من ابستيمولوجيا التبسيط إلى ابستيمولجيا التركيبالباب: مقالات الكتاب
د. حسن الخطيبي المغرب |
يجمع الباحثون على أنه من الأزمات التي تعانيها العلوم اليوم، هناك أزمة ابيستسمولجية عميقة، مردها إلى الابيستيمولوجيا الوضعية المتولدة على باراديغم الفصل بين العلوم المعارف، فأهم خاصية قامت عليها العلوم في العصر الحالي هي خاصية الفصل بين الموضوعات والمعارف وخلق الكثير من التخصصات، وشيوع فكرة استقلال مجالات العلوم بعضها عن بعض، والإغراق في التخصص، وتفتيت المعرفة وتشظيتها إلى جزيئات متناثرة هنا وهناك، لا يجمع بينها خيط ناظم، وانشطار مفتت للمعرفة، وأصبحت المعارف حقولا منغلقة على نفسها.
كما يمكن لنا التذكير بمنظومة الاختزال والتبسيط ومنطق السببية الخطي الذي قام عليه العلم منذ منتصف القرن السادس عشر الى نهاية القرن التاسع عشر، بحيث كان العلم يعتمد منطلقات الفكر الأرسطي والإيمان بالتفسير السببي، والإيمان بمبدأ التعميم والحتمية ومبدأ القابلية للانفصال. وهي منطلقات عجزت عن مسايرة التطور العلمي المذهل الذي عرفه القرن العشرين وتفسيره وفهمه.
ومما جعل منظومة التبسيط هاته يزداد عجزها أكثر فأكثر، بزوغ نظريات يمكن نعتها بنظريات التعقيد، ومنها نظريات الفوضى أو الكاوس التي تهتم بالنظم العشوائية وغير القابلة بالتنبؤ بها باعتبارها غير خاضعة للتفسير الخطي، ثم السيبيرنيطيقا والذكاء الاصطناعي الذي يعبر عن الطبيعة المركبة والمعقدة للمعرفة الإنسانية ، دون أن ننسى ما توصل إليه علم النفس الجشطلتي. كما يستند التكامل إلى النظرة التكاملية للحقيقة وللوجود وللإنسان، فالتكامل هو سمة كل الظواهر التي تحيط بالإنسان في هذه الحياة.
وبناء على هذا الانقلاب الجذري الذي عرفه العلم، والذي تبلور في الانتقال من اﺑﺴﺘﻴﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ الاختزال والتبسيط، إلى ابستيمولوجيا التعقيد والتركيب، كان العقل العلمي بحاجة إلى براديغم جديد قادر على استيعاب هذا الانتقال الكبير، ولم يكن ذلك البديل سوى البراديغم الذي يتأسس على التركيب والتكامل.
فهذا التجزيء المستمر للمعرفة والمتزايدة في النمو، أنتج لنا علماء أميين كما يصفهم المهدي المنجرة، يعجزون عن المشاركة ديموقراطيًا في نسق القرارات الحاكمة، فضلاً عما يحدثه مكونهم العقلي من قطيعة بين وجهات النظر العلمية: الطبيعية والإنسانية1.
بالإضافة إلى غياب المعرفة العميقة بالأسس الابستيمولوجية للعلوم، ومعرفة مصادر المعرفة وتاريخها وحدودها ووسائل اشتغالها، ومنطقها في ذلك الاشتغال، فكثيرًا ما تقدم تلك العلوم بمعزل عن الأسس والمنطلقات الفلسفية والعقائدية التي تخلقت فيها، مما يعرضها للاجتثاث من تربتها وتقديمها بشكل مبستر وتعسفي قائم على الاجتزاء والعزل عن السياقات وأسباب النزول.
إن عزل المعرفة عن سياقها، وعن بيئة نشأتها، يجعل أمر معرفتها وتعقلها أمرًا ناقصًا، فتكون معرفتها معرفة سطحية، مما قد يجعلها تفهم بشكل خاطئ. ويبدو أن التجزيئيّين في هذه المجتمعات يغفلون التأسيسات الفلسفية للمعرفة، ويقصرون عن إدراك العلوم ضمن سياقاتها الاجتماعية. لهذا نشأت في الوطن العربي نزعة واضحة في هذا المجال هي "العلموية" التي أصبحت تشكل جزءًا من العقلية العربية وبخاصة النخبة المتعلمة والمتخصصة، ومؤدّى "العلموية" أنّ الوسيلة إلى التقدم الحضاري هي تداول "أرقى" و"أحدث" النظريات العلمية دون معرفة أسسها الفلسفية، أو دون التعرض للتغيرات التي يفرضها هذا التجديد العلمي على الأفكار العلمية والاجتماعية والسياسية، فيؤخذ العلم دون تاريخيته، وتتحول المادة العلمية كأنها جهاز مستورد أو قطعة تكنولوجية جديدة "2.
إن ابيستيمولوجيا الفصل القائمة على تذرية المعرفة وتشظيتها، والفصل بين الذات والموضوع، والارتكان إلى المنطق الاختزالي البسيط المتكئ على السببية، فشلت في فهم الظواهر الإنسانية المشبعة بالتعقيد والتركيب، مما طرح التفكير في ابيستيولوجيا بديلة هي ابيستيمولوجيا الوصل القائمة على براديغم تكاملي يصل بين المعارف والتخصصات والحقول، والانتقال من منطق السببية واليقينية إلى منطق الاحتمالية والنسبية بالنظر الى ما توصلت إليه العلوم حاليًا.
لقد أفرز التخصص، من جانب آخر، عقلاً أداتيًا، بالمعنى الذي صاغه يورغان هابرماس في مؤلفاته، والذي من مميزاته الطبيعة الاختزالية والنفعية والميكانيكية للمعرفة، "إن إخضاع كل شيء، الطبيعة أو الإنسان، للتجريب والتكميم الرياضي كما دعت إلى ذلك الفلسفة الوضعية، جعل العقلانية عاجزة تمامًا عن إدراك العمليات الاجتماعية والإنسانية في سياقها الشامل الذي يتخطى حدوده المباشرة، بل إنها تعجز تمامًا عن إدراك غائيات نهائية أو كليات متجاوزة للمعطيات الجزئية الحسية والمعطيات المادية الآنية"3.
فـ"العقل الأداتي الذي استفرد بحياتنا الاجتماعية له طبيعة سلطوية، لا ينظر إلى الأشياء والأفراد إلا من خلال الضبط والتحكم والتقنين"4، حيث يصير الإنسان عبدًا للأدوات التي أنتجها، وعبدًا لقواعد التخصص وأنساقه المغلقة، وفاقدًا لحرية التحرك والنظر للأشياء من زوايا متعددة. فتحول إلى موظف في خدمة التخصص لا غير، وبذلك يمكن نعته بـ"الإنسان ذي البعد الواحد"5، إنسان قابل بالمجتمع ذي البعد الواحد كذلك، ومتكيف معه. وما الإنسان ذو البعد الواحد إلا ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية. فما أشبهه بالعبد الذي يتوهم أنه حر لمجرد أنه منحت له حرية اختيار سادته"6. والسادات هنا يمكن تأويلها بالتخصصات والأنساق المنهجية والمعرفية.
وتظهر تجليات الانقياد للسادة والخضوع الأعمى لموجهاتهم الصارمة في أن الباحث الأكاديمي في الفلسفة مثلاً، يمكن أن يكون جوابه عن موضوع في الفلسفة: «آسف، فأنا متخصص في فلاسفة القرن الثامن عشر"، وقد يجيبك الباحث الأكاديمي في النقد الأدبي مثلا، إذا طلبت رأيه في قضية أدبية: آسف، أنا متخصص في الشخصية في رواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ". أما الباحث الأكاديمي في الفكر الإسلامي فهو قد يجيبك بأنه خبير متخصص في "القاعدة". "إن رؤساء الجامعات ومستشاريهم لا يدركون أن العقول المركبة ضرورية مثل العقول المحللة، فلو اعترف بسيادة هذا النوع من العقل، وشجع نموه وتطوره، لتلاشى خطر الأخصائيين، إذ سيكون في الإمكان عندئذ، إدراك أهمية الأجزاء في النظام الكلي إدراكًا كاملاً"7.
وعلى المستوى التربوي، أنتج التخصص و التجزئة المعرفية أنظمة تربوية ومجتمعات مغرقة في التجزئة والتخصصات الفرعية، وأنتج بالتالي، أفرادًا يركزون بطريقة مبالغ فيها على أجزاء الحقيقة المختزلة، مما يُحوِل التخصص إلى سجن للوعي والإرادة، حيث ان المتخصص يضع لنفسه مسارًا يعزله عن قضية المجتمع ومصيره، "إنهم يتمركزون حول مهنهم ولم يكشف لهم تعليمهم الآفاق الواسعة للعالم"8، لذلك فالحاجة ماسة اليوم، إلى فك العزلة عن العلوم والمعارف، وتحرير حدود التماس بينها، وإعادة ترسيم الحدود الوهمية بينها، وذلك بهدم الجدار الإسمنتي الصلب العازل بينها، و رسم تلك الحدود بمادة هلامية قابلة للاختراق السهل المشجع على هجرة الأفكار وتبادل الإنتاجات المعرفية من دون تعشير ولا قيود جمركية.
و"الحقيقة إن الحواجز بين أنواع المعرفة تعمل على تفتيت نظرة الإنسان نحو عالمه، والفلاسفة والتربويون الذين يعتمدون المناهج الدراسية على أساس المفهوم المطلق لمجموعة من أشكال المعرفة تتوافق والمجالات التقليدية للنظم المعرفية، بما بينها من حواجز، يقعون في خطأ كبير، وهم لا يدركون إن نظم المعرفة إنما هي بنى اجتماعية تاريخية، وأن الحدود بينها تعسفية ومختلقة، ولا ينبغي أن تكون لها الأولوية في المناهج الدراسية، وإنما تكون الأولويات للصلات التي يستطيع المتعلم إيجادها بالعالم الطبيعي والاجتماعي دون قوالب تجريدية"9.
ولقد سبق لأمريكا في معرض إصلاحها للتعليم أثناء الصدمة التي أحدثها إطلاق الاتحاد السوفياتي أول رائد فضاء نحو القمر سنة 1957 ، وما خلفه من انتقادات واسعة للسياسة الأمريكية بصفة عامة، انتقادات تمثلت في إعلان جون كينيدي الرئيس الأمريكي آنذاك، إن هناك خللاً في التعليم، فتم عقد مؤتمر وطني أمريكي ضخم في مجال التربية، ضم أبرز الباحثين والعلماء والمفكرين، وتمخض عنه ظهور كتاب "جيروم برونر" وعنوانه: 1960" the process of education" والذي ركز فيه على ضرورة الاعتماد على تصنيف المواد والتخصصات والمعارف والنظم المعرفية المستقلة من خلال نظرة تجزيئية للمعرفة، معتمدُا المبادئ الآتية: "أن تدرك يعني أن تصنّف، أن تتصوّر يعني أن تصنّف، أن تتعلّم يعني أن تنشئ تصنيفات، أن تتّخذ قرارا يعني أن تصنّف."
غير أنه لم تمض سوى سنوات قليلة حتى بدأ برورنر في حركة تصحيحة لمشروعه السابق القائم على التصنيف والتخصص وتجزيء المعرفة، وصار يعيد النظر في كيفيات بناء المنهاج الدراسي متبعا الطريقة القائمة على التكامل بين المواد والمعارف والدمج بينها، والاهتمام بالتفاعل بين المعارف والعلوم. مؤكدًا على أنه ينبغي أن يقوم المنهج على أوسع قسط من الفهم الجوهري للمبادئ الأساسية التي تضفي عليه صبغة منظومية تكاملية. و"إن تعليم الموضوعات الخاصة مقابل البنى العامة، أو المهارات دون توضيح مكانها من التنظيم الجوهري الأوسع لميدان من ميادين المعرفة عمل يتسم بضياع الجهد سدى في كثير من النواحي"10.
بل إن المشروع الأمريكي للتربية والمسمى: "مشروع 2061 العلم لكل الأمريكيين"، والذي انطلق سنة 1985 بعد ظهور كتاب: "أمة في خطر" الصادر 198311 يَعتبر التداخل بين كلٍ من العلوم والرياضيات والتقنية الهدف المحوري للتربية العلمية التي تحقق الثقافة العلمية لكل الأمريكيين من خلال هذا المشروع. فالجوهر العام لتعليم العلوم والرياضيات والتقنية يجب أن يركز على الثقافة العلمية بمجملها لهذه التخصصات وليس على فهم كل منها على حدة، وكذلك على العلاقات المتبادلة بينها، والعلاقة بينها وبين بقية العلوم الإنسانية. كما يركز على التعاون ما بين المدرسين الأكاديميين والمهنيين في عملية التكامل هذه. كما يتم اعتماد أسلوب تكامل الموضوعات الأكاديمية والمهنية على مستوى المقررات، فضلاً عن تدريس عدة مقررات أكاديمية جنبًا إلى جنب مع المقررات المهنية.
إن المتخصصين أشبه بأولئك العميان الذين يمسكون ببقرة أفلاطون "التخصص"، حيث أمسك الأول بحافرها، والثاني بقرنها، والثالث بذنبها، والنتيجة لا أحد يشعر بوجود حيوان. أنهم انهمكوا في معرفة الجزئيات في غفلة عن معرفة الكليات.
ويذهب ألكسيس كاريل في كتابه المشهور "الإنسان ذلك المجهول"12، إلى أنه من المستحيل أن يفهم العالم الأخصائي الإنسان ككل ما دام غارقًا إلى أذنيه في دراساته الخاصة، وهذا يحدث أيضًا للمعلمين ورجال الدين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع الذين لم يحملوا أنفسهم مشقة توسيع دائرة معلوماتهم العامة عن الإنسان، قبل أن يختاروا موضوعا معينا يتخصصون فيه"13.
فالتخصص الشديد المنعزل يخلق صعوبات وهو كما، يصفه شرودنغر، "ليس فضيلة، ولكنه شر لا بد منه"، غير أن ثمن ها الشر هو العقم، كما يقول عالم الرياضيات موريس كلارين، الذي يضيف" ربما تطلب التخصص مهارة فائقة، ولكن قلما يكون ذا معنى"، لأن المعرفة المعزولة التي تحصلها طائفة من المتخصصين في حقل ضيق لا قيمة لها البتة، إلا إذا أدمجت في سائر حقول المعرفة"14.
إن إقفال النوافذ وعدم فتحها لدخول تيارات هوائية مختلفة الأصول والامتدادات لن يولد سوى العمى الفكري، وتنامي حزب التكنوقراط الثقافي، تلك الطائفة العلمية التي تتساءل، كما يقول روجي غارودي، "عن الشيء كيف يكون؟ ولا تتساءل عن الشيء: لم هو؟. وتجتهد في قضية الوسائل، وتذهل عن رؤية الغايات"15.
لقد ألح غارودي في هذه مقالة "التربية وأزمة القيم" على أن كل نظام تربوي هو في وقت واحد صورة من مجتمع ومشروع له. وقد قال بهذا الصدد: "وأخص ما ينبغي أن تختص به تربية تليق بعصرنا هو أن تجعل الإنسان يعي أن مهمته كإنسان، أن يشارك في الخلق المستمر للعالم، وفي التوليد الإبداعي المطلق الجديد. وأن فعله لا يكون إنسانيًا حقًا، ولا يمكنه من بلوغ ذروة الحياة، إلا إذا اجتمع الخلق الإبداعي والعمل السياسي والحب والإيمان لديه في فعل واحد"16.
والمشكلة هنا ليست في التخصص المعرفي في حد ذاته، وإنما المشكلة في التعصب لهذا التخصص والتفكير به وبأنساقه، من غير التفات إلى ما سواه من التخصصات، وفي المتخصص الذي يفكر في التخصص بمنطق القبيلة في العصر الجاهلي، فالقبلية التخصصية هي الجرثومة المدمرة لأوصال التفكير. وهذا ما دفع الباحثين إلى التنصيص على أهمية تلاقح المعارف وتجاسرها، وترافدها، واتساقها، وتعاونها، و"تشاركها Co-disciplinarité17".
فتجزيء المعرفة، كما يقول ألكسيس كابريل، يعمق من جهلنا بالأشياء، وبأنفسنا،" فجهلنا بأنفسنا ذو طبيعة عجيبة، فهو لم ينشأ من صعوبة الحصول على المعلومات الضرورية، أو عدم دقتها، أو ندرتها...بل بالعكس.. إنه راجع إلى وفرة هذه المعلومات وتشوشها، هذا إلى ما عمد إليه العلماء الذين حاولوا دراسة جسم الإنسان ووجدانه من خلال تقسيمه إلى عدد لا يحصى من الأجزاء" بسبب المغالاة في التخصص من جهة، وبسبب ما تعتبره تلك التخصصات يقينيات، "فالارتباك البادي في معرفتنا بأنفسنا يعود أساسًا إلى وجود بقايا من النظم العلمية والفلسفية والدينية بين الحقائق المقطوع بها18.
وفي الاتجاه نفسه، أحدثت نظرية النسبية وتطبيقاتها، ونظرية الكوانتم، والنظرية الكبرى للمجال الموحد الأكبر، إبدالاً عميقًا في الفكر الإنساني، فالأجزاء في نهاية المطاف في الحقيقة وهم فحسب، لأن كل شيء في النهاية متداخل ومتواصل مع شيء آخر، ويتم هنا إدراك أن المعرفة والمعلومات تهبط بالكل نحو الأجزاء، من الواحد نحو المتعدد، وأن الكل يساوي مقدارا أكبر من مجموع الأجزاء"19.
إن أكبر خطر شكلته منظومة التبسيط، حسب ادغار موران، هي أنها تحاول فهم العالم، ذلك المجموع الهائل من المركبات الدينامية والتشييدية المعقدة واللايقينية والصدفوية والمفتوحة والمتحولة، والإجابة عن أسئلته الكثيرة والمتعددة بأدوات الابستيمولجيا التقليدية، ابستيمولوجيا القرن التاسع عشر: ابستيمولوجيا الثبات والتبسيط والوضوح واليقينية والدوغمائية. وبذلك ففي نظرنا، إن التخصص المصحوب بالابستيمولجيا التبسيطية لهو أكبر مدمر للمعرفة. حيث أصبح الإنسان يدرك تفاصيل التفاصيل دون أن يدرك الأمور في شموليتها وكليتها.
فالعالم وما فيه، كلٌّ مركب ومعقد، كلٌّ مترابط الأجزاء بشكل نسقي تشبيكي ومنظومي، كلٌّ تتجاسر أجزاؤه بما يحقق الوحدة والتكامل، إن العالم ليس ضربًا من الحقائق الجزئية، ولكنه يتكون من وحدات كلية لا مكان فيها للجزئيات المستقلة. فالاستقلال لا يكون إلا منهجيًا من خلال تفريعات بشرية تفرضها ضرورات الحياة. أما العالم وما فيه فواحد. وبهذا الفهم فإن كل علم من العلوم، وكل معرفة من المعارف، لا يمكن لها أن تعتمد على منطقها الخاص، وعلى نتائجها الخاصة، في فهم هذا الكل المركب، بقدر ما تكون تلك المعرفة إضاءة من جانب معين من هذا الكل الغامض، وفهم قاصر لهذا الكل الغامض. "إننا لا نستطيع تجديد أنفسنا وبيئتنا قبل أن نغير عاداتنا في التفكير"20. ولعل التفكير البسيط المتخم بالتخصص عادة من تلك العادات.
ولعل هذه العادات من مخلفات عصر الحداثة، الذي خلف تركة من الإشكاليات الابسستيمولوجية، رغم تحقيق وعوده في زيادة المعرفة والتقدم في متطلبات الحياة المادية الخارجية، تركيزه على براديغم حاكم للعلوم وموجه لها، وهو براديغم التخصص وتجزيء المعرفة، بحيث نلاحظ إغراقه في تجزئة المعرفة واختزالها وتبسيطها والإغراق في التخصصات في ابتعاد عن الوحدة والتكامل. ففي الوقت الذي أصبحنا فيه أناسًا نعرف أكثر فأكثر عن الأشياء الأقل فالأقل، فإننا في الوقت نفسه للأسف أصبحنا أناسًا نعرف أقل فأقل عن الأكثر فالأكثر.
وما يجب التنبيه إليه هو أن القول بوحدة العلوم لا ينفي تكاملها، وتكامل العلوم ينفي وحدتها، كما لا نعني بوحدة المعرفة وحدة الحقيقة، فهذا مما لا ينسجم مع بنائنا المعرفي ورؤيتنا للأشياء، إننا نعتبر الحقيقة تعددية بطبعها، ولا يحق لأحد أن يدعي حيازة الحقيقة الواحدة، لكل منا حقيقته، كما لكل منا بصمته، ولكل منا روحه، فالحقيقة كالروح.
إن استثمار مداخل التكامل المعرفي، والاشتغال بمنطق فلسفة التفكير التكاملي، نعتبره ضرورة ملحة فرضتها مبررات كثيرة ومتعددة، فكما قال كارل بوبر: "إنه من خلال التكامل فقط يصبح البحث جديرا بالثقة"21.
الهوامش والإحالات
1 - المهدي المنجزة: الالتحام بين العلم والثقافة مفتاح القرن الحادي والعشرين، تعريب محمد بريش، المستقل العربي، العدد 136 مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1990 ص:17
2 - د-علي القرشي: توطين العلوم في الجامعات العربية والإسلامية، كتاب الأمة، قطر،العدد 125، ص 184
3 - كمال بومنير: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت رمن ماكس هوركهايمر إلى اكسيل هونيت، منشورات الاختلاف، الجزائر، دار الأمان، المغرب الدار العربية للعلوم ناشرون –ط1 سنة 2010، ص 29
4 - حسن مصدق: يورغان هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النظرية النقدية والتواصلية، المركز الثقافي العربي،ط1 سنة 2005، ص:11
5 - هربارت ماركوز: الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت 1988.
6 - هربارت ماركوز: الإنسان ذو البعد الواحد. ترجمة جورج طرابيشي. دار الآداب. بيروت 1988 ص: 12
7 - ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول، ترجمة شفيق أسعد فريد، مكتبة المعارف،بيروت،ط3،سنة 1980،ص: 63
8 - إدوارد ويلسون: وحدة وتناسق المعرفة: مجلة الثقافة العالمية، الكويت، العدد 90 سنة سبتمبر 1998، ص:23
9 - عبدالسميع سيد أحمد: دراسات في علم الاجتماع التربوي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية. ط1 ،1993 ص: 48
10 - مصدق الجليدي: جيروم برونر والتربية السليمة، مجلة ذوات، مؤسسات دراسات وأبحاث مؤمنون بلا حدود، المغرب، العدد12 سنة 2015، ص: 118
11 - الأمة في خطر: أمر إلزامي لإصلاح التعليم تقرير الرئيس الأمريكي رونالد ريغان سنة 1983 بخصوص اللجنة الوطنية للتميز التربوي.. وكان نشر هذا التقرير حدثًا بارزًا في تاريخ العملية التعليمية الأمريكية الحديثة.
12 - ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول، ترجمة شفيق أسعد فريد، مكتبة المعارف،بيروت،ط3،سنة 1980، ص: 45
13 - ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول، ترجمة شفيق أسعد فريد، مكتبة المعارف،بيروت،ط3،سنة 1980،ص 61
14 - روبرت م- اغروس وجورج ستانتسيو: العلم في منظوره الجديد، ترجمة –د كمال خلايلي، عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب العدد 134، 1989 من ص 115 - 155
15 - روجي غارودي: التربية وأزمة القيم. ترجمة: توفيق بكار، مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة بالجزائر، عدد78، - 1983م، ص:48
16 - روجي غارودي ترجمة: توفيق بكار، مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة بالجزائر، عدد78، -1983م، ص: 83
17- Claudine Blanchard-La vill:،«De la Co-disciplinarité en Science de L’éducation.»Revue Française de Pédagogie, N° 132, Juillet-Septembre 2000, p. 55- 66.
17 - ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول، ترجمة شفيق أسعد فريد، مكتبة المعارف، بيروت، ط3، سنة 1980 ص 45.
18 - مجموعة من المؤلفين: التكامل المعرفي أثره في التعليم الجامعي وضرورته الحضارية، تحرير رائد جميل عكاشة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 2012 ص:25
19 - ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول، ترجمة شفيق أسعد فريد، مكتبة المعارف، بيروت، ط3، سنة 1980 ص 216
- 20 Boyer, Ernest. Scholarship reconsidered: Priorities of Professoriate. Princeton, NJ Carnegie Foundation for the Advancement of Teaching, 1990
21 - نقلاً عن: كتاب التكامل المعرفي م.م. ص:23.
تغريد
اكتب تعليقك