العولمة واختلال الأنساق الاجتماعيةالباب: مقالات الكتاب
يسري الغول فلسطين |
عملت الثورة التكنولوجية الهائلة على تطويع المجتمعات؛ لتصبح هجينًا من الثقافات والأفكار، تسيطر على أفراد أي مجتمع وتسرقه من واقعه وظروفه إلى عوالم أخرى وبيئات ليست ذات قدرة –غالبًا- على التماهي مع التطور الحاصل. إذ أن تلك العوامل استطاعت أن تسيطر على عقول الأجيال حديثة السن، وتذهب بهم إلى أقسى أنواع التمرد.
ولعل وسائل التواصل الاجتماعي، التي تتطور كل يوم، وتنتشر بشكل مذهل، وضعت الجيل القديم في مواجهة الجيل الجديد، ليس على مستوى المنطقة العربية فحسب، بل على مستوى العالم، وباتت الدول الضعيفة تتأثر بكل أدوات الاستعمار الكولينيالي من حيث الشكل والمضمون، بخيره وشره. ليس ذلك فقط، بل بات أفراد تلك الشعوب، وتحديدًا شعوب العالم الثالث، يعملون لدى الشركات العالمية الكبرى لأجل تسويق ذلك التغيير في الوعي الإنساني الشمولي، رغبة بالوصول إلى امتلاك العقل من جهة القوى الاستعمارية بما لديها من الأهداف على صعيد الفرد والمجتمع.
بالعودة إلى الوراء قليلاً، فقد عمدت الدول الكبرى إلى السيطرة والاستقطاب وتسويق الثقافة من خلال الجيوش والأسلحة، إلا إنها تكلفت المبالغ الطائلة والخسائر الكبيرة، رغم بعض الإنجازات الطفيفة من ترويج العادات واللغات، كما جرى مع دول المغرب العربي مثلاً، إذ أن فرنسة اللغة سارت على قدم وساق، بالإضافة إلى إتقان المواطنين للفرنسية كلغة بديلة أحيانًا، ومثل دول الكومنولث، رغم سياسة التجهيل البريطانية، بالإضافة إلى الألمانية ووجود أكثر من ستة ملايين مواطن تركي في ألمانيا، وأمثلة كثيرة لا حصر لها، وذلك كما أسلفنا، لاستقطاب شعوب تلك الدول ومقدراتها وجيوب أبنائها لصالح القوى الاستعمارية.
حين فشل الاستعمار من غزو الأمم بالوسائل القديمة ولم يحقق الأهداف المرجوة كاملة، ذهب إلى تجييش العديد من الأفراد لصالحه، من خلال استقطاب أصحاب الكفاءات العلمية والمعرفية، بإطلاق المنح الدراسية والدورات التدريبية والبرامج الفكرية والمشاريع وغيرها، حيث أن جيش المؤمنين سيساهم في نشر رؤية الاستعمار وأفكاره، وذلك للوصول إلى استثمار الدول الضعيفة، على صعيد الأيدي العاملة والمقدرات الطبيعية والفكرية، وصولاً إلى جيوب المواطنين من خلال الأدوات الاستهلاكية المادية الحياتية والانترنت والأدوية وغيرها، وما كورونا عنا ببعيد.
ورغم ذلك فإن تلك الأدوات ذات تأثير بطيء، يتعطل بمرور الوقت، فكان لا بد من إيجاد وسائل أخرى قادرة على اختراق الأنساق الاجتماعية، فجاءت الثورة التكنولوجية، ووصلت حتى هذه اللحظة إلى مرحلة تسويق وسائل التواصل الاجتماعي، وانتقال التأثير من المكان إلى اللامكان، ومن الزمان إلى اللازمان، بمعنى أنه ليس بالضرورة أن تكون مكانيًا وزمانيًا في أي دولة من تلك الدول كي تتأثر بالأفكار تسويقها، وباتت كل أمة تعاني الويلات نتيجة اختلال المفاهيم، وصناعة الشذوذ الفكري والإنساني، وتعزيز نظام التفاهة إلى الواجهة كما نشاهد عبر تطبيقات التيك توك والسناب شات والفيسبوك، لأجل تحقيق الأهداف العملاقة التي تتم بالاتفاق بين الشركات الكبرى وليس الدول فقط، ثم تقاسم الثروات من خلال السيطرة على العقول وتعطيلها أو إشغالها بقضايا هامشية.
لم يصل الأمر إلى هذا الحد فقط، بل انتقل من مربع التعطيل إلى التذويب، وباتت المسلمات المجتمعية في أزمة كبيرة، إذ أن المقدس لم يعد كذلك، وأن المحرم بات بأسماء أخرى كثيرة تمنحه صفة الشرعية، يدافع عنها هؤلاء الأفراد، لنتبين أن مواطني العالم الثالث نتيجة الانغلاق العقيم، والوسائل التقليدية عطلت القدرة على الفصل بين الجيد والسيئ في الحضارات، حتى وصلنا إلى نقطة الصدمة الثقافية (Culture Shock)، لدرجة اهتزاز الوعي، واختلال الأنساق الاجتماعية باختراق طفولة الطفل، ذكورة الرجل وأنوثة المرأة.
فالفطرة التي جبل عليها الرجل مثلاً، بحثه عن جسد المرأة من خلال علاقات متعددة، إما بالزواج أو طرق أخرى غير شرعية (فلو كان لابن آدم كل النساء إلا واحدة لتمناها)، في حين أن المرأة تبحث عن السكينة والعلاقة الدافئة المفعمة بالحب والرومانسية، وتكتفي برجل واحد يمكن له أن يمنحها ذلك، وكما قيل الرجال من المريخ والنساء من الزُهرة.
المؤسف، أن الرجل تم هدم أركانه من خلال مواقع إباحية كثيرة أو أفكار معطلة للبناء الأسري، حيث تظهر له مفاتن كل أنثى، وتعمد إلى إشغاله بوسائل أخرى غير العلاقة الجسدية المباشرة، أو بأشكال منبوذة مجتمعيًا وإنسانيًا، ومحرمة دينيًا. في حين أن المرأة باتت تعيش حالة من التيه، بدءًا من الإعجاب بممثل في فيلم أو مسلسل، ثم مقارنة الزوج بهذا البطل أو ذاك، ممن يُظهِرون الشكل اليوتوبي المثالي، وصولاً إلى الإعجاب بشكل مباشر من زميل عمل أو صديق أو قريب في العائلة، من خلال المتابعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يفتح باب الحوارات والأحاديث والدردشة، ومن ثم انتقال مرحلة الكلام إلى الفعل، ومن العادي إلى غير العادي، ومن الإعجاب إلى ممارسة علاقات آنية يتم اكتشافها بمرور الزمن، لتتفسخ الأسرة ويصبح الطفل العربي ممزق بين أب وأم يعيشون في عوالم مختلفة، وحاضنات تحمل الحقد والكره وغيره.
ليس هذا فحسب، بل انتشار وتعزيز مفاهيم المثلية بين كل الأجيال، بما فيهم الأطفال، وتسويقه لهم من عرض الدعايات أثناء اللعب بشكل إجباري، يؤكد وصول الإنسان إلى اختلال النسق الفكري والنفسي ثم وصوله إلى المجتمعي، وذلك لأجل اختطاف عقولهم، وكيّ الوعي لديهم وتحطيم المُثُل التي نشئوا عليها، ثم فرض هذا الواقع على المجتمعات، للوصول إلى غايات الاستعمار من نبذ الأنساق الاجتماعية المتزنة ليصبح المواطن بين حيص وبيص؛ فيسهل تمرير أي صفقة أو قضية أو مشروع.
إن الاستعمار الكولونيالي يسير بقوة نحو تدمير البناء الأممي المتمثل في الأسرة من خلال الثورة التكنولوجية ومن خلال المؤسسات التي تدعي مناصرتها للمرأة، لتحطيم تلك الأمم وحضارتها، حتى تظل أسيرة لدى الاستعمار، يعبث فيها وفي مواردها الطبيعية كيف يشاء، لمواجهة قوى استعمارية أخرى.
لذا، فإن أي أمة، وتحديدًا الأمة العربية بحاجة إلى صناعة نموذج حقيقي يحمي أبناءها من اختلال الأنساق الاجتماعية، وحماية الأسرة بصناعة النهضة والشروع بتقبل شمس الحرية والرأي الآخر بما لا يسمح بتهتك العصب النفسي والجسماني والعقلي للإنسان العربي، وعدم السماح لأحد العبث بالقيم التي جاءت مع الفطرة الإنسانية الصرفة، وإلا فإن القادم خطير.
تغريد
اكتب تعليقك