بلاغة الماء في رواية «تغريبة القافر» لزهران القاسمي الباب: مقالات الكتاب
د. نجلاء الحداد أستاذة باحثة في مجال البلاغة وتحليل الخطاب-المغرب |
على سبيل التقديم:
رغم اختلاف الثقافات الإنسانية في مجموعة من الأفكار والقيم والرؤى، إلا أنها تشترك في تقدير قيمة الماء باعتباره مصدر الحياة وأساسها الذي لا يمكن أن تستقيم بدونه. ولعل الماء واحد من أسباب الصراعات والحروب القائمة بين البشر منذ الأزل، وعامل من عوامل ترحالهم وتنقلهم من مكان إلى آخر.
وقد صور القرآن الكريم علاقة الماء باستمرارية الحياة في قوله عز وجل: (وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ)1 ، ولئن قام العلماء بأبحاث ودراسات حول هذه الثروة الطبيعية لوعيهم بدورها الحاسم في استمرار الوجود، ولرغبتهم في تنمية هذا المورد واستثماره على أبعد مدى.
ثم إن الماء شغل بال المفكرين والشعراء والأدباء على مرّ العصور، ومن بينهم الأديب زهران القاسمي الذي استلهمه الماء لينسج من أحد ينابيعه خيوط مادته الحكائية التي بنى عليها روايته الموسومة بـ"تغريبة قافر".
"تغريبة القافر"وفتنة الماء:
إن المتأمل لرواية "تغريبة القافر" يلاحظ المفارقة العجيبة التي يستحضر الروائي من خلالها الماء، فهو القلب النابض لقرية "أصيل"، ومصدر نشاطها وخصبها، ذلك أن ساكنتها تستفيق كل صباح على صوت خرير مياه الأفلاج، والسواقي، والمياه المترقرقة في الوديان، وتعتمد عليها بالأساس في ري الحقول وسقي البساتين التي تغدق على أهل القرية بخيراتها، وهي مصدر فرح أبناءها وسعادتهم الرهينة بالخصب، ودواء لها من كل الأمراض والأسقام -وذلك بفضل الأعشاب المفيدة والعطور الفواحة الناتجة عن عطايا الأمطار- سواء أكانت هذه الأمراض جسدية أم نفسية
فحتى في حالة إصابة ساكنة قرية "أصيل" بالحسد والمس تلجأ لزيارة عيون الماء طلبًا للبركة.
غير أن الماء يشكل مصدر الفتن والمحن والأحزان –في الوقت نفسه- ذلك أنه الدينامو المحرك لأحداث الرواية، والخيط الرفيع الواصل بين عناصر خطاطتها السردية. فبمجرد تصفح القارئ للصفحات الأولى من الفصل الأول من الرواية، يُزج به مباشرة في تفاصيلها، دون سابق إنذار. ذلك أن الأحداث تبتدأ باللغط والصراخ الناتج عن انتشار خبر غرق أحدهم في البئر، ليكتشف الطارش أن الغريقة هي مريم بنت حمد ود غانم، إحدى نساء القرية، والملفت للانتباه هو ولادة ابنتها مريم بعد وفاتها مباشرة، ليشكل الماء مصدرًا لهلاك الأم ونجاة الجنين، وينتقل حال القرية من الحزن والبكاء إلى السرور والفرح.
وتتوالى أحداث الرواية لتلقى –مريم- المولودة نفس مصير أمها الهالكة، ذلك أن الأجل وافاها نتيجة غرقها في البئر نفسه، لتُنتشل جثتها وتشق بطنها، ويخرج طفلها سالم من رحمها. وهو الطفل الذي أوجس رجال القرية ونساءها وأطفالها، نظرًا لغرابة تصرفاته وطول تأمله في البساتين والأشجار، وتمدده على الأرض بين الفينة والأخرى، ليضع أذنه على صخرة صلبة ملساء ويردد كلمة "ماي...ماي" التي تشير إلى الماء بلهجة القبيلة التي ينتمي إليها. وهو الأمر الذي استغربته مربيته كادية وأبوه عبدالله بن جميل، فضلاً عن أهل القرية الذين زعموا أنه مسحور، وأن الجن استبدلوه وقت ولادته، خاصة وأنه وُلد مباشرة بعد انتشال جثة أمه من البئر.
لقد جعلت تصرفات سالم الغريبة أهل القرية ينفرون منه، ويتهمونه بالجنون والسحر إلا أنه لم يكترث لهم، ولا لسخرية أطفال القرية منه، ورشقهم المتواصل له بالحصى والحجر. فقد كان يقضي اليوم بطوله متجولاً بين الحقول والبساتين، مستمتعًا بخرير المياه الذي كان يهيم به هيام العاشق بمعشوقته. وقد تميز سالم برهافة حسه ودقة سمعه، ذلك أنه كان يقوى على سماع أدق تفاصيل الطبيعة، كصوت دبيب النمل على الأشجار، وصوت قضم الفئران لأوراقها.
وسرعان ما يتحول النفور إلى ألفة وخضوع بفعل قدرة سالم على التقاط أدق دبدبات عناصر طبيعة القرية، وهو الأمر الذي جعله يخلص القرية من سنوات القحط والجفاف التي ستحلّ بها -وذلك بعد يأس أهلها من استخراج المياه الجوفية من الأفلاج التي اختفت تفاصيلها بسبب المياه المتدفقة –سابقًا- من فصول الشتاء القارس- وهو الحلم الذي سيتمكن أهل القرية من تحقيقه بعد محاولات متعددة لكسر صخرة عنيدة حالت دون تمكنهم من الوصول إلى ينابيع الماء.
وهكذا يتحول سالم إلى قافر مشهور تستعين به القرى الدانية والبعيدة للتوصل إلى المياه الجوفية الغارقة في قنوات الأفلاج القديمة، ليلقى حتفه ويسقط ضحية سقف إحدى قنوات الأفلاج.
"تغريبة القافر" وبلاغة الماء:
يسيطر "الماء" على معنى الرواية ومبناها، فإلى جانب تحكمه في مجرى الأحداث، وتتبع تفاصيلها، وربط بدايتها بنهايتها، يغزو لغة النص الروائي غزوًا، بدءًا من العنوان "تغريبة القافر" الذي تسيطر عليه سمة الغرابة –شكلاً ومضمونًا- ذلك أن الروائي استفتح عنوان روايته بخبر لمبتدأ محذوف "تغريبة" زجه في وجه المتلقي دون مقدمات، ويبدو أنه تعمّد عدم الابتداء بمبتدأ قبله، ليَسمه بسمة الغرابة، والتي تسرّبت لمعنى الكلمة بدوره، المرتبط بالرحيل والغربة القسرية الإجبارية التي تحل فجأة دون سابق إنذار. وقد أضيفت هذه الكلمة إلى كلمة "القافر" التي ترتبط بدورها بدلالة النزوح والرحيل، بحثا عن الماء، ذلك أن القافر هو المكلف باقتفاء أثر الماء واستخراجه من شظايا الصخور وباطن الأرض.
إن المتتبع للحقل الدلالي للرواية يجد أنه يتأسس على تيمة الماء بمختلف أجزائه (الأفلاج-البئر-الوادي-النهر-السيل-المطر) التي ترتبط فيما بينها لتصل إلى الكل (الماء)، فاستمرارية الحياة في القرية مرتبطة بالأساس بهطول الأمطار الغزيرة التي تغدق عليها بخيراتها.
وفي حالة توالي سنوات القحط والجفاف يلجأ القرويون إلى التنقيب عن المياه الجوفية في الأفلاج.
والملفت للنظر هو أن الماء يكاد يغطي معظم مفاهيم الوجود والعدم في الآن نفسه، وهو الأمر الذي خرق انتظار القارئ الذي تعود ربط الماء بالوجود، ليجده مرتبطًا كذلك بالعدم في هذا النص الروائي الذي انبنت شعريته من خلال مجموعة من العناصر لعل أبرزها الربط بين متضادين يوجد بون شاسع بينهما، وهما الحياة والموت، ليجعلهما رضوان القاسمي متصلين ومترابطين لدرجة أن وجودهما يضمن تفاعل المتلقي مع أحداث النص.
يساهم الماء في تصعيد كثافة المعنى وضمان جاذبية اللغة الشعرية. فلئن سحر المتلقي ببلاغة الصورة في النص الروائي لتفوق الكاتب في الغوص في أعماق المياه واكتشاف أسراره التي جعلته يربط أحاسيس الشخصيات وعواطفها بخرير المياه، فهو يسيطر على عاطفة الحب الذي شبهه الكاتب بينبوع ضئيل وهو يصور لنا نبض قلب سالم بهذا الإحساس للمرة الأولى: ".. دخل المجلس مع والده وبدأ ينصت إلى ينبوع ضئيل يسيل متدفقًا خجلاً في أعماقه، ينبوع ضئيل أنساه كل الأصوات من حوله، أصغى إلى وجيب قلبه فوجد كل شيء فيه معلقا بابتسامتها ووجهها"2.
كما شبه لوعة الحب وصبابته وعذابه في ظل غياب المحبوبة بالتأرجح بين أمواج السيل الجارف "فلا هي تقذف به على الضفاف، ولا هي تسلمه للغرق"3.
إلى جانب سيطرته على المشاعر والأحاسيس، يغزو الماء أحلام القافر وطموحاته، فاستمراره في الحفر لساعات طويلة مرتبط بالأساس برغبته في تحقيق حلم مزرعة صغيرة بالقرب من الوادي الذي سيصل إلى ينابيعه –حتمًا- غير أن هذا الحلم متوقف على نوعية المياه التي سيصل إليها، وقد استعان الروائي بالاستعارة لتقريب أنواع الماء التي يتوصل إليها القافر بعد مسيرة طويلة من البحث، فقد شبه الماء بكنز دفين مشيرًا إلى قرينة من قرائنه وهي "المفاتيح"، ثم أنسن أحد أنواعه –من جهة- وقطراته –من جهة ثانية- لتجتمع كل هذه الصور في لوحة فنية مبتدعة تستحق أن يقف المتلقي قليلاً ليتأمل ملامح شعريتها:
"نعم، للماء أيضًا مفاتيحه، هذا ما يعرفه القافر من خلال خبرته التي راكمها طوال سنين عمله في تتبع المياه، فهنالك –على حد قوله- مياه كريمة قريبة من السطح تسري في تربة حصوية أو رملية تقول لك تعال خذني، وهناك مياه مخادعة، تسكن التربة الرخوة والطمي، تبدو من خلال الثرى وفيرة، وما إن تحفر الأرض وتشق المجاري لتتبعها، حتى تخسر وقتك وجهدك كله، وبعد ذلك تدرك أنك تطارد قطرات شحيحة تنبجس من منبعها"4.
على سبيل الختام:
يتضح لنا من خلال مقاربتنا للنص الروائي "تغريبة القافر" أن الماء استلهم الكاتب زهران القاسمي استلهام العاشق المتيم، ليجعله المركز الذي لا يمكن أن تتحرك أحداث النص الروائي بدونه، فهو الذي يضمن توالي المتواليات السردية للرواية، وهو الذي يحفظ وحدتها وانسجامها انطلاقًا من الحركة الأولى في النص المرتبطة بغرق مريم، وكذا سيرورة العقدة والتحول، ثم الوضعية الأخيرة المرتبطة بغرق سالم القافر.
كما أن تيمة "الماء" سيطرت على بلاغة النص الروائي، إذ شكلت مادة خام نسج من خلالها زهران القاسمي خيوط مادته الروائية، ثم إن الماء استلهمه لتصعيد كثافة المعنى وضمان جاذبية اللغة الشعرية للرواية التي تشكل برمتها غدير مثير يلهم المتلقي بالانتعاش والمتعة اللامتناهية.
الهوامش:
1 - القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية: 30.
2 - زهران القاسمي، تغريبة القافر، دار رشم للنشر والتوزيع، تونس، ط.1، جانفي 2022، ص: 140.
3 - المصدر نفسه، ص: 140.
4 - نفسه، ص: 168.
تغريد
اكتب تعليقك