ابستمولوجيا البلاغة الجديدة وإشكالية تأويل الدرس الفلسفيالباب: مقالات الكتاب
حيدر علي سلامة باحث - مختص في فلسفة خطاب الدراسات الثقافية - العراق |
أصبحت عملية قراءة الخطاب الفلسفي الراهن، شبه مستحيلة دون الأخذ بالاعتبار لـ«مركزية المنطق» ضمن خرائط ذلك الخطاب، لما لعلم المنطق من أهمية ابستمولوجية ولغوية في تشكيل (القول الفلسفي)، وتحديد مسارات الخطاب الفلسفي، وطرق إنشاء الدرس الفلسفي وصناعة الأسلوب التعليمي المتبع في تأسيس مناهج النص الفلسفي وطرق كتابته أيضاً. وهنا، كان علينا التوقف لمساءلة ذلك المنطق المعتمَد والمتداول في خطابنا الفلسفي. فهل تأسس خطابنا المنطقي/الفلسفي على تقاليد وأصول البلاغة الجديدة والتي دشنها الفيلسوف البلجيكي شاييم بيرلمان في عام 1958 المستندة على الحجاج البلاغي (argumentation rhétorique) الذي لا يُغيّب المتلقي أو ما يُعرف بـ(بلاغة المخاطَب) - حسب تعبير الأستاذ الدكتور عماد عبد اللطيف -، أم شُيد على أسس البرهان البلاغي (démonstration rhétorique) حيث تتم مصادرة الآخر/المتلقي في بنية الدرس الفلسفي؟
يأخذنا الاستفهام أعلاه إلى وقفة أكثر استفهامية ونقدية لبنية الدرس الفلسفي نفسها، التي تأسست على طرق بيداغوجية وتقليدية في صناعة برامج التدريس الفلسفي. فالملاحظ على طبيعة تلك المناهج، اعتمادها على (سياسة التلقين)، التي همشّت (سؤال الفلسفة)، الذي ينقلنا: «من التعليم الإخباري إلى (التعليم البرهاني الحجاجي)». وهذا بطبيعة الحال سوف يسلط الضوء على العلاقة الديالكتيكية أو الجدلية بين كل من: الأستاذ والطالب والنص الفلسفي؛ والسؤال عن طبيعة هذه العلاقة وتاريخها التعليمي وأطرها المنهجية المعتمدة في إيصال أو نقل المعلومات الفلسفية إلى ذهن المتلقي أي الطالب. ولما كان المنطق البرهاني الرياضي؛ وليس الحجاجي؛ هو المعتمد رسمياً في مؤسساتنا الفلسفية، أصبحت طرق تدريس النص الفلسفي مستندة على (التعليم الإخباري)، الذي أهم ما يميز أسلوبه التعليمي هو أنه :«...عملية تلقين أو نقل مباشر للمعلومات من طرف متكلم (المدرس) إلى مخاطب-مستمع (المتعلم)، والتي هي عملية (نطق خارجي)، سواء اعتبرنا النطق بمعناه اللغوي (الكلام)، أو بمعناه الفلسفي المنطقي (التفكير)....كما أن الأسلوب الإخباري، تبعا لذلك، هو (أسلوب فوقي)، أي أنه يزود المتعلم بأطروحات الفلاسفة كما تم تقريرهم لها. وبعبارة أخرى: أن الأسلوب الإخباري يُلقن نتائج تفلسف الفلاسفة معزولة عن مقدماتها المؤسِسة لها، مما يجعل المتعلم يتعامل مع نتائج تفكير الفيلسوف تعاملاً سطحياً فوقياً، بعيداً عن العلاقة التي تربطها بمنطلقات الفيلسوف، وعن الكيفية التي تم بها بناء تلك النتائج بدءاً من هذه المنطلقات... تنتج عن هذه الحدود المنهجية-المنطقية محدودية بيداغوجية، تتجسد في أن الأسلوب الإخباري يقف عند مستوى الإلقاء التلقيني، على مستوى نشاط المدرِس، وعند مستوى التلقي الاحتياطي والاستهلاكي، بالنسبة لنشاط المتعلم، مما يجعل أسلوب الإخبار دون تحقيق المهارات العقلية التي تتوخاها المادة الفلسفية وأهدافها، والتي تتطلبها التربية التفكيرية التي نفكر داخلها».
من كل ما سبق، يتضح كيف أن الأسلوب التدريسي البرهاني المتأسِس على بنية النقل والإخبار، شكل برادايم (paradigme) التعليم، الذي لطالما هيمن على العملية الفلسفية في خطابنا الفلسفي، مما أدى إلى إنتاج أساليب تعليمية غير نقدية وغير حجاجية، منفصلة عن إنتاج فكر نقدي. وهنا علينا أن نتساءل تحديداً عن بنية المنطق السائدة في مؤسساتنا الفلسفية، فيما إذا كانت بنية برهانية مجردة أو متعالية عن ذهنية المتلقي، بمعنى آخر، علينا أن نتساءل، هل سيطر شكل واحدي للمنطق وهو المنطق الشكلاني (formal logic) أم فلسفة المنطق (philosophical logic) وما هو الفرق بين الاثنين، وأيهما يعمل على رفد وتطوير العملية الفلسفية؟ فتاريخ المنطق الأول ظل تاريخاً منعزلاً ومنحسراً في التأسيس لمنطق القضايا الصادقة وأسقط من حساباته منطق القضايا الفاسدة، أما المنطق الآخر فهو منطق أخذ في اعتباراته القضايا الزائفة – أي أنه خرج عن المنطق ذي القيمتين– ، لذا نلحظ أن تاريخه كان الأقرب إلى فلسفات الأخلاق والابستمولوجيا الاجتماعية (social epistemology) وفلسفات القيمة إلى جانب فلسفات الاستطيقا (Aesthetics).
إذن، ألا تدعونا تلك المقاربات أعلاه إلى إعادة سؤال المنطق في تاريخية خطابنا الفلسفي؟ وإلى التساؤل فيما إذا قد تشكل في هذا الخطاب فلسفة للمنطق أم منطقاً شكلانيًا محضًا؟ وكيف انعكست آثار تفضيل أحدهما على الآخر، على ممارسة وتشكيل بنية تكوين النص المنطقي ومنطق النص؟ وهل هناك (علاقة ثاوية) بين الأيديولوجيا وبين المنطق الشكلاني، أم أن هناك (علاقة ثاوية) بين الأيديولوجيا وفلسفة المنطق؟ وكيف يمكننا اكتشاف تلك العلاقة الثاوية، إن لم نعمل على إعادة النظر في عملية تكوين المناهج والدروس التعليمية المعتمدة/الرسمية في أقسامنا الفلسفية، لاكتشاف أثر المنطق على أبنيتها النظرية والابستمولوجية؟ وهل عمل أساتذة الفلسفة على تأسيس (علاقات برهانية) أم (تواصل حجاجي) مع الطلاب أي مع متلقي الدرس الفلسفي؟ وهل كان المنطق عندنا أقرب إلى علماء المنطق الرياضي/الشكلاني، أم كان أقرب إلى العلوم الإنسانية واللغوية وعلوم تحليل الخطاب والنص، وإنتاج بلاغة أنطولوجيا الحياة اليومية...إلخ؟
تكمن الأهمية الابستمولوجية والإشكالية لجميع تلك التساؤلات السابقة، في ضرورة الانتقال بالخطاب الفلسفي من التمركز على (المنطق) إلى (خطاب/وفلسفة المنطق). فاللافت في الأمر، أن من أهم سمات لغة المنطق في خطابنا الفلسفي، منذ لحظة تشكله وإلى يومنا الراهن - وهذا ما جاء على وصفه واضع أسس ومعايير الدراسات المنطقية في خطابنا الفلسفي العراقي عالم المنطق الأستاذ الراحل الدكتور ياسين خليل- أنه منطق: «يبدأ .. من التمييز بين لغة التداول واللغة الرمزية التي تعتمد على الرموز دون الكلمات. والسبب الذي جعل المناطقة يختارون مثل هذه اللغة هو أن الدقة لا يمكن أن تتوفر في اللغة الطبيعية، ومن الضروري أن نستعين بلغة رمزية أو فنية دقيقة المعنى والتراكيب لنستطيع تفادي المتناقضات التي قد تظهر نتيجة لغموض معاني الأسماء. واللغة الطبيعية ليست بدقة لغة الرياضيات مثلاً، لأنها تحتوي على كلمات لها معان مختلفة، فهناك النقل والمجاز والاشتراك في المعاني، كل ذلك يؤدي إلى غموض العبارة في اللغة الطبيعية، في حين لا يحق لنا في لغة المنطق أن نعطي أكثر من معنى أو فكرة لرمز واحد فقط ولكل رمز فكرة واحدة كذلك».
يتضح من النص أعلاه، أن عالم المنطق العراقي الأستاذ خليل كان يحدوه طموحاً فلسفياً، يهدف إلى (ترييض اللغة) في مجالات الاستعمال الفلسفي، وهذا بالطبع لا يتحقق إلا من خلال الاستناد على استعمالات لغة شكلانية/رمزية كما هو الحال عليه في المنطق الرياضي. لذلك نراه قد عول كثيراً على اللغة المنطقية والميتا-منطقية، التي عدّ كلاًّ منهما بمثابة اليقين الديكارتي، لما تتسمان به من الدقة الرياضية؛ والبرهنة الرمزية وإنتاج أنساق صورية مثالية تختلف اختلافًا جذريًا عن اللغة الطبيعية/اللغة المتداولة/اللغة اليومية، التي تخرق وتخرج على صرامة الدقة المنطقية وآليات الضبط الحسابي والتقني في استعمال الرموز والمعادلات الرياضية. من هنا، اعتبر اللغة المنطقية/الصُّنعية المحكومة بسمة الانضباط الرياضي، هي الأسبق انطولوجيا وابستمولوجيا على لغة التداول الطبيعية/الميتافورية، الأمر الذي جعله يؤكد على ضرورة تجاوز وتخطي تلك اللغة، من أجل الوصول إلى أعلى مراحل البرهنة الصورية والميتا-صورية، بهدف تأسيس نماذج مثالية، تتحقق من خلالها السيطرة على تقنيات وممارسات اللغة الطبيعية، التي قد تُدخِل الفلسفة في إشكالات ميتافيزيقية في استعمالات اللغة نتيجة لسمات الالتباس والغموض في اللغة الطبيعية، وهذا ما جعله يعقد تمييزًا: «...بين اللغة الطبيعية.. التي هي لغة التداول وبين اللغة الرمزية.. أو الفنية التي هي لغة المنطق. فالدراسات المنطقية تبدأ أولا بتحليل لغة التداول وترتقي بعد ذلك إلى بناء لغة دقيقة لها قوانينها وأصولها المنطقية».
من الملاحظ أن انشغالات الأستاذ خليل لم تختلف تماماً عن انشغالات فلاسفة التحليل اللغوي التقليديين - هذا على الرغم من حصول الكثير من المنعرجات الابستمولوجية المهمة في فلسفة اللغة ومنطقها التي حاولت أن تعيد الاعتبار إلى منطق المتكلم في اللغة الطبيعية في تلك الحقبة -، تلك الانشغالات الرامية والطامحة إلى تأسيس لغة علمية، تتسم بأنها لغة مثالية ذات صرامة منطقية ورياضية. وربما كان هذا هو الهاجس المسيطِر على مختلف كتابات وأبحاث ومؤلفات الأستاذ خليل، مما أدى إلى غلبة الطابع الصوري المحض والمنطقي الصرف على علوم اللسانيات (linguistics) وحقل التحليل السنتاكسي (syntaxe) لنظام تشكيل العبارة والتحليل السيمانطيقي للمعنى (semantic) والتحليل البراغماتيكي لتداول المعنى (pragmatic)، بعبارة أخرى، إن «التداول اللغوي في بنية المنطق الخليلي -نسبة إلى الأستاذ خليل- ظل ما قبل تحليل الخطاب (analysing discourse)*** وما قبل الانعراج اللساني (linguistic turn)». فلماذا تم التركيز والتأكيد على إنتاج لغات تقنية وصُنعية تتخذ من التحليل اللغوي والرياضي سبيلاً، وتم تجاهل المتكلم/والمتلقي في بنية الخطاب اليومي، بحجة انفلات هذا الخطاب عن الدقة الرياضية والمنطقية؟ ولماذا جرى تجاوز الحقول الابستمولوجية/الثقافية، ذات المساس والاتصال المباشر بحقول استعمالات اللغة اليومية (ordinary language) وتحليل الخطاب الاجتماعي والثقافي واستعمالات الحجاج البلاغي والتداول البراغماتيكي، وإفراغها من أبعادها الثقافية وطاقاتها الخطابية/التحليلية والتداولية، المتداخلة مع تداول اللغة الطبيعية اللابرهانية والاحتمالية، لتلتحق بالضرورة باللغة المثالية/الصُّنعية؟
اعتمد الأستاذ خليل على منطق الفيلسوف الألماني (جوتلوب فريجه) وعلى ثوراته الرياضية الحاصلة في علوم الحساب، ذلك المنطق الذي اتسم باللغة المنطقية الصارمة، التي تتجاوز اللغة الميتافورية/اليومية. حيث رأى الأستاذ خليل أن: «..محاولات فريجة تتسم منذ البداية بدقة التفكير والتعبير والتأمل العميق في العمليات الاستنتاجية التي يحتاجها البرهان الرياضي والقوانين الضرورية التي تقترن بالعمليات البرهانية. ولكن أبحاثه الأولى لم تكن مستهدفة بناء الفلسفة الرياضية فحسب، بل إنه أدرك كذلك منذ أول وهلة أن عملاً كهذا يستدعي دراسة دقيقة للقوانين المنطقية التي يستخدمها الرياضي في حل المعضلات الرياضية والبراهين، كما أن مثل هذا العمل لا يمكن أن يعبر عنه بلغة التداول، لأن هذه اللغة بحد ذاتها غير منطقية، وأن قواعدها لا تصلح لأن تكون قوانين في العمليات الاستدلالية، لذا من الضروري أولاً وقبل كل شيء أن يبدأ فريجه ببناء لغة صورية على هيئة لغة علم الحساب».
في النص أعلاه، نلحظ على وصف الأستاذ خليل للمنطق عامة ولمنطق فريجه خاصة، أنه وصفٌ شكّل منذ البدء لقطيعة ثقافية تضع حدًا فاصلاً بين روح المنطق الفريجوي من جانب، وبين المنطق الحجاجي/التواصلي/البلاغي في بنية اللغة اليومية أو اللغة المتداولة بحسب التصنيف الخليلي، من جانب آخر. وقد انسحب ذلك أيضاً، على وصف طبيعة العلاقة الابستمولوجية والمنطقية بين اللغة والفكر، فتحت عنوان (لغة التداول والمنطق) كتب الأستاذ خليل: «....اللغة المنطوقة أو المكتوبة لا تستطيع أن تعصم الفكر الإنساني من الوقوع في أخطاء، وذلك لسبب بسيط هو أن المعنى المرتبط بالعبارات رغم عموميته عند إفراد المجتمع الواحد، إلا أنه قد يختلف من وضعية إلى وضعية اجتماعية أخرى، ومن فرد إلى فرد آخر، كما أن القواعد المتوافرة في هذه اللغة ليست منطقية، لكي يكون التفكير بموجبها منطقياً. وهذا هو السبب الرئيس الذي جعل المناطقة يبتعدون عن لغة التداول مبتغين بناء لغة رمزية منطقية خالية من الأخطاء وثابتة من نواحيها القانونية».
وهنا علينا أن نساءل الأطروحات اللغوية والمنطقية والرياضية للأستاذ خليل. فهل صحيح أن الدراسات الرياضية والمنطقية آنذاك، قد تجاوزت أو أهملت في مجملها، السياقات (contexts) الثقافية واللغوية لبنية الحياة اليومية، المتمأسسة باللغة الطبيعية والمتداولة؟ وهل أسست مجمل تلك الدراسات للمنطق الاكسيوماتيكي (axiomatic) متجاوزة منطق الدوكسا (doxa) والآراء (opinions) العامة وأشكال الحوار والنقاش (discussion)؟ وهل عملت تلك الدراسات المنطقية للأستاذ خليل على شحذ (الذهن الحجاجي النقدي) لمتلقي النص الفلسفي؟ وهل قدم الأستاذ خليل من خلال منطقه الرياضي، قراءة نقدية لمجمل الأشكال التقليدية واللاتاريخية المتبعة في تعليم وتداول النص الفلسفي؟ وهل نجح ذلك المنطق في إعادة طرح سؤال الوجود والفلسفة واللغة الطبيعية في خطابنا الفلسفي؟ وهل كان الأستاذ خليل من مؤيدي المنهج الإخباري في تعليم الفلسفة، الذي يُصادر المتكلم ويتجاوز وجود الآخر في العالم اليومي، أم من مؤيدي المنهج البلاغي/الحجاجي - حسب الفيلسوف البلجيكي ومؤسس البلاغة الجديدة شاييم بيرلمان-، ذلك المنهج الذي يتأسس على فن الإقناع (persuasion) البلاغي، الذي يأخذ بنظر الاعتبار اللغة الطبيعية التي تُكون وجود المتلقي والمتعلم في بنية النص الفلسفي؟ ولماذا نجد هناك سيادة لتقنيات بلاغية/استدلالية في النص الخليلي، تكاد أن تكون جزءًا لا يتجزأ من هيمنة المنطق الشكلاني التقليدي المسيطِر في الثقافة العراقية عامة والتعليم الأكاديمي خاصة؟ فالملاحظ على تلك التقنيات، انفصالها/وابتعادها قدر الإمكان عن طرح الأسئلة الإشكالية الراهنة، كإشكالية الحق؛ القانون/العدالة؛ السياسة؛ الذات/الآخر، بل إن المنطق الخليلي تجنب طرح سؤال الوجود-في-العالم حسب تعبير هيدجر، إلى جانب سؤال المنطق وتاريخية الأحكام الأخلاقية/الجمالية؟ ولماذا لا نجد تمييزاً بين كل من: الخطاب الرياضي والخطاب العلمي والخطاب التاريخي في المنطق الخليلي؟ ولماذا لا نجد علاقة ابستمولوجية بين كل من الفلسفة والخطاب والبلاغة البيرلمانية الجديدة –نسبة إلى مؤسسها الفيلسوف البلجيكي بيرلمان– المُصادرة والمسكوت عنها في تاريخ مدرسة بغداد المنطقية؟
ومن جهة أخرى، لماذا جرى تجاوز اللغة الطبيعية وانطولوجيا الحياة اليومية، هل لأنها لغة غير خاضعة بعد (للتقييس المنطقي والسيطرة الرياضية)، أم لأنها لغة متمردة على منطق (التقييس الحزبوي والسيطرة الأيديولوجية)؟ وهل صحيح أن تاريخ فلسفات التحليل المنطقي في مجمله، كان تاريخًا منعزلاً عن لغة اليومي واشكالاتها؟ وهل صحيح أن فلاسفة التحليل المنطقي والرياضي للغة، قد ساروا جميعا على نهج قطعي/واحدي، ينفي وجود العالم اليومي واللغة الطبيعية، لانهما يمثلان عوائق ابستمولوجية أمام بناء (اللغة الصُّنعية والمنطقية ذات الأنساق المثالية والصورية)؟
قدم الدكتور فؤاد زكريا وصفاً (جامعاً مانعاً) لمجمل ما تم طرحه أعلاه من إشكاليات، حينما قال: «إنني لا زلت أذكر نظرة الاستغراب التي نظرها إلى أحد الأساتذة وهو يناقشني في البحث الذي تقدمت به لدرجة الدكتوراه، ودافعت فيه عن وجهة النظر (المعتادة) هذه. لقد سألني: أتعني (حقًا) أن تدافع عن وجهة نظر (الإنسان المعتاد)؟ وكان في تساؤله دهشة لا تقل عن تلك التي يبديها عالم الرياضة إذا سمع أحداً يعترض على صحة جدول الضرب! هذا إذن هو الموقف السائد فيما يتعلق بالصلة بين الفلاسفة وغير الفلاسفة: فالأولون قد أصبح لهم مجالهم الخاص الذي يترفعون فيه عن وجهة نظر (العامة) ويعدون رفضها أول شرط (للسلوك) إلى ميدان الفلسفة، والآخرون يدهشون للآراء النظرية الميتافيزيقية لدى الفلاسفة، ولا يأخذون بواحد منها في حياتهم المألوفة. ويظل كل من الطرفين متمسكا بموقفه، دون أي محاولة للتفاهم. وإذا كان غير الفيلسوف غير ملوم في عدم تعرفه على وجهة نظر الفلسفة، فإن الفيلسوف بطبيعة مهنته، ينبغي أن يلام لأنه يكاد يعد رفض موقف الذهن المعتاد من القضايا المسلم بصحتها، ويظل هو وطائفته يستخدمون حججهم ومصطلحهم الخاص الذي لا يعرفه غيرهم، وكأنه من الأسرار الحرفية التي لا ينبغي أن يطلع عليها إلا أربابها. وإذا كان من (المخجل) في الوسط الفلسفي أن يحاول المرء الدفاع عن (الواقعية الساذجة) فإن من (المضحك) في نظر عالم الجيولوجيا أو عالم النبات أن يحاول المرء إقناعه بأن العالم الذي نراه (من خلقنا نحن) أو أن يثير المرء فكرة كون المظهر الذي يتبدى عليه العالم هذا العالم خادعًا، واحتمال كون العالم في (حقيقته) مخالفًا لما ندركه. وفي رأيي أن استمرار هذا الازدواج هو الأمر المخجل حقًا. وليس مما يشرف الفلاسفة على الإطلاق أن يكتفوا بوصف الآخرين بأنهم من (العامة)، دون أي محاولة لتحليل سبب ذلك الاعتقاد القوي الذي يدفع (الناس)، وضمنهم الفلاسفة أنفسهم خلال الجزء الأكبر من حياتهم، إلى الأخذ بوجهة النظر (الطبيعية). إن الفلاسفة يعدون وجهة النظر هذه (خطأ) ينبغي تجاوزه إلى غير رجعة. ولكن كان الأجدر بهم أن يكرسوا شيئًا من جهودهم لإيضاح علة انتشار هذا (الخطأ) على هذا النحو الهائل بين جميع الآدميين غير المتفلسفين، وبين الفلاسفة أنفسهم في لحظات عدم تفلسفهم! إن ذلك الازدواج الذي يسود حياة من ينكر العالم الخارجي من الفلاسفة، حين يتصرف في هذه الحياة حسب الموقف الطبيعي، ويفكر فيها حسب الموقف المثالي، كان يستحق على الأقل تفسيراً أو تعليلاً- ولكن، كم من الفلاسفة من كرس أبحاثه لهذه المسألة الحاسمة؟! إن الفلسفة في حاجة إلى أن تخرج من آن لآخر، من النطاق (الاحترافي) الذي ضربته حول نفسها، وتحدد علاقتها ببقية مجالات العالم. وهي على الأخص في حاجة إلى أن تنظر إلى فهم وتقدير، لا بازدراء وترفع، إلى وجهة نظر (الإنسان) بالمعنى العام لهذه الكلمة. وينبغي أن تجد في نفسها الشجاعة للربط بين أرائها وبين هذا (الإنسان)، وإلا فستظل إلى الأبد (مهنة) ضيقة لا تلقى استجابة إلا من ذلك النفر القليل الذي احترفها».
وأشار الدكتور زكريا إلى طبيعة الاختلاف الابستمولوجي بين لغة العلم ولغة الموقف الطبيعي في هذا العالم، قائلاً: «إنه من العبث أن ننقد الصورة التي نكونها للعالم في موقفنا الطبيعي لاختلافها عن الصورة العلمية للعالم، إذ إن كلا من الصورتين تؤدي وظيفة مختلفة تماما عن وظيفة الأخرى، وتسري على مجال مخالف تماما لمجالها».
من هنا، علينا أن نتساءل بعد كل ذلك، فيما إذا كان منطق الأستاذ خليل قد نجح في تدشين خطاب فلسفي يتخارج بنا عن الأطر الاحترافية للتفلسف إلى خطاب العامة واليومي؟ وهل نجح ذلك المنطق في إعادة قراءة تاريخ خطابنا الفلسفي؟ وهل عمل على استئصال (ظواهر التعالي الأيديولوجية والعلموية الزائفة) على خطاب العامة وثقافتهم، أم أن ذلك المنطق كان الدعامة الرئيسية في تأسيس نظرة تتجاوز (الوجود اليومي)، كونه منطق متمركز ضمن جغرافية فلسفية سميت خطأ بـ(الواقعية الساذجة)، أو بـ(الواقعية العامية)؟ وهل أصبح ذلك المنطق، هو العامل (المحرك الذي يحرك ولا يتحرك) لسيرورة وحركة الخطاب الفلسفي بطريقة توتولوجية؛ إخبارية؛ معنعنة، تتعامل مع النص الفلسفي بطريقة (حنبلية)، ليست (حجاجية أو إبداعية)، يسيطر فيها أرباب العلم والتعلم على عملية تشكيل الدرس الفلسفي؟ وهل أصبح ذلك المنطق الرافد الأساسي الذي سوف يشكل وجهة أساليبنا اللغوية واللسانية المعتمدة في كتابة أبحاثنا ورسائلنا وأطروحاتنا الجامعية المقبلة؟
تغريد
اكتب تعليقك