الاستعارات الافتراضية وتحوّل القيمالباب: مقالات الكتاب
د. ميلود عرنيبة دكتوراه في النقد الأدبي - كلية الآداب - مراكش، المغرب |
تقديم: الثورة الرقمية أو العالم في اليد
انتشرت التقنيات الرقمية خلال العقدين الأخيرين بشكل سريع ولافت، وبات الخبراء يتحدثون عن العصر الرقمي وآفاقه وتأثيره في مختلف مناحي الحياة. فأحدثت هذه "الثورة الرقمية" تغييرًا بينا في العالم، لم تقتصر آثاره على مجالي الصناعة والمعرفة، ولكنها تعدتهما إلى حيز الأخلاق والقيم، فأدى ذلك إلى تحولات عميقة وخطيرة في هذا المجال، سببها الأساس هو أن هذه الثورة خلقت عالما آخر افتراضيًا يتيح إمكانية التخفي والتواري والتقمص، موازيًا للعالم الحقيقي الفاضح والمعرّي. فللعالم الافتراضي قيمه وأخلاقه الخاصة، التي من الصعب احتواؤها والتحكم فيها، بالنظر إلى هذا التوسع الذي عم في منطقة زئبقية أكثر شساعة، لم يعد بمقدور أي متدخل، سواء أكان فردًا أو جماعة، أن يمعلم خريطتها.
ومما زاد الوضع انتشارًا أن قد أتاح التطور التكنولوجي لمستعملي الأجهزة الالكترونية الذكية إمكانية حمل عوالمهم الافتراضية هاته أينما حلوا وارتحلوا، فصار لكل واحد عالمه يحمله بين يديه؛ يلجه متى شاء وأنى شاء بضغط على الشاشة: في المقهى، وفي وسائل النقل العمومي، وفي قاعات الانتظار، وعلى موائد الأكل، وفي البيت، وقاعات الاجتماعات؛ بل وحتى في قاعات الدرس، وغرف النوم، وفي أكثر الأماكن قداسة؛ من مساجد ودور العبادة وغيرها من أماكن التعبد، إنها فعلاً "حمى الاتصال"2 كما وصفها أحد الباحثين.
هكذا صار الناس يجتمعون وكأنهم ما اجتمعوا؛ تراهم أجسادهم مجتمعة في فضاء مكاني، وأذهانهم هائمة في فضاءاتها الخاصة، كل منكب على هاتفه المحمول يدفن فيه وجهه مبحرًا في عالمه الخاص، هذا العالم الذي صار يزاحم العالم الحقيقي، فتوزعت حياة كل فرد إلى حياتين، تميل الكفة فيهما عند فئة عريضة إلى الحياة الافتراضية، حتى بتنا نرى أشخاصا في وضع "online" أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين، قد يصبر أحدهم على الجوع والعطش ولا يصبر على نفاد الرصيد الذي يضمن اتصاله بالنت، وصار هذا الأمر من مظاهر مواكبة الحياة العصرية؛ لذلك فإن غير المستخدمين للنت "يعانون دائما نقصا وعدم رضا عن النفس، ويشعرون بالنقص أمام الخطابات الإعلانية حول وسائل الاتصال الحديثة"3 ، والتي باتت تمجد هذه الوسائل وتعلي من قيمتها بشكل مغرض تمّحي أمامه كل مقاومة.
لقد أصبحت الهواتف النقالة بمختلف أنواعها وما تتطلب من لوازم من قبيل الشاحن والرصيد الذي يتيح الربط بشبكة الانترنيت من ضرورات الإنسان المعاصر التي لا يمكنه، كما يتوهم، الاستغناء عنها، يحرص على تأمينها وتفقدها في حركاته وسكناته، ربما أكثر من حرصه على أوراق هويته. حتى بتنا نتساءل: هل حقًا نحن من يحمل الهاتف أم الهاتف الذي يحملنا؟ وهل نحن من يتحكم فيه أم هو الذي يتحكم فينا؟
وأتاح هذا الوضع للإنسان المعاصر إمكانات هائلة للاستفادة وتحصيل المعلومة والاطلاع على الخبر في مختلف المجالات ومشارب المعرفة الإنسانية، وتكوين تعارفات وصداقات مع مختلف الأجناس... لكن، وللأسف، هذه الاستفادة لم تكن لتتم بدون ضرائب وفواتير تقتطع من الرأسمال القيمي وعلاقاتنا الاجتماعية والعاطفية وهوياتنا. ولعل أبرز مظهر بات يهدد هوياتنا وعلاقاتنا التواصلية في زمن الثورة الرقمية الهائلة هو هذه "الهويات المزورة" التي تملأ فضاءات التواصل الاجتماعي؛ هويات قائمة على الاستعارات بالمفهوم الموسع للاستعارة؛ استعارة الأسماء والصفات والصور والأفكار والمواقف...
1 - صور استعارة البيانات الشخصية (profils) (الهوية الحقيقية/الهوية الافتراضية)
أ- استعارة الأسماء
إن الواقع الحقيقي لإنسان هذا العصر، ولا سيما في المجتمعات العربية السائرة في طريق النمو، هو واقع الأعطاب والإكراهات بمختلف أنواعها، يصطدم فيه الأفراد بمجموعة من العقبات تحول دون أن يحققوا أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم التي أصبحت ترفع سُقفها بشكل مفرط نتيجة المقارنة الانبهارية التي أتاحها التطور التكنولوجي بين عالم الغرب المتقدم ماديًا، وعالم الشرق المتأخر على هذا المستوى؛ لذلك تجد الناس يفرون من هذا الواقع الذي لا يلبي حاجاتهم إلى الواقع الافتراضي، إذ أن كل ما هو ممنوع وممتنع ومستحيل التحقق في الواقع الأول، هو ممكن ومتاح في الثاني. لذلك تجد بعضهم يستعير اسمًا، يتخفى خلفه لتحقيق مآرب شخصية وحتى يتمكن من الانفلات من عيون المجتمع الواقعي، فتصبح الاستعارة بديلاً للوضوح خوفًا من المتابعة والرقابة الاجتماعية، وهروبا من الذات الواقعية إلى ذات غريبة متخفية وسرابية"4. فالهوية الحقيقية للفرد أصبحت حبيسة الأوراق الرسمية، وفي الغالب لا يعرفها أغلب الناس بها، في حين أنه اختلق هوية أخرى باسم مستعار يتيح له، كما يظن ويتوهم، الحرية التامة في مشاركة كل ما يشاء على صفحته الشخصية دون تحرج. والغريب أن رواد هذا العالم الافتراضي سرعان ما تآلفوا مع هذا الوضع وألفوه، "وكأن في الأمر توافقًا خفيًا على التواصل مع المجهولين المقنعين بالصور والأسامي المستعارة"5.
ويزداد الأمر خطورة عند المرأة إذ تسمح هذه الاستعارة الاسمية للفتاة "الملتزمة" أو المنتمية إلى أسرة محافظة أن تمارس حرية مزعومة - إذ لو كانت حرية حقيقية لأتتها علانية - هي الأخرى، في مشاركة ما تشاء مع من تشاء بعيدًا عن رقابة الضمير الجمعي والحدود الأخلاقية التي تسطرها أسرتها والقواعد الدينية والأعراف الاجتماعية. والشيء نفسه قد يحدث مع أفراد الأسرة أيضًا، ولعل من المضحكات/المبكيات التي يتكرر تداولها، أن يقيم الأب، باسم مستعار، علاقة صداقة مع بنته أو أحد أفراد عائلته، باسم مستعار هو الآخر، وربما تتطور هذه العلاقات إلى ما لا يحمد عقباه أخلاقيًا، دون أن يدري أي طرف بالموضوع، وربما نتج عن ذلك فضائح أخلاقية مذوية تنسف قيمة الأبوة وتنزع عنها رداء النموذج والاقتداء. بل قد يكون ذلك سببا في الطلاق وضياع الأسر.
ومن أخطار الأسماء المستعارة أنها قد تكون مدخلاً للنصب والاحتيال والتزوير عندما يتعلق الأمر باستعارة أسماء مؤسسات أو أشخاص معتبرين، ذوي مناصب ومكانات اجتماعية مرموقة أو علامات تجارية ذات حضور بارز في عالم المال والاقتصاد، ولعل بحثًا في حيز الصداقات على الفيسبوك مثلاً، باسم معروف لشخص معتبر قد يسفر عن نتائج عديدة بالاسم نفسه، وقد سبب ذلك مشاكل جمة نتجت عنها أضرار مادية ومعنوية جسيمة، اضطر معها بعض المتضررين إلى تمييز صفحته والتذكير في كل مرة وحين بحسابه الرسمي تفاديًا لكل تشويش محتمل.
وقد تكون هذه الاستعارات الاسمية مدخلاً للاختبار والاستدراج، فتجد إناثًا بأسماء ذكورية، وذكورًا بأسماء أنثوية، يقيمون علاقات صداقة متقنعة إما مع أقرب الناس إليهم لاختبار إخلاصهم في حبهم ووفائهم لهم، وإما مع أعدائهم للإطاحة بهم، وخصوصًا في الجانب الأخلاقي، ثم استفزازهم فيما بعد وتهديدهم، وهذا ما دفع بالمسؤولين القانونيين إلى التفكير في إيجاد حلول لهذه المعضلات، مما أسفر عن مفهوم "الجريمة الالكترونية" التي استأثرت في السنوات القليلة الأخيرة باهتمام رجال القانون في محاولة لضبطها وسن القوانين الداعية لردعها والحد منها.
ب- استعارة الألقاب
ومن الاستعارات التي تدخل ضمن البيانات الشخصية استعارة الألقاب بحثًا عن علامات التميز وإظهار إنتاجات الذات؛ ذلك أن الألقاب تنتشر بشكل هستيري عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فهذا يطلق على نفسه الخبير وما هو بخبير، وذاك أستاذ وهو ما ولج معاهد التكوين التربوي قط، وهذا فقيه يفتي في الحلال والحرام، وما درس الفقه ولا جلس مجلس تعلم، وتلك قارئة فنجان وخبيرة بعالم الجن وما هي من ذلك بشيء، وآخر مدرب في التنمية الذاتية، وهذا أو تلك خبيران في التغذية، والآخر راق قاهر للجن، وهذا الكاتب الكبير، وذاك الشاعر الفذ، وغيره ناقد حصيف وهلم جرة كوارث تترى... كل يعيش وهمه الخاص. والغريب أن هؤلاء يتلقون التشجيع الذي يزيدهم إيغالاً في توهماتهم، من خلال الكم الهائل من "الجيمات" و"اللايكات" والمشاركات التي يتلقونها، وتحوز عليها منشوراتهم، من قبل مرتادي هذه الفضاءات، فيصنعون نجوميتهم الخاصة، وزعاماتهم بأبسط السبل وأيسرها، وبين عشية وضحاها يتحول الواحد منهم إلى شيخ مريدوه وأتباعه بالآلاف. يخوض في الحديث عن كل شيء وعن لا شيء ويعلق على الأحداث بمختلف مشاربها، السياسية والاجتماعية والرياضية والفنية...
وقد أحدث هذا التهافت انقلابًا في منظومة القيم، فبتنا لا ندري ما الذي تعنيه كل من قيمتي الحب والإعجاب، فإذا كان الحب كما في لسان العرب: نَقِيضُ البُغْضِ. والحُبُّ: الودادُ والـمَحَبَّةُ، فإنه في الفضاء الافتراضي تجاوز هذا المعنى، وربما إلى حد المناقضة، فالتعبير بـ "j’aime" أو "like" يتم عن الأشياء الجيدة وغير الجيدة على حد سواءً؛ بل إنه قد يتم على أتفه الأشياء بكميات هائلة تتجاوز الآلاف أحيانًا إن لم نقل الملايين، والشيء نفسه يقال عن "partager" أو التقاسم، إذ الأشياء التافهة أو المثيرة للجدل أو التي تمس خصوصيات الآخرين وأعراضهم يتم تقاسمها وتبادلها كما تشب النار في الهشيم. وإنه لانقلاب خطير في هذه القيم، إذ صرنا نستعير قيمة الإعجاب، التي وضعت في أصل اللغة لروعَةٌ تأخذُ الإنسانَ عند استعظام الشيء، للسخرية والتهكم أحيانًا، وأحيانا أخرى لتشجيع التفاهة والنماذج السيئة عن قصد، وأصبحت الشهرة تقوم على أسس غير تلك التي ألفناها في العالم الواقعي؛ إذ يكفي أن تنهج "سياسة خالف لتعرف، وتجرأ لتشتهر".
وقد يبدأ أمر الاستعارة هذا بالفضول واللعب والاستكشاف والتجريب، لكنه لا يلبث أن يتحول فيما بعد إلى خطورة كبيرة تهدّد الأفراد والمجتمعات معًا، وشبكات توقع بالضحايا جملة وتفصيلاً، وما نعيشه اليوم في المحاكم من جرائم الخيانة الزوجية، والانفلاتات الأخلاقية في صفوف الأشخاص المعتبرين اجتماعيًا، والرموز السياسية والدينية، يعود في أغلبه إلى هذه الاستعارات التي لجأ إليها بعضهم عن سبق إصرار وترصد.
وهناك استعارة ألقاب ذات صبغة أخلاقية، يحاول من خلالها الفرد المستعير أن يكشف عن أخلاقه المتزنة والملتزمة، لأغراض في نفسه، فتجد منها مثلاً "الفتى المهذب"، "مُحبّة الخير"، "أمة الله"، "يكفيني زوجي"، وألقاب أخرى تحيل على الحزن والمعاناة، تثير كل متصفح حزين هو الآخر، أو يدعي أنه يرفع الحزن عن المحزونين من قبيل "تناهيد القلب"، "أسيرة الحزن"، "عازف على أوتار الحزن"، وألقاب أخرى تحيل على الحب وتنطوي على عباراة الإغراء والمراودة، وفي الغالب تكون مصحوبة بصور مثيرة من قبيل: "ساحر العيون"، "وردة الأمل"، "حورية العين"، "همس الحب"، "قمر الليل"، وغيرها من الألقاب.
ج - استعارة الصور
ومن الاستعارات المنتشرة في الفضاء الأزرق استعارة الصور، فالفتى يستعير "لبروفيله" إما صورة مغنّ أو بطل بجسد مفتول العضلات وتسريحة شعر مميزة، والفتاة تستعير صورة فنانة أو جسد مكتنز أو ممشوق القوام، وأحيانًا يتم فبركة صورة عبر الفوتوشوب تجمع وجه المعني بالجسد الذي يريده صاحب البروفيل، هذا الجسد الحلم الذي حُرمه في الواقع، أصبح بإمكانه امتلاكه افتراضيًا، فترى الجيمات واللايكات وتعاليق الإعجاب والتنويه تتقاطر عليه. وبعضهم الآخر، وخصوصًا في صفوف الإناث، تركز عبر تقنية "الزوم" على جزء أو موضع من الوجه أو الجسد، وفي الغالب يكون هذا الجزء مثيرًا، إما العيون، أو الفم، أو الصدر أو الخاصرة أو الأيادي المنقوشة بالحناء أو الأظافر المطلية بالصباغة، وأحيانًا يتم عرض الجسد مع تغطية الوجه بشكل لا يعدم رمزية وإيحاء وهو شكل "قلب أحمر".
إن هذه الصور التي ينخدع وراءها الأصدقاء الافتراضيون لا وجود لها في الواقع، وإنما هي مستعارة لحاجات في نفوس أصحابها، تتراوح بين ما هو مادي وما هو معنوي، تجعل ذويها يعيشون نوعًا من التوهم والوهم والاستيهام، ويعيشون جنون الانخداع بالذات، يكفي الواحد منهم أن يعيش بهذه الجيمات واللايكات والإعجابات والتعليقات ليحسّ السعادة الكاملة، حتى وإن كان واقعه مرًا، ووضعه فيه مأساويًا.
وإذا كان هذا النوع من الأفراد يستعير ما يكمّل به جسده الناقص، فثمّة نوع آخر يتنكر لجسده كلية ويستعير جسدًا آخر جاهزًا، فتجد من يستعير صورة لاعبه المفضل من المشاهير كأمثال رولاندو وميسي وغيرهما، وهناك من يستعير صورة زعيمه السياسي الذي يتبنى أفكاره ومبادئه الثورية، وهناك من تستعير صورة مغنية مشهورة أو ممثلة هوليودية أو ملكة جمال أو عارضة أزياء، وأحيانًا يتم التواطؤ على استعارة صورة شخصية إما للتعاطف معها، أو المطالبة بها في مسؤولية من المسؤوليات، أو لرفع الظلم عنها، وتكون صورتها مصحوبة بعبارات من قبيل: "كلنا فلان/ة"، أو "فلان/ة يمثلني/تمثلني"، أو في حالة العكس عندما يتم رفض شخصية ما تتم استعارة صورتها من قبل الشريحة الرافضة ولكنها تكون مشطوبة بعلامة حمراء، ومصحوبة بعبارات من قبيل : "هذا الشخص لا يمثلني".
وإذا كانت استعارة الوجه في الواقع سلوك مذموم، وذو الوجهين يعتبر منافقًا يحذر المجتمع من رفقته والتعامل معه، لأنه مبعث للريبة والشك ومدعاة لقطع التواصل، فإنه في العالم الافتراضي أمر مقبول يتواطؤ عليه مرتادو هذا الفضاء الذين لايهتمون بالأقنعة المستعارة، ولا يأخذونها بعين الاعتبار في تواصلهم وإقامة علاقات صداقة بينهم، وهذا انقلاب واضح في قيمتين أساسيتين هما قيمة الصدق التي هي ضد النفاق، وقيمة الصداقة التي تفترض، كشرط أولي وأساس، معرفة الصديق معرفة حقيقية واختباره قبل عقد علاقة صداقة معه.
د- استعارة الأفكار والنصوص
من الاستعارات الرقمية الذائعة الانتشار اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي استعارة الأفكار والمبادئ والأقوال والنصوص، وهي استعارات، في أغلب الأحوال، لا تراعي أبدًا مبدأ الأمانة العلمية، في نسبة القول لقائله، والفكرة لصاحبها. ولكنها استعارات تتحقق عن طريق خصائص تسهيلية تتيحها الشبكة العنكبوتية، تقوم أساسًا على آليات القص واللصق والتحميل والتقاسم والرفع، وهي آليات تسمح لكل فرد أن يتبنى من الأفكار والأقوال ما يشاء، دون أن يكلّف نفسه عناء رد نسبة هذه الأشياء إلى أصحابها إلا في النادر من الأحيان، كما هو الحال مع بعض الفئات المثقفة فعليا، وفي بعض الأحيان نجد فقط عبارة "منقول" أسفل المنشور دون أن تحيل على مصدر النقل.
فإذا كانت هذه الأمورة مدانة في الواقع، تحت ما يعرف بالسرقات العلمية، التي يعاقب عليها في بعض الأحيان زجرًا وتأديبًا، فإن الأمر في العالم الافتراضي بخلاف ذلك، إذ لا اعتبار فيه لقيمة الأمانة العلمية، وهكذا ظهر متفلسفون لا علاقة لهم بالفلسفة، ومتفيقهون لا صلة لهم بالفقه، ومتشاعرون يفتقدون الذائقة الشعرية، وبالجملة برز أشباه كتاب أساؤوا إلى حقل الكتابة وأفسدوه، حتى بتنا نفتقد قيمة الأصالة في الإبداع، فطغت النماذج التافهة، وظهرت أجناس جديدة تدّعي الانتساب إلى دوحة الأدب، بينما لا تراعي القيم والمبادئ الأدبية في شيء.
2 - استعارات العالم الافتراضي وأوهامها
أ- الاستعارة ووهم التواصل أو حقيقة اللاتواصل
هل فعلاً تمكن استعارات العالم الافتراضي من التواصل؟ إن وضعنا، في ظل هذه الثورة الرقمية المكتسحة، أصبح يتخذ في بعض الأحيان طابعًا هزليًا وسخريًا، ترى الجماعة تجتمع فتكتفي بتبادل تحية مقتضبة، وأحيانا تستغني عنها، ثم يأخذ كل واحد منهم في الحديث إلى هاتفه، أو ترى بعضهم يسير في الشارع أو يتوقف في ركن من أركانه ليكلم نفسه، غير آبه بمن حوله؛ يضحك، يبكي، يشتم، يقهقه... دون أن يولي أهمية للعالم الحقيقي الذي يوجد فيه، إنه الحضور الغائب6، حضور بالجسد وغياب بالذهن والوجدان، ومن المعلوم أن الحضور الجسدي وحده لا يكفي للتواصل.
هذا الوضع يجعلنا نتساءل مع عبدالسلام بنعبد العالي: هل نحن هنا فعلا أمام رغبة حقيقية في التواصل والاقتراب والاتصال، أم نحن، على العكس من ذلك تمامًا، أمام سعي دائب وراء الهروب والابتعاد والانفصال؟7. هاهنا قيمة أخرى تتحول، وهي القيمة المتعلقة بمفهوم القرابة؛ إذ لم يعد القريب هو أحد أفراد العائلة أو الجار أو ابن الحي والمدينة أو القرية، ولكن القريب اليوم هو البعيد، هو ذلك الذي يوجد في مدينة أخرى، أو ينتمي إلى دولة أخرى؛ انتماءً حقيقيًا أو وهميًا. إننا إذ نريد أن نقترب فإننا نبتعد، وإذ نرغب في أن نحضر فإننا نغيب، وإذ نسعى إلى أن نتواصل فإننا نتقاطع، وما هذا السعي الدؤوب إلى التواصل وتكثير الأصدقاء إلا علامة على افتقاد إنسان هذا العصر إلى التواصل في الحقيقة؛ فهو "إن كان يسعى دومًا للاتصال بالآخرين فلأنه لم يعد يتواصل معهم قريبين كانوا أم بعيدين عنه"8.
ب- الاستعارة ووهم التحرر أو حقيقة العبودية
إن رواد العالم الافتراضي يلجؤون، في الغالب، إلى الاستعارة بحثًا عن الحرية التي يفتقدونها في العالم الحقيقي، هذا العالم الذي يمارس رقابته بلا هوادة على السلوكيات والتصرفات محاولاً صيانة ولملمة أشلاء ما تبقى من قيم العفة والأخلاق السوية، والوقوف في وجه السلوكات المتسيبة والشاذة. ولذلك يستعير الأفراد ذوات وهويات أخرى تمكّنهم من الإفلات من الرقابة. فإذا كان العالم الحقيقي مسيّجًا بالقيود؛ قيود الدين، والعرف، والتقاليد، والقوانين... فإن العالم الافتراضي بدون قيود أصلاً. لكن ما المعنى الحقيقي لقيمة الحرية؟ أليس هو أن لا تخضع لأي سلطة؟ وهل هذا ما يقع فعلاً في تعاملنا مع العالم الافتراضي؟ ألم نصبح عبيدًا لهواتفنا، هي التي تتحكم فينا لا نحن من يتحكم فيها؟ من يستطيع أن يخلو بنفسه يومًا كاملاً أو نصف يوم، على الأقل، دون هاتف؟ أليس هذا العالم يسلبنا حريتنا في أن نعيش بدون قيود ويستبدل قيود الواقع بقيوده هو؟ إننا نقع ضحية الأسر من حيث نريد أن نتحرر، ونسقط في شراك الوهم من حيث نريد أن نحلّق عاليًا. ولكننا لا نفطن لهذه الخدع، لسبب بسيط هو أننا دخلنا في حالة من التنويم الرقمي الذي جعلنا ننغمس في العبودية الطوعية9 لأجهزتنا الذكية، فنتوهم أننا لا نستطيع التخلي عنها للحظة، وهذا سلب لحريتنا في العيش ما بعده سلب.
ج- الاستعارة ووهم الخصوصية أو حقيقة الانكشاف
كثير من رواد العالم الافتراضي يثقون فيما يروّجه هذا العالم من حفظ لمعطياتهم السرية وبياناتهم الشخصية، فترى الواحد منهم يتخذ لحسابه الخاص أو هاتفه رقمًا سريًا، وبريدًا الكترونيًا، واسمًا مستعارًا، ويظن أنه بهذه الإجراءات يكون في مأمن تام من الرقابة والتجسس اللذين يواجه بهما في العالم الواقعي، ولكن الحقيقة أن الأمر على غير ما يتوهم، فالمتصل بالأنترنيت اليوم كمن ينشر غسيله في سطح مكشوف. فبإمكان التكنولوجيات الرقمية أن تشكل آليات تسهل الكشف للعديد من المعطيات الشخصية، وبالتالي فإن إخفاء الاسم الذي يختفي خلفه المرء ما هو إلا خدعة يعيشها يمكن كشفها بسهولة تامة، كما أن حماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية مجرد وهم ليس إلا. فقد بات من السهل تتبع مساراتنا فيما يتعلق بالإبحار عبر الشبكة، وأنماط اتصالاتنا بالآخرين، ففي كل مرة نلج هذا العالم نخلف أثرًا افتراضيًا قد يكون مصدر إدانتنا ومتابعتنا. وهكذا أصبح الانترنيت وسيلة للتجسس واستراق النظر.
وقضية البرنامج الأمريكي للمراقبة الالكترونية PRISM التي تفجرت في أكتوبر 2013 وبينت للجمهور الفرنسي الأخطار المحتملة للثورة الرقمية، خير ما يستشهد به في تأكيد هذه الحقيقة. بالإضافة إلى ما يتداول في هذا الفضاء الافتراضي نفسه من اختراق للحسابات الخاصة، والتشويش عليها، ونشر ما يسيء فيها، بل إن ما يسمى "بالهاكر" بات يلج حتى أكثر الحسابات سرية. كل ذلك يبدّد الأوهام السالفة ويؤكد حقيقة واحدة هي أننا أمام عالم مكشوف افتقد فيه مفهوم الملكية والخصوصية، وهذا ما جعل بعض الخبراء يلفتون الانتباه إلى أننا بدأنا نلج شيئًا فشيئًا في عالم خطير؛ "عالم الشفافية والاستعراض وكشف المستور أو الاستغلال المكثف لخصوصيتنا"10.
الخاتمة: خطر الاستعارات الافتراضية
من المؤكد أن الاستعارة، في أصلها اللغوي، ادعاء وكذب، سرعان ما تم التكيف مع هذا التوصيف وقبوله، وأخشى ما يخشى هو أن يتم التعامل مع استعارات الثورة الرقمية بالمنهج نفسه، فيقبلها الناس؛ "إذ يركب الفعل الاستعاري مطية الأكاذيب والحيل والتضليل"11، فيتحول مجتمعنا إلى مجتمع الكذب والتزوير والهويات الضالة والمضللة. وهكذا تصبح الهوية الرقمية هوية مرنة قابلة للتشكل وإعادة التشكل بشكل سريع، أو بمعنى آخر يصبح النفاق سلوكًا مألوفًا، يُفتقد معه جوهر الإنسان وحقيقته.
إن هذه الاستعارات تمكن من الانتماء إلى عالم يسمح بالتواري المزعوم أكثر مما يكشف، ويتيح الكذب والتزوير والسرقة والابتزاز، عالم لا تمييز فيه بين الواقع والوهم، والحقيقي والخيالي، عالم أصبحت فيه القيم التواصلية تقبل التقنع الذي لا يُقبل عادة في العالم الحقيقي. وهنا يصبح التموقع الاستعاري ذا أثر سيء، يشكّل خطرًا حقيقيًا على المجتمع المعاصر، ولا سيما "عندما تحكمه قيم المكر والكذب والخداع والاستدراج"12.
كما أن هذه الاستعارات أضحت وسيلة لتحقيق غايات ومنافع شخصية بطرق ملتوية تتعارض مع مبادئ الجودة والمنافسة الشريفة والاستحقاق وتكافؤ الفرص، وغدت أداة للهروب من الواقع وإكراهاته ورقاباته، والتملص من قوانينه وتبعاته، وإطلاقًا حقيقيًا لمختلف نوازع الشخصية، دون مراعاة لأي ضوابط أخلاقية.
إننا أمام استعارات تكشف تصدّع ذواتنا وشرخها؛ إذ تتحول إلى ذوات مرضية انفصامية، بهويات متعددة، حتى إننا لنكاد أن ندخل مرحلة انقطاع انثربولوجي وثقافي في مجتمعاتنا13، قد يؤدي، لا قدر الله، إلى نسيان ذواتنا الحقيقية، أو لربما نسيان جزء من تاريخنا.
والسؤال المطروح هو من المسؤول عن تكريس هذا الوضع؟ أليس الإنسان نفسه عمومًا؟ والمسؤولون بشكل خاص؟ أليس الواقع بكل تناقضاته وتمايزاته وفوارقه الاجتماعية؟ إن دلالة هذه الاستعارات هي أنها بحث دائم عن اعتراف الآخر، هذا الاعتراف الذي يغيب في عالم الواقع، وإلا فما معنى أن يكون لك الكثير من الأصدقاء على "الفايس بوك"، مثلاً، وأنت لا تملك إلا قلة قليلة من الأصدقاء الحقيقيين، بل قد لا يكون لك صديق حقيقي واحد أصلاً؟ لأن الصداقة على الويب ليست حقيقية، بل هي "مجرد وجود صلة-أحادية الاتجاه أو باتجاهين- بين صفحتي شخصيتين"14. أليس ذلك دليلاً على فقداننا لمعنى الصداقة الحقة في الواقع؟ وما الغاية من استعارة ألقاب الشهرة لولا أنها تعويض عن إخفاقات الواقع؟ وما الهدف من استعارة صفات الشرف والرتب الثقافية إلا ردّ فعل اتجاه الإقصاء والتهميش الواقعي؟
إننا مدعوون اليوم، في الوطن العربي خصوصًا، إلى الاهتمام بالعنصر البشري، وتنميته تنمية حقيقية تقوم على تأهيله وتكوينه تربويًا وعلميًا، وتكريمه وردّ الاعتبار إليه باعتباره إنسانًا له الحق في أسباب العيش الكريم، إذا أردنا أن نعالج كثيرًا من المعضلات التي تقف حاجزًا أما تقدم العالم العربي وبلوغه مصاف الأمم الأخرى.
من المؤكد أن الثورة الرقمية أصبحت واقعًا لا مناص منه، ويترتب عن هذه الحقيقة نتيجة مفادها أن سياسة المقاومة والرفض لم يعد لوجودها أدنى مبرّر؛ وبالتالي فإن المطلوب اليوم هو التفكير في طرق تربوية فعالة نلقن من خلالها لأبنائنا كيفية التعامل مع هذه العوالم الافتراضية، وتحدينا الكبير اليوم هو أن نجعل أبناءنا يعيشون أكبر وقت ممكن معنا وأقله مع "النت"، وذلك بأن نمنحهم الحب والاهتمام والتشجيع، ونشاركهم حساباتهم لولوج العالم الافتراضي بكثير من التوجيه والإرشاد وقليل من الرقابة المتشدّدة. ولعل المدخل الأمثل لكل هذا هو أن نُنشئهم على تعاليم ديننا الحنيف ونغرس في نفوسهم قيمه، وعلى رأسها مراقبة الله تعالى في جميع أفعالهم وأقوالهم، وتحذيرهم من النفاق والعيش بوجهين، وحثهم على الكسب الحلال بعيدًا عن النصب والخداع، وهذه المهمة أضحت صعبة في زماننا، لا يمكن النجاح فيها إلا بتكامل جهود جميع المتدخلين؛ أسرة ومجتمع ومدرسة.
الهوامش:
1 - نستعير هذا الاسم من الباحث الدكتور محمد بازي الذي وسم به الفصل الرابع من كتابه البنى الاستعارية نحو بلاغة موسعة، الصادر عن منشورات ضفاف، دار الأمان، كلمة، منشورات الاختلاف، في طبعته الأولى، بتاريخ 1438هـ/2017م.
2 - عبدالسلام بنعبد العالي: الأعمال، شذرات فلسفية 1، ج.1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2014، ص.255.
3 - ريمي ريفيل: الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟ ترجمة سعيد بلمبخوت، عالم المعرفة، عدد 462، يوليو 2018، ص.56.
4 - محمد بازي: البنى الاستعارية نحو بلاغة موسعة، منشورات ضفاف، دار الأمان، كلمة، منشورات الاختلاف، ط1، 1438هـ/2017م، ص.95.
5 - نفسه، ص.95.
6 - عبدالسلام بنعبد العالي: الأعمال، شذرات فلسفية 1، ج.1، ص.255.
7 - نفسه، ص.255.
8 - نفسه، ص.256.
9 - ريمي ريفيل: الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟ ص. 17.
10 - ريمي ريفيل: الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟ ص.72.
11 - محمد بازي: البنى الاستعارية نحو بلاغة موسعة، ص.96.
12 - نفسه، ص.95.
13 - ريمي ريفيل: الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟ ص.18.
14 - نفسه، ص.73.
تغريد
اكتب تعليقك