الواقعية السحرية .. بين أروقة الأدب وظلال التاريخ الباب: مقالات الكتاب
د. مرام محمود ثابت محاضر جامعي بكلية الفنون الجميلة، باحثة أكاديمية في مجال الدراسات السينمائية والأدبية، مصر |
ظهر مصطلح الواقعية السحرية لأول مرة في عام 1955، على يد الناقد المكسيكي (آنجيل فلوريس - Ángel Flore) (1900- 1992)، الذي تبنى مصطلح الواقعية السحرية (بدلًا من واقعية السحر) لوصف كتابات مؤلفي أمريكا اللاتينية، الذين جعلوا من "المعتاد واليومي شيئًا رائعًا وغير واقعي". وتم استخدام الواقعية السحرية في السرد الأدبي بصورة خاصة في أمريكا اللاتينية، من خلال كتابات الروائيين التي اعتمدت على توظيف عناصر من التراث الشعبي (الفولكلور) في رواية القصص في أمريكا الجنوبية والوسطى، واستخدام الكاتب المخيلة الذاتية له في تشكيل عالم خيالي ساحر، العالم الذي تميز بإدراج عناصر خيالية أو شخصيات أسطورية وخرافية في الخيال الواقعي إن جاز التعبير.
وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية معروفة في الأدب الشعبي للعديد من الثقافات والشعوب عبر العصور، فإن مصطلح الواقعية السحرية هو تسمية حديثة نسبيًا، تم تطبيقه لأول مرة في الأربعينيات من قبل الروائي الكوبي (أليخو كاربنتير) Alejo Carpentier 1904 - 1980، والذي أدرك هذه الخاصية في كثير من الأدب الأمريكي اللاتيني، وكان من أوائل المشاركين في كتابة مؤلفات تحمل أسلوب الواقعية السحرية، مما سعى إلى توثيق السمات المميزة للثقافة الأمريكية اللاتينية، واستكشاف تاريخ هذه الحضارة.
قدم الكاتب الكوبي كاربنتير مفهومه المتصور حول تاريخ الهوية الأمريكية اللاتينية، وذلك عندما نشر مقالاً عام 1949 بعنوان "حول الواقعية الرائعة في أدب أمريكا الاسبانية"، وتناول فيه جانبًا من التراث الموسيقي، وتطرق إلى الطابع الدرامي الساحر الذي ينتمي إليه صانعو الفن البصري في أمريكا اللاتينية، والطابع الجغرافي الذي تتمتع بها هذه القارة، كما يعتقد أنها منبع الخيال في أعين العالم، بالإضافة إلى التنويه عن الجانب السياسي والنظم الاجتماعية السائدة آنذاك. ومن أشهر رواياته المتأثرة بالثقافة الإفريقية الكوبية هي روايته (مملكة هذا العالم) (The Kingdom of this World) والتي نشرت عام 1949م، وتناولت الثورة الهايتية التي كانت في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
يعتقد بعض المؤرخين أن الواقعية السحرية التي نشأت في كنف الثقافة الأمريكية اللاتينية هي نتيجة طبيعية لفن الأدب ما بعد الاستعمار، والتي يجب أن تكون منطقية لواقعين منفصلين، أولها هي واقع المستعمر، والثانية هي واقع السكان الأصليين، وتبقى حقيقة واضحة وهي أن كتّاب الواقعية السحرية في مرحلة ما بعد الاستعمار يعتزون بمعتقداتهم القديمة المتوارثة، ويسعون إلى مقاومة الاستعمار وأيدولوجيته، وتأبى كتاباتهم أن تتماهى ثقافيًا أو تمازج مع ثقافة المستعمر، إلا باستثناء بعض الحالات، ففي استراليا على سبيل المثال شكّل الاستعمار عالمين مختلفين، مما كوّن هوية وتاريخ مزدوجين، سعى لترسيخهما عند السكان الأصليين.
انخرط كتّاب أمريكا اللاتينية في الحركات الأدبية العالمية، وبرزت العديد من الأسماء المبدعة، والتي أضفت على فضاء الواقعية السحرية الكثير من السحر والتميز الفريد، وكان من أبرز رواد هذه الحركة الكاتب الكولومبي غابرييل جارسيا ماركيز، والبرازيلي خورخي أمادو، والأرجنتينيين خورخي لويس بورجيس، وخوليو كورتازار، والتشيلي إيزابيل أليندي، بالإضافة إلى مؤلفي الواقعية السحرية الآخرين، أمثال الروائية الأمريكية ذات الأصول الأفريقية توني موريسون، والتي حصلت على جائزة نوبل في الأدب عام 1993 عن مجمل أعمالها الأدبية.
على الرغم من اختلاف حبكاتهم وأنماط كتابتهم، فقد أدرج هؤلاء الرواد سمات وعناصر واضحة في قصصهم الواقعية السحرية، إلا أنه يمكن اعتبار أن السمة الغالبة على كتابات الواقعية السحرية هي النزعة إلى السخرية والتي هي شكل من أشكال النقد اللاذع للمجتمع والأنظمة الدكتاتورية، كذلك الثورة والتمرد على الواقع، وانعدام التفسير المنطقي لمجريات الأحداث، كما غلبت على الكتّاب القدرة على المزج البارع بين العناصر السحريَّة وعالمنا الواقعي، مما يعني إثارة فضول المتلقي ودغدغت مشاعره وخيالاته، وجعل اللغة التصويرية أقرب لمخاطبة المورث الشعبي لديه، مما يجعله يرتبط أكثر بالقصة المروية، ويكون أكثر جاذبية وحماسة نحو مواصلة أحداث الرواية المتخيلة.
يذكر الكاتب الناقد حامد أبو أحمد في كتابه "الواقعية السحرية في الرواية العربية" إن الواقعية السحرية بمفهومها الحديث تقوم على ثلاث ارتباطات أساسية: العجائبي والأسطوري والسريالي، وهذه كلها ترتبط بتطورات الفن الحديث؛ فالأسلوب التقليدي للفن الروائي الذي يعتمد على بداية ووسط ونهاية ليس من أساليب الواقعية السحرية، إذ أنها تقدم فنًا فريدًا ونموذجًا يجمع بين الحديث والقديم، ويضيف الكاتب أبو أحمد تعريفًا واضحًا للواقعية السحرية فيقول: "أنها نموذج أدبي فريد يجمع بين القديم والحديث، والقديم ممثلاً في العجائبي مثل (حكايات ألف ليلة وليلة)، والحديث ممثلاً في استخدام (الأسطورة) بالمفهوم الفني والأدبي والثقافي، الذي تبلور في كتابات النصف الأول من القرن العشرين، وفي الوعي بالجانب السريالي أو ما فوق الواقع، وذلك مع تطور الانسان واتجاهه نحو العوالم الخفية في حياته، وتأثيرها على وجوده ورؤيته للعلم والكون".
وبالنظر إلى روايات الواقعية السحرية، وما تضمنته من تشابكات تغوص في أعماق النفس البشرية، وتكشف عن الخبايا الخفية التي تنطوي عليها حياة الإنسان، لإقامة بناء أدبي حداثي ومعقد في تراكيبه، لكنه سهل تناوله ويجذب القارئ، فالواقعية السحرية لا تحاول أن تنسخ الواقع كما هو، بقدر ما تحاول إدراك الغموض الذي يكتنف خلف الأشياء.
ومن أروع الأعمال الأدبية الفريدة التي كُتبت في خضم بحثنا عن روائع الواقعية السحرية، وكانت ملهمة للكثيرين، لما تحتويه من قصص ملحمية وشخصيات أسطورية تدور أروقة العالم رغم عزلتها، وتتماسّ بعمق مع التجربة الإنسانية للكاتب، في محاولة لاختراق الواقع التاريخي والسياسي والاجتماعي، ألا وهي رائعة الكاتب الفريد غابرييل جارسيا ماركيز، مؤلف رواية "مئة عام من العزلة"، والتي نشرها عام 1967، وتتجلى ندرتها بقدر ما تحمله في طياتها من السحر الأدبي الذي يطمس بذكاء الحدود الفاصلة بين ما هو واقعي وما هو سحري، وتأخذ القارئ في رحلة أسطورية ساحرة، لتعبُر به التاريخ السياسي والعرقي للقارة الأمريكية، لذا تعتبر هذه الرواية من أهم الأعمال الإسبانية والأمريكية خاصة، ومن أهم الأعمال الأدبية العالمية عمومًا، فهي رواية ملحمية عابرة للأجيال، وتروي تاريخ سلالة عائلة "بوينديا" على مدى ستة أجيال، تعيش في قرية خيالية تدعى "ماكوندو". يسجل ماركيز ببراعة قصة حياة هذه العائلة على الساحل الكاريبي، بدءًا من قدوم الجد الأكبر "خوزيه بوينديا" والجدة الكبرى "أورسولا"، والعرافة "بيلار تيريزا" التي تقرأ مستقبل الناس من خلال ألعاب الورق وقراءة الطالع، ومجموعة متنوعة من المهاجرين، يسعى جميعهم إلى تكوين مجتمع ماكوندو الغريب الذي يتسم كل شيء فيه بالعزلة النسبية، فكل فرد ومكان طبع على شخصيته سمات خاصة تجعل تفرده حالة مستعصية، ثم يأتي إلى القرية الجديدة الغجر بألعابهم السحرية التي لا تنتهي، فتطبع على القرية وأهلها شكل آخر من أشكال الخرافة، ويأتي مع الغجر الشخصية الغريبة "ملكياديس" والذي يفعل أشياء غريبة ويرحل مخلفًا وراءه كنزًا غريبًا بعض الشيء، وهو مجموعة من الأوراق التي تسجل بدقة تاريخ القرية، وكل سكانها من لحظة وجودها، وحتى لحظة فناء القرية وأهلها، ولكن هذه الأوراق لا تقرأ إلا بعد مرور مئة عام على كتابتها. ثم يتنوع نسل عائلة بوينديا إلى مجموعة من الأبناء والأحفاد مصنفين لنوعين؛ الأول يمتلك صفات جسدية خارقة وفائقة للعادة، والآخرون يحملون صفات العزلة والتمرد المطلوبة لقائد.
ثم يواصل الكاتب الإشارة إلى المستعمر الأجنبي الجشع الذي يدخل القرية الهادئة، وينشئ أعمالاً تجارية، ويزداد نفوذ وسطوة المستعمر ليستعبد أهل القرية وخيراتها بحماية من قوات الجيش الوطني و¬-حزب المحافظين. وتدور أحداث الرواية الخيالية متقاطعة مع تاريخ كولومبيا، وانفصالها عن إسبانيا، ثم إعلان الاستقلال واندلاع الحرب الأهلية في عام 1885، وقبل أن تنتهي بتوقيع معاهدة نيرلانديا عام 1902 بواسطة زعيم الثوار الكابتن رافائيل يريبي، والذي حارب جد الكاتب تحت إمرته. ثم يعاود ماركيز اللعب بلغة الترميز عندما يخبر بأن بقيام نشاطًا تجاريًا ضخمًا في القرية، وحلول أعوامًا من الثراء الرهيب، حتى أن أحد الأحفاد كان يغطي جدار البيت بالأوراق النقدية، وتمويل مشروعات للنقل البري والبحري، والتزاوج الذي حدث مع ملكة أندلسية (إسبانيا)، قبل أن تأتي مجددًا سنوات الجدب والفقر على القرية، الذي استمر لسنوات طويلة، وأخيرًا توقفت الحياة في القرية وأصبحت مهجورة، ثم يأتي آخر من تبقى من سلالة العائلة إلى القرية، ويتذكر نبوءة المخطوطات فيذهب ليفك شفرتها، وتنتهي قصته وقصة القرية في آن واحد. يستدر الكاتب الكولومبي ماركيز من خلال رائعته الأدبية قصة تجسد صعوبات نفسية في طفولته واجهت الكاتب نفسه، وحاول تخطيها من خلال الكتابة عنها، وصياغتها في عمل أدبي متقن، فالرواية عمل تاريخي يوثّق لحياة ملايين البشر الذين عاشوا في أمريكا الجنوبية، ويؤرخ لفترة الاستعمار وما يجلبه من خراب للبلاد، هذا العمل الخالد الذي نال عنه ماركيز جائزة نوبل للأدب عام 1982، وتقدر مبيعات الرواية بحوالي 50 مليون نسخة في جميع أنحاء العالم، وترجمت إلى 44 لغة عالمية، مما أضفى رونقًا خاصًا لازم الرواية، التي تندرج ضمن أعظم أعمال الواقعية السحرية.
ومن بين الروايات الأدبية التي أنتجت في سياق الواقعية السحرية، رواية "بيت الأرواح" للكاتبة التشيلية إيزابيل أيندي يونا، والتي كتبتها عام 1982، والتي حازت على هذه الرواية جائزة الأدب البانورامي، كما أنها ترجمت إلى ما يقارب الثلاثين لغة، ويعتقد بعض النقاد أن هذه الرواية لها أبعاد اجتماعية وسياسية، كما يرى البعض أنها تروي وقائع حقيقية مع شيء من الخيال. ورواية "سر الحديقة" للكاتبة الأمريكية سارة إديسون، والتي نشرت عام 2007، وتدور حول عائلة فضولية تشتهر حديقتهم بشجرة التفاح المسحورة.
تغريد
اكتب تعليقك