غواية الحكي: قراءة في خطاب الهامش ألف ليلة وليلة أنموذجًاالباب: مقالات الكتاب
يوسف بوزياني المغرب |
تمهيد:
إن الأدب الشعبي هو جزء من تراث الأمة، والسر في بقاءه حاضر بين البشر كونه يشكل هويتهم ويحفظ أخبار الناس وأحوالهم وعاداتِهم. يقول جيلي مامادو من عائلة كويتي التي كانت تخدم أمراء كايتا بمنطقة ماندين "نحن مخزَنُ الكلمات، نحن مستودع الأسرار المتناقلة من قرن لآخر. لا تختفي علينا لطائف القول ودقائقه، من دوننا تضيع أسماء الملوك وتجرفها لجج النسيان، نحن ذاكرة الناس، وبالكلمات نبث الحياة في أفعال الملوك وتصرفاتهم كي تستحضرها الناشئة(1).
وعلى الرغم من مكانة هذا الأدب الرفيعة في التأريخ لتراث الأمم والشعوب، إلا أنه لم يحظى بالعناية الكافية بالقدر الذي أعطي لباقي الأجناس كالقصة والرواية والمسرحية. فقد حكم غيابيا لأنه صوت الهامش المنسي والمغيب باستمرار، أمام تجبر أدب النخبة. لكن هذا الأدب استبدل الاستسلام بالتمرد والتخفي بالعلن.
لقد شكل هذا الاقصاء الممنهج دافعًا قويًا عند طائفة من الباحثين لسبر أغوار هذا الأدب واستكشاف دروبه. ونذكر من بين الدراسات الجادة في هذا الصدد، دراسة الباحثة الدكتورة سهير القلماوي التي كان لها الفضل في رفع الحجاب عن هذا الأدب بدراستها الموسومة بـ"ألف ليلة وليلة" سنة 1943 والتي شكلت منعطفًا في معرفيًا أغنى الساحة الثقافية العربية.
ينقل كتاب "ألف ليلة وليلة" القارئ إلى عالم ساحر، تفْتِنه شخوصَه وأمكنتَه ووقائعَه التي تراوح بين الواقعية والتخيلية، عالم ملئ بالحكايات الجميلة والحوادث العجيبة والقصص الممتعة والمغامرات الغريبة، حكايات خرافية وشعبية وأخرى على لسان الحيوان، وحكايات عن أسفار البحار ومغامراته. أحداث متداخلة ووقائع متشابكة وشخوص أدمية وأخرى من عالم الجن والعفاريت، رحلة في امبراطورية رحبة لا تكاد تنتهي، تعود النفسُ منها مفتونة بالجمال؛ جمال الحكي وغوايته. أسلوب يجعل قارئها مشدودًا إليها، حائرًا في فك طلاسمها وألغازها.
فلا يخفى على متتبع أن السردي العربي يحتوي على نصوص تغوي قراءها عبر العصور، فلا يجدون بدًا من الاستسلام لسحرها والدخول إلى عوالمها المشرعة، إنه بحر ثري بالجواهر والدرر، فيجد الداخل إليه نفسه أمام نصوص تمارس الاغراء ويزداد هذا الاغراء كلما اقتربت منها أكثر. فقد جمع "ألف ليلة وليلة" عشرات الحكايات التي اعتمدت أساسًا على حكاية واحدة افتتح بها القاص هذا السفر العظيم، لتتوالد عنها حكايات فرعية متعددة تتناسل وتتكاثر كما تتكاثر الكائنات.
التلقي الجمالي والسفر عبر الآداب
لم تقف غواية الحكي الذي ترسم خيوطه شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" حدود الثقافة العربية، بل سافرت عبر البحار والمحيطات لتعانق المجهول، بحثًا عن قارئ مجتهد يتذوق النصوص ويتلمس جماليتها، وليس قارئ مستعجل يقلب الورقات ويقف عند العتبات.
وقد وجدت هذه الحكايات ضالتها في التربة الفرنسية، فتأثر السرد القصصي الفرنسي بحكايات ألف ليلة وليلة، وتضاعف إقبال الكتاب والأدباء والعامة من الناس عليه إقبالاً شديد، فسهروا الليالي متتبعين أحداثه ونوادره وطرائفه العجيبة. إن القارئ ولاسيما الفرنسي قد وجد في الليالي متنفس جديدًا جعله يسبح في عوالم ساحرة غير منتهية، بل امتد سحرها إلى كبار الكتاب والأدباء الذين عبروا عن تأثرهم بجمالية الحكي الشهرزادي.
ويؤكد جارسيا مركيز أن الصدفة التي جعلته يعثر في مكتبة جده على كتاب ألف ليلة وليلة هو ما صنع منه أديبًا، وهو اعتراف يدل على الدهشة الجمالية التي أحدثتها هذه الحكايات الشعبية سرعان ما انتقلت إلى سمة تطبع سرده القصصي. الشيء نفسه بالنسبة لفولتير الذي بدأ كتابة القصة متأثرًا بأسلوب السرد في الليالي، وظل يستوحي من حكاياتها الصور الرائعة والمضامين الإنسانية في كتاباته..
غواية الحكي وتلقي العجيب والغريب
استطاعت شهرزاد خلال الليالي نقل الملك إلى عالم يزاوج بين البعد الواقعي والعجائبي، فابزدياد العجائبي والغرائبي تزداد متعة الحكي وجماليته.
إن شهرزاد عملت عن وعي بخلخلة أفق الانتظار عند شهرزاد. لأن الأعمال التي تستجب لأفق القراء تعتبر أعمال عادية، ولا تقدم حساسية فنية جديدة، بل تعيد تكريس المعايير الجمالية السائدة، في حين إذا كان مخيبًا للأفق الانتظار القارئ ومنزاحًا عن معاييره الجمالية، شكل عملاً فنية ذا قيمة عالية.(2)
أما شهريار باعتباره متلقي مباشر للحكي، فلا يمكنه أن يتملص من سلطة الحكي وسحره، فيجد نفسه يتفاعل مع حكاياتها وشخوصها فتمتلكه الحيرة والدهشة أمام عوالم الحكايات.
فقد تمكنت شهرزاد بفطنتها أن تصنع لنفسها موضع قدم وسط مجتمع ذكوري لا يعترف بعبقرية الأنثى وقدرتها على الخلق والإبداع، فبهرت الملك باعتباره متلقي مباشر للحكي وبهرت المتلقي الكوني عبر تاريخ تلقيه للكتاب.
وعن طريق دهشة الحكي التي تولدت عند شهريار، جعلته مشدودًا أسيرًا للحكي مسحورًا بقصصه وطرائفه، وقد ولد لديه رغبة واشتهاء في معرفة باقي الأحداث والتفاصيل، لذلك يطلب باستمرار اتمام الحكاية ومعرفة تفاصيلها. فلذة الحكي خلخلة موازينه الثقافية والنفسية. لذلك تمكنت شهرزاد بحدقتها وموسوعيتها الثقافية أن تسحر شهريار، وتستبدل فعل القتل الذي يقوم به (شهريار) بفعل السرد الذي تقوم به (شهرزاد). وقد نجحت في تعديل سلوك الملك وتصحيح موقفه من فعل الخيانة التي تعرض لها. إن دور شهرزاد في الحكاية لا يختلف عن دور الطبيب النفسي الذي يتسرب إلى ذهن مرضاه ويعالج عقدهم النفسية من خلال حصص كلينيكية.
المصادر والمراجع:
(1) التقاليد الشفهية ذاكرة وثقافة، لويس جان- كالفي، ترجمة رشيد برهون، هيئة ابوظبي للثقافة والتراث، ط 1 سنة 2012 ص8.
(2) سعيد فراع جمالية التلقي وتجديد تاريخ الأدب، مجلة عالم الفكر العدد 1 المجلد 39 ص27.
تغريد
اكتب تعليقك