قراءة في مجموعة قصصية بعنوان «غريتا» للروائي والقاص «إلياس العطروني»الباب: مقالات الكتاب
ضحى عبدالرؤوف المل بيروت |
الكتاب: "غريتّا"
المؤلف: إلياس العطروني
تاريخ النشر: كانون الثاني/يناير 2015
الناشر: دار غوايات
الرقم المعياري الدولي للكتاب:978-9953-571-10-2
تبدأ القراءة في مجموعة العطروني القصصية، ولا تدرك النهاية حتى بوصولك الى الكلمة الأخيرة فيها، لأنها تشكل باستدارتها البداية والنهاية. ولأن في الجملة القصصية محاور عديدة من الذكريات وصولاً إلى انبلاج الحياة، وحتى السياحة تحت التراب بمزيج غرائبي متمسك بشرقيته، إلى أبعد حدود عالم "غريتا" السمراء التي سألت "والنساء؟ نقربهن بالزواج "، باختزال وتبسيط وبحنكة إنسانية واثقة من ميولها الشرقية التي تفخر بها، فما بين غريتا وغريتا حميمية قاص يشتاق لسرو قريته، وهو ذاك المشرقي القادم من شريط حدودي محتل. عادات وتقاليد يرفضها في بلاد الاغتراب، ويتقبلها في موطنه الذي يزداد له حنينًا، كلما جذبنا نحو عمق أفكاره القصصية الموحية بعهد الدم الملوث الذي أصابه بوباء مميت، فالإيحاءات في القصة ترتبط بالبعد التكويني لبلدين تختلف فيهما العادات والتقاليد، وحتى المفهوم الإنساني المرتبط بدلالات شريط حدودي محتل، وبدوي إسباني متحضر أحبه، لأنه يدرس تاريخ العالم في جامعات النهار، ويمسد جلود الثيران في حظائر المساء، فهل يحاول العطروني استحداث مكونات قصصية ترتبط بالتراث، وبتمسك ذي معنى يستنزف الشكل القصصي المستحدث، ويضعه ضمن مراحل التغيرات التي تطرأ على الإنسان في غربته الداخلية والخارجية.
وعي سردي في "قصة غريتا" ذات البناء الفني المحكم بعناصره القصصية، وطابعها التراثي والرمزي والاجتماعي. إن من حيث التماسك بقضية فروقات الأديان والالتزام العربي بمبادئه الدينية إلى أقصى الحدود، وإن من خلال الذكريات التي يجملها الإنسان في طيات مخزونه النفسي ليحيا اللحظة بقوة تضعه أمام محكمة ذاتية، تتشكل عند أول نائبة جعلته يشعر بأنه "في تفاهة بخار على زجاج"، وضمن هشاشة البخار وقدرته على تغطية نقاوة الزجاج. ليكون هو وغريتا بمثابة عنصرين مختلفين لا يلتقيان. إلا ضمن ظروف باردة وحارة تتعاكس من خلالها كينونة كل منهما. لأن غريتا إسبانية السمرة، حيث لم يكتمل حبها له، لأنه المدافع الأول عن أيام أبيه ومن قبله، وفي هذه صورة العربي المتمسك بأصوله، وبمفاهيم الأجداد منذ الأزل " كنت فقط أدافع عن أيام أبي ومن قبله" وفي هذه خاصية عربية تفيض بالإحساس العربي الأصيل ونخوته، التي لم تنجو من عهد دم قضى على حياته.
يفاجىء الحدث القصصي القارىء في قصة "غريتا" الغنية بعناصر فنية بانورامية ترسم دهشتها على عز فرحهم واحتدام نشوتهم، حيث راحوا يبكون، وما بين التكثيف والاختزال ثمة قصة "ليس فيها روائح البيد، ولا هواء الواحات، ولا حدو الرواحل" فالتداخل والتفاعل الفني يتخذ من الإرهاصات القصصية وجودًا له. إذ يصعب تحديد النهاية ما لم تصل الى السطر الأخير، لتتسارع خطى القراءة ضمن التباطىء المبني على فهم الرموز في لعبة انتهت بغرز "السيف الرفيع في مقتل الثور المكتئب" الذي جعله يتذكر شعبه المحب الذي "لن يقف يومًا بمجمله ليشمت بمقتل ثور" فالتلميحات المبطنة في أعماقها تحمل صورًا أخرى عن العهود المتينة وأواصر الميثاق الغليظ الذي لا ينساه العربي مدى الحياة. ليصعب تحديد الزمن لأن الماضي هو الحاضر بقوة، والمستقبل يحمل سياحة جسد تحت التراب، فهل تمكن القاص والروائي "إلياس العطروني" من اختصار حكاية الشرق والغرب في عهد دم مزج بين اثنين مختلفين وبلدين لكل منهما خاصيته الاجتماعية؟
نعيش الطفولة والشباب في زمن الكهولة ونوائبه التي جعلته يرى بلاده وقد تخشبت سحنتها، ليفصل بين أيام صغره القريبة والبعيدة جدارًا فاصلاً من الندم على عهد دم أقامه كي يحافظ على مفاهيمه الشرقية، التي تمنعه من إقامة علاقات غير شرعية مع امراة أجنبية، لا تنتمي إلى أصوله المشرقية أو الدينية. لكنه لم ينجو من شرور بلاد غزاها الفساد، وتسرب إلى دمه. لأنه استخدم دواء لعدم الفراق سمعه من والدته، التي سمعته من والدتها التي سمعته من..."أجرح إصبعي وتجرحين أصبعك، نلصق الجراحين، يتحد دمي ودمك، يصبحان دمًا واحدًا..وهذا في عهد الدم" عهد زاد في اضمحلاله مع الثواني والدقائق، ولم ندرك إنه السيدا الذي أصابه بمقتل، كما أصاب الثور السيف الذي انغرز في مقتل نبع منه خيط دم رفيع يشبه ذاك الخيط الذي صهر دمه مع دم غريتا.
قصة حملت مؤثراتها قوة نفسية على القارىء. إن بتناصها ورؤيتها وموضوعيتها الفنية ذات القدرة على ربط الصور الحركية، المترائية أمام القارىء، وكانه الثور الذي أصاب الحضور بالنحيب المشابه لنحيبه، ونحيب "غريتا" وإن بالواقعية التي تخيم على الحدث ضمن المواقف الإنسانية المحاكية، لشعور ذاك المشرقي الذي حدد صفاته بالآتي من شريط حدودي محتل. ليستمد المكان وجوده الزمني ضمن فترة عمرية مضت حملت معها الذكرى بمرارتها مستعرضًا مشهدًا تلو المشهد حيث تتشابه الومضات في الذاكرة التي تنجلي أمامها التفاصيل الغائبة عن لحظة الماضي والتي انكشفت فيما بعد ولكن بعد فوات الآوان.
أيديولوجيا قصصية بدأ بها العطروني قصته عبر النص الصادق بتأثيراته الغير مباشرة على المعاناة التي تتسبب بها عهد الدم، وهو الذي ترك غريتا لأنها ليست على دينه وتراثه وقيمه التي يحملها في دم أفسدته مشاكسة طفولية منحت القصة بعدًا آخر لمفهوم مرض السيدا لمن يصاب به ببساطة وتلقائية وبراءة. لأن في سؤالها له عن النساء الجواب الشافي "نقربهن بالزواج" وهذه نقطة فاصلة لا نقاش فيها تشير إلى المبادىء التي يحملها في جذوره الضاربة بعمق الحياة، وبالقضايا الأساسية التي نشأ عليها، فالقصة ذات تكنيك فني اجتماعي لعبت الحداثة القصصية دورًا فيها ضمن الاختزال والرمز والالتفاف وراء المعنى، والربط بين الصور ببراعة قاص لم ينجرف وراء عالمه السردي. إنما توقف بضراوة عند الإنسان المتمسك بأصوله وتربيته ونبل عواطفه ومشاعره فهو لم يصطنع شخوصه إنما استخرجهم من مخيلة الذاكرة وهو في طريقه للسياحة تحت التراب ضمن معنى محفوف برحلة حقيقية ينتظرها بعد مأساة تفوق مأساة الهجر، ليقول. "هذه البلاد ليست بلادي الآن، وبلادك ليست بلادي أيضًا، لا بلاد لي".
شخصية قصصية مثقلة بالمبادىء التي تميز بها المشرقي بكل عنفوانه وشهامته، وقدرته على تخطي المحرمات بأنواعها، ورغم كل هذا يصاب بمرض لا ناقة له فيه ولا جمل. إنما مفارقات في أحداث مجللة بالأسى تتصف بالموضوعية، وبفلسفة أخلاقية واعية في سلوكياتها لتؤدي دورها ضمن النسيج القصصي المحبوك بحنكة قلم بحث عن لحظات إنسانية جمعت بتأويلاتها المخاوف اللاشعورية التي أظهرها عندما تمسك بياقة قميص الطبيب. إذ يعتمد على الرؤى السيكولوجية والواقع المأزوم والتهويمات ذات الجوهر المجازي المتسم بخصوصية السرد الداخلي المبطن بدينامية الحداثة القصصية.
تغريد
اكتب تعليقك