معروف الدين؟. هل هي العلمانية التي تفقد الهوية الأساسية؟ أم هي التكنولوجيا المبنية على جهلنا بالشيء؟
تقول مارت روبير :"إن الرواية في التحليل النفسي هي مجموعة الاستهامات والصور التي يبتدعها الروائي وبها يستعيد، على شكل غير مباشر استيهامات وصور أقدم، كانت في حينها الصدى الأول للرغبات المكبوتة والتعبير الأقرب إليها. وتتكون الرواية أول ما تتكون على غرار أحلام اليقظة، أي بين الحلم والواقع، الوهم والحقيقة، اللاشعور والشعور، الذاكرة الأولى والراهن.. ويبلورها التعبير في نص هو حصيلة إعداد طويل يختفي وراء مسافات من الحجب الكثيفة منها الأسطورة الأسرية الأولى التي يستطيع التحليل النفسي وقراءة اللاشعور وحده كشفها"
وهذا ما ترجمه الياس العطروني في روايته بين الحلم والواقع، فهو قدم رواية أسرية لها نفحات اجتماعية ووطنية أخرجها من الواقع اللبناني بعد أن "تأكد من أنهما عينا وحش كابوسي" فالكابوس الاجتماعي الذي نراه تحت ضوء الشمس هو الحقيقي، وهو ما نعاني منه في مجتمعاتنا التي تختلط فيها التوجهات السياسية والمذهبية والطائفية، بل وحتى الثقافية، وكأنه "ذلك الصراع المرير بين القشرة واللب"
سرد فنتازي ديناميكي اختصر فيه مشاهد عديدة، فاللقطة المشهدية جاءت غير مكتملة أحيانًا بالوصف، وأحيانًا أخرى كانت عين الروائي على تحركاته اقوى ليمسك بانتباه القارئ، ولا يتركه مشتت الذهن في صورة تكثر فيها العناصر الوصفية أو الصور الشعرية فهو حمل مفاهيم نفسية عديدة بدءًا من تعلق الأب بابنته وحنى الكوابيس التي لن تنتهي. فالرواية تعيد قراءة ذاتها اجتماعيًا في كل زمن توقف عنده "الياس العطروني".
تغريد
اكتب تعليقك