ما هو فعل التفلسف؟الباب: مقالات الكتاب
نورالدين البودلالي المغرب |
بقلم: فرانسوا غاليشيه
ترجمة: نورالدين البودلالي
الفلسفة، التي تتميز بتساؤلها الأنطولوجي (ما هو؟)، لا يمكن أن تفشل في التساؤل عن نفسها. الواقع أن لكل فيلسوف تعريف للفلسفة، وبالتالي تعريف لفعل التفلسف. غير أن تعددها بنفسه مقلق فعلاً: إنْ كان لكل مفكر تصوره الخاص عن الفلسفة، يختلف به عن الآخرين، فما الذي يسمح بلمِّها بأكملها في نفس الحقل، بتجميعها تحت مفهوم واحد، مفهوم الـ«فيلسوف»؟ قد يكون للعلماء مفاهيم متعددة عن العلم، والفنانين عن الفن: الثابت أن بإمكان العلم والفن أن يتميزا بعدد من السمات الموضوعية، التي تسمح بتخصيص هوية لهما في استقلال عن التمثلات التي نكونها عنهما والتعاريف التي نصوغها لهما. هل يسري هذا بالمثل على الفلسفة؟ من الممكن، في هذا الصدد، صياغة عدد من الفرضيات، وعدد من المعايير الممكنة التي تسمح بتحديدها.
معايير التفلسف
موضوعه
يمكن بدءًا للتفلسف Le philosopher أن يتميز بالمواضيع التي يهتم بها. فكما أن كل تخصص علمي يتحدد بالمجال الذي يقتطعه لنفسه ضمن الحقل اللامتناهي للواقع –الفيزياء، البيولوجيا، العلوم الإنسانية لكل واحدة مجالها الخاص بها- فإن الفلسفة تتحدد بمضمونها، من خلال طبيعة الواقع الذي تهدف لمعرفته. بذلك فإن مجال الأفكار، في مقابل عالم الظواهر، هو الذي يحدد، بالنسبة لأفلاطون، كلّا من منهج التفلسف (الجدل) والغاية منه (الحكمة). سيتبنى ديكارت هذا المفهوم من خلال جعل التفكير، كمقابل للامتداد، الموضوع المُحدِّد للفلسفة: إذ هي المعرفة بالروح في حد ذاته، في إطار منهج تأملي يستكشف المفاهيم الأولية وتسلسلها. وبالمثل، يدعي هوسرل أنه يجعل من الفلسفة «علمًا صارمًا» في إطار كونها استكشافا ظاهراتيا phénoménologique للجواهر المكونة للتجربة الحية.
غير أن الدفاع عن هذه الوضعية يبدو أقل قابلية. من جهة، المواضيع المميزة تقليديا للفلسفة –العقل، الفكر الأخلاقي (الخير، العدالة) أو الجمالي، العالم منظورًا إليه بشكل شمولي، طبيعة الاجتماعي والسياسي، وغيره- هي الآن أيضًا إلى حد كبير مواضيع علمية، سواء تعلقت بالكوسمولوجيا (بالنسبة للعالَم) أو العلوم الإنسانية، بالنسبة للعقل والقضايا الأخلاقية أو السياسية. وعلى العكس، فالمواضيع التي بدا أنها لم تكن ذات يوم غير ذات صلة بالفلسفة –خاصة تلك التي ترتبط باليومي، بالتجربة الأكثر تفاهة وابتذالاً- قد تضمنتها التساؤلات الفلسفية المعاصرة: وبسبب هذا التوسع في نطاق الفلسفة حارب مؤلفون كبرغسون وسارتر.
لذلك فإن مجال التفلسف، في نهاية المطاف، يتماشى مع مجال التجربة والمعرفة بأكملهما؛ هذا يعني أن كل موضوع، كل تجربة، وكل مُعاش يمكنه أن يكون التساؤل حوله فلسفيًا. غير أنه إنْ كان بالإمكان التفلسف انطلاقًا من أي وضعية، من أي واقعة، فهذا يعني بشكل خاص أن كلّا منها يمكنها ادعاء قدرتها على تعريف الفلسفة.
منهجيته
إننا نسير حتمًا في اتجاه معيارٍ ثان: ففي غياب القدرة على التميز من خلال موضوع أو مجموعة مواضيع، يتم تعريف التفلسف بنهجه، بمنهجيته الخاصة التي يستخدمها. فالفلسفة بالنسبة لهيغل، مثلاً، متعايشة مع الوجود («كل ما هو عقلاني واقعي، وكل ما هو واقعي عقلاني»)؛ لكن وعلى عكس نُهَجٍ أخرى العلمية والفنية والدينية، تسلط الفلسفة الضوء على طابعها الجدلي؛ وبذلك يكون المنهج الجدلي هو الذي يميزها من حيث هي كذلك. سيتبنى ماركس هذه الفكرة مميزًا بين المادية التاريخية، التي تقوم على تحليل الواقع بأدوات المنطق الكلاسيكي، والمادية الجدلية، التي هي من صلب الفلسفة أو بالأحرى هي الفلسفة ذاتها.
من الممكن اليوم الميل إلى تعريف التفلسف، مثلما فعل ميشيل طوزي، من خلال مجموعة من الخطوات هي خاصة به: المفهمة، والأشكلة والبرهنة. هذه الخطوات الثلاث ستشكل «العمليات الأساسية للفكر الفلسفي»(1). لكن من المشكوك فيه أنها تميز هذا الأخير في حد ذاته. ألا يتضمن كل منهج عقلاني، والعلمي منه خاصة، عمليات للمفهمة، والأشكلة والبرهنة؟ نجيب أن المفهمة، والبرهنة والأشكلة الفلسفية غير قابلة للاختزال في وضع المفاهيم، أو صياغة البراهين أو بناء الإشكاليات، مثلاً؛ إذ أن لها طابعًا خاصًا، مميز للفلسفة، بل يمكن أن نقترح على التلاميذ تمارين تهدف إلى جعلهم يحددون ما يميز تساؤل فلسفي عن تساؤل تجريبي أو علمي. قد يقال مثلاً أن هذا يتعلق بوقائع قابلة للتحقق التجريبي، في حين أنها تتعلق بجوهر أو دلالة عميقة، وجذرية، لظاهرة ما. إلا إنه في هذه الحالة، لم تعد هذه العملية العقلية أو تلك هي التي تحدد الفلسفة، وإنما الطريقة التي يتم الاشتغال بها؛ حينها سنعود إما إلى القول بتصنيفٍ حسب المواضيع (ظواهر تجريبية/مفاهيم أولية)، وإما بتمييزٍ مجالي (مادي/ميتافيزيقي)، التي سبق لنا رؤيتها واعتبرنا كل منها غير كافية لتفسير التفلسف.
إلى هذا ينضاف أن الثلاثي مفهمة/أشكلة/برهنة ربما يكون محدودًا إلى حد كبير للتعبير عن كل مظاهر التفلسف. إنّ التفلسف، إن أخذناه مثلاً لدى كاتب كبرغسون، يتحدد تمامًا بعكسه: بالنظر إلى المفاهيم التقريبية والمصطنعة للمقاربة المفهومية المرتبطة بحاجيات الممارسة والمعرفة للمادة، فإن المنهج الفلسفي يتمثل في العودة إلى الحدس الحي للديمومة. فيما يتعلق بالتساؤلات الزائفة الشبه فلسفية، لابد من العودة إلى حالات اليقين الخاصة بالمعطيات المباشرة للوعي، ذلك أن «القضايا الحقيقية الكبرى لا تُطرح إلا عندما يتم حلها». فيما يتعلق بتقنيات البرهنة التي تطبق في كل أوجه الواقع نفس الخطوات المنطقية، لابد من استعادة الإيقاعات الفريدة لكل تجربة(2).
في نفس المنظور، يمكن التساؤل إن كانت أنماط من التعابير كالقول المأثور، بمثل ما مارسه نيتشه، أو الخطاب الشعري أو التنبؤِي، كما بثه نيتشه في زرادشت، تشكل جزءًا أم لا من التفلسف. إن كانت الإجابة بلا، فبأي حق يتم استبعاد مثل هذه الأشكال الخطابية؟ وإن تم قبولها، فلِم يتم اختزالها في صياغة عمليات للمفهمة، والأشكلة والبرهنة، هذا في الوقت الذي يبدو واضحًا أنها تتجاوز وتنتهك من جميع الجهات القواعد المنطقية التي تميزها؟
يبدو إذن، على غرار المواضيع، أن تعريف التفلسف بواسطة عملياتٍ للتفكير هو في نفس الوقت واسع جدًا (نظرًا لوجوده ضمن مناهج أخرى، كالمنهج العلمي) وضيق جدًا (لأنه يستبعد أشكالاً أخرى من التفلسف الذي هو بالتأكيد الأقل انتشارًا أو الأقل تمثيلية للمتن الفلسفي، لكن من الأهمية بمكان).
غايته
يمكن عندئذ طرح معيار ثالث: ألا يمكن تعريف التفلسف بغايته؟ ألا يكون هذا هو النهج الذي من خلاله تُنتزع به الذات أو تحاول تُنتزع من كل تكيّف لبلوغ الاستقلالية الفكرية والأخلاقية، النظرية منها والعملية؟ كلمة السر هي: «التفكير بذاته» التي ستعبر حينها عن جوهر التفلسف، الذي لن يعد مرتبطًا بحتمية موضوعية (مجال الذات الخاصة) ولا بحتمية صورية (استخدامُ منهجيةٍ، وعمليات عقلية محددة)، وإنما بحتمية ذاتية، أي بإرادة ذاتٍ، بممارسة حرة معنية بتأكيد الذات صراحة.
في هذا المعنى جعل جون-كارل بوتييه Jean-Charles Pettier من التفلسف شرط إمكانية المواطنة، وبالتالي الديموقراطية. الـ«حق في الفلسفة» هو إذن أول حقوق الإنسان، الذي عليه تتأسس كل الحقوق الأخرى، وذلك بقدر ما أن ممارسة الـ«حريات الأساسية» تفترض قدرة كل إنسان على تحديد قيمه، مشاريعه، مبادئه الفكرية والعملية وذلك بطريقة سيادية – تحديد الفعلي لتعريف التفلسف.
هذا التوصيف هو بالتأكيد الأكثر وضوحًا. لكنه ربما لا يزال محدودًا جدًا، بقدر ما إنه بالتحديد ذاتي، أي بقدر ما إنه يختزل التفلسف في عملية فردية، وفي حدود مفردة. كيف يمكن إذن إبراز البعد الكوني للتفلسف؟
الفلسفة من حيث هي «بلهاء»
يبلور جيل دولوز، في واحد من دروسه، موضوعة الفيلسوف باعتباره ذاك الذي، من سقراط إلى دوستويفسكي، يكون حقيقة أو يلعب دور «الأبله». ما الذي تعنيه بالضبط هذه التيمة؟ لفهمها لا بد من الرجوع إلى ديكارت، حين يقابل التعريف الأرسطي للإنسان من حيث هو «إنسان عاقل» بمقولته الخاصة للكوجيطو («أنا أفكر إذن أنا موجود»). يستند تعريف أرسطو على افتراضات واضحة: لفهمه من الضروري معرفة ما يعنيه الحيوان وما يعنيه العقل بشكل مسبق. في المقابل، يستند الكوجيطو على افتراضات ضمنية: إذ لا يمكننا أن نفكر، كما يقول ديكارت، دون أن نعرف، بشيء من الغموض إلى حد ما، ما هو الفكر؛ لا يمكننا القول «أنا» دون أن تكون لنا على الأقل معرفة حدسية عما يعنيه «أنا»؛ لا يتحقق لنا الوجود دون معرفة ما الوجود.
ما هو مطروح هنا إنما هو التمييز، الأساسي انطلاقًا من ديكارت فصاعدًا، بين العقل الطبيعي والعقل العالِم. تعريف الفلسفة بأنها «بلهاء»، يعني تعريفها بكونها لا-معرفة (بمعنى العقل العالِم). سقراط، كما يضيف دولوز، يلعب دور «الأبله»؛ تشديده على الجهل («كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئًا») هو وسيلة للانفصال، فجأة، عن كل المعرفة المكتسبة، عن كل المعارف المنقولة من خلال التجربة والتربية، واستبعادها رغبة في العودة إلى البديهيات الوحيدة للوجود من حيث هو موجود.
تأتي كلمة «أبله Idiot» من الأصل اليوناني idiôtès، التي تعني «شخص عادي»، في مقابل الحاكم، أو الإنسان العام أو خبير، أي من يعلم، ومن له معارف. من هنا جاء المعنى الفرنسي الـ«رجل الذي لا علم له، جاهل» و، وبالاشتقاق، رجل غبي، لا ذكاء له ولا ثقافة. في معناها اليوناني، تشير الـ«أبله» إذن إلى طباع الذي، من لا قدرات له ولا معارف محددة، هو «مجرد إنسان فقط»، لا يتمتع سوى بالطباع العامة المميزة للإنسان، غير مضافة إليها الصفات التي تطبع ثقافة ما، وضع اجتماعي ما أو مهنة ما. إلا أن الـ«أبله» تعني أيضًا «ما يخص شخصًا ما»، «بعينه»، «خاص»، أي ما يجعله مختلفًا، وما يميزه عن جميع الآخرين (من هنا جاء، في الفرنسية، نصطلح «بلاهة idiotisme» للإشارة إلى خصوصيات لغة ما)(3). هذا المصطلح يقدم إذن، في اللغة اليونانية، مفارقةَ الدلالة في ذات الوقت على كل من العمومية القصوى والتفرد الشديد: أن يكون لها، في نفس الوقت، معنى سلبي (الأبله idiôtès باعتباره الإنسان الذي ليس نبيلاً ولا عالمًا هو المواطن العادي، وبالتالي إنسان الوسط المتواضع، رجل الشعب) ومعنى إيجابي (مادام يعبر عما يشكل تفرّد كل واحد، طبيعته الأكثر عمقًا، الأكثر أساسية، بغض النظر عن المحددات المكتسبة أو العرضية).
لكن هذه المفارقة تبدو وكأنها تخص الفلسفة بالضبط. فمن جهة، إنها تدعي الشمولية، وبالتالي فهي تفكك ما هو، في الإنسان، عرضي، ظرفي، ثقافي، عما هو خاص به في حد ذاته. هذا يستدعي تهميشًا، أو نسيانًا أو استبعادًا بشكل إرادي لكل المعارف ولكل التخصصات أو لكل مواصفات الجنس البشري – مع المجازفة بـ«لعب دور الأبله»، مثل سقراط، أو ديكارت الذي عمل على الشك حتى مما يبدو أكثر بداهة والأكثر يقينية: وجود العالم. لكن من ناحية أحرى، تؤدي بنا هذه الرغبة في الشمولية المطلقة إلى بلورة فكرة تبدو فريدة من نوعها، مختلفة عن كل ما عداها، وبالتالي فريدة بشكل بارز: إذ ليست فلسفة ديكارت هي نفسها فلسفة كانط أو سبينوزا. في هذا يقول برغسون، «لا توجد، ولا يمكن أن توجد فلسفة واحدة، كما يوجد علم؛ على العكس، سيكون هناك دوما العديد من الفلسفات بقدر ما هنالك من فلاسفة أصليين. وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ بقدر ما يكون المفهوم مجردًا، بقدر ما تكون له دوما في تصور ما نقطة انطلاقه»(4). ذلك أن التفلسف، في نهاية المطاف، وعلى عكس العلم، لا يستهدف إنتاج مفاهيم، ولا وضع قوانين قادرة على تفسير الواقع، وإنما إلى توضيح تجربة هي في نفس الوقت فريدة وشمولية، إلى وصف تجربة هي دائمًا تخص شخصا ما، لكنها في ذات الوقت تقدم نفسها على أنها معيارية بحتة، أي أنها صالحة بشكل مسبق لكل إنسان.
إلا أن هذه المفارقة هي نفسها التي تميز الأنانية الطفولية، كما يرى ذلك بياجيه: فالطفل يحيى تجربته باعتبارها بالضرورة تجربة الجميع، ووجهة نظره بكونها الوحيدة الممكنة، وتفردها كونية. من سخرية سقراط إلى أبوخية épochè هوسرل (وضعُ جانبًا كل ما يحيل على «الوضعية الطبيعية» للعودة إلى الحدس الأصلي للمعاش)، من الكوجيطو الديكارتي إلى الفكر النقدي الكانطي، هناك دومًا في فعل التفلسف إرادة البراءة، عودة إلى نوع من السذاجة الأولية خارج أو بالأحرى تحت حيل ومكر الحياة الاجتماعية –السذاجة التي هي في نفس الوقت شرط إمكانية الإمساك بحقيقة الإنساني وصولاً إلى تجاوز التنوع الإنساني.
بهذا المعنى، يمكن القول أن هناك تقاربًا عميقًا بين الفلسفة والطفولة. لا شك في أن الطفل هو في أصله إنسان، لكنه لم يتعلم بعد، وبالتالي ليس بعالِم؛ إنه إذن إنسان، إنسان فقط، ليس بعد عضوًا من أي مجتمع أو من أي ثقافة محددة.
بكل تأكيد، ليس من الممكن إقامة تكافؤٍ تام بين الحالة الطفْلية والموضوعة الكلاسيكية للعقل الطبيعي: إذ بالنسبة للمنظور العقلاني، لا تنفصل الأخيرة عن تفسيرٍ يفترض اللغة، والتأمل والحجاج. لكن روسو عمل مسبقًا على عكس هذا المنظور من خلال إقامة بديهيات للعقل الطبيعي على أساس وعيٍ بالذات يحيل، لا إلى الحدس الفكري للكوجيطو كما هو الحال عند ديكارت، وإنما إلى حب الذات، بالامتلاء الذي به يتزامن الإحساس بالذات مع الإحساس بالسعادة، كدليل أساسي عن الوجود باعتباره خيّرا في حد ذاته.
بذلك، لا يعني فعل التفلسف تفعيلٌ جادٌ لشك منهجي ينمو ببطء وبصعوبة نحو تساؤل حول أراء ومعارف مكتسبة. إنه بالأحرى القيام منذ البداية، من خلال انجذاب مفاجئ، بانعكاس شبه مباغت (حتى وإن كان من الضروري أن يكون مهيأً منذ زمن طويل وبشكل دقيق)، في هذه الوضعية من الملاءمة الأولية مع الذات التي تسمح بانتقاد اليقين الزائف للوجود الاجتماعي.
بهذا المعنى، يكون فعل التفلسف مع الأطفال، وجعل الأطفال يتفلسفون، هو، بمعنى من المعاني، استعادة المبادرة التي كان كل فيلسوف قد قام بها. إن كان الطفل هو «الأبله» بامتياز (البطل، في رواية دوستويفسكي، دائما يُقارَن بطفل، ويعتبر طفلاً مفقودًا في مجتمع الراشدين)، ففعل التفلسف هو الرجوع إلى حالة السذاجة والبراءة المميزة للطفولة مع الاستمرار في القدرة على التفكير فيه وتفسيره في خطاب مفهوم من قبل الجميع.
انطلاقًا من هنا، يمكن تحديد بضع نتائج عملية من هذا التحليل. عادة ما يدرك المدرسون فعل التفلسف كتجاوز، بله كنسيان كلي للتجربة الفردية لكل فرد، بغية مواجهة الأفكار. هاته الخطاطة، التي من الوحي الأفلاطوني و/أو الديكارتي، تقود، أثناء التبادل اللفظي أو الإنتاجات الكتابية، إلى رفض كل ما لا يكون من مرتبة الحجاج ولن تؤدي معنى التجريد المفاهيمي. لكن إن كان الإقبال على الكونية الفلسفية، على عكس الكونية العلمية، يمر من التفكير في بلاهة التجربة الحية، من الوجود «البحت»، السابق عن كل علم وكل معرفة قائمة، ربما كان من الضروري الزيادة في تنويع أشكال فعل التفلسف. ربما لن يكون الحوار الجدلي التقليدي المنهجَ الوحيد؛ منهجيات أخرى يمكنها بل ويجب عليها أن تُكتشف، مثل المقاربة المجازية لموضوع ما، أو الكتابة السردية أو الشعرية، أو اللغة التصويرية، أو لعب الأدوار، وغيرها(5). «بقدر ما يكون المفهوم مجردًا، بقدر ما تكون له دومًا في تصور ما نقطة انطلاقه»، كما قال برغسون. وإذا قبلنا حقيقة هذا الطرح، فإن تعلم التفلسف يعني أولاً وقبل كل شيء إدراك، والتفكير ووصف تجربة المرء، والعودة إلى «ذات الشيء»، كما هو مطلوب في المنهجية الفينومينولوجية، حتى قبل تعلم التعامل مع الأفكار.
الراشد الذي يتفلسف يعمل على أن يصبح طفلاً مرة أخرى بالقدر الذي، كما رأينا، يحاول أن يمتلك البديهيات الأولية للوجود قبل أن تتم تغطيتها بتفاهات اللغط، بما يسميه هايدغر بـ«نحن on». لكنه لا يعود حقيقة الطفل الذي كان، لعدم قدرته محاكاة البلاهة، والتظاهر بالتخلص من المعارف التي يمتلكها. وفي المقابل لا يصبح الطفل الذي يتفلسف راشدًا مرة أخرى، لأن فعل التفلسف لا يمكنه أن يعطيه المعارف والقدرات التي تكسبه إياها التربية شيئًا فشيئًا. لكن يمكن لفعل التفلسف، للتفكير في طفولته، للتعبير عن التجارب والأوليات التي يحياها أن تبيح له بأن يصير راشدا آخر –راشدًا لا يمكنه، بالفعل، فقدان، ونسيان الطفل الذي كان عليه بشكل تام.
المصدر:
https://philogalichet.fr/wp-content/uploads/2011/10/Quest-ce-que-philosopher.pdf
الهوامش:
-1Cf M.Tozzi et alii, Apprendre à philosopher dans les lycées d’aujourd’hui, CNDP-Hachette, 1992, p. 37.
2 - حول هذه النقطة نسمح لأنفسنا للإحالة على مقالنا:
Une critique des lieux communs de la philosophie scolaire, Les Cahiers philosophiques de Strasbourg, n° 6, 1998,pp.95- 108.
-3 Dictionnaire Bailly, Hachette 1929, p. 957.
- 4Bergson, La Pensée et le Mouvant, PUF, 1962,p. 147.
5 - انظر فيما يتعلق بهذه المنهجية مؤلف م. ضوزي وآخرون المشار إليه سابقًا.
تغريد
اكتب تعليقك