عتبة استهلالية: دراسة في ديوان (الحزن ينسى أحيانا) للشاعر إبراهيم موسى النحاسالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-11-05 15:24:15

عيسى ماروك

الجزائر

لا يمكن الولوج إلى أي بناء إلا بعد وطء عتبته ، التي تقودنا لا محالة لمدخله ، فلكل مدخل عتبة لذلك  «فقد اهتمت السيميائية الحديثة بدراسة الإطار الذي يحيط بالنص، كالعنوان، والإهداء، والرسومات التوضيحية، وافتتاحيات الفصول وغير ذلك من النصوص التي أُطلق عليها (النصوص الموازية)، والتي تقوم عليها بنايات النص. ويأتي الدور المباشر  لدراسة العتبات متمثلاً في نقل مركز التلقي من النص إلى النص الموازي، وهو الأمر الذي عدته الدراسات النقدية الحديثة مفتاحًا مهمًّا في دراسة النصوص المغلقة؛ حيث تعد تلك العتبات نصًّا صادمًا للمتلقي، له وميض التعريف بما يمكن أن تنطوي عليه مجاهل النص».

 1 - العنوان بوصفه بنية تواصلية :

وفي هذه الدراسة سنحاول مقاربة العنوان من خلال تعالقاته مع العتبات الأخرى المحيطة بالمتن، لأن: «العنوان علامة لغوية، تتموقع في واجهة النص، لتؤدي مجموعة وظائف تخص أنطولوجية النص، ومحتواه وتداوليته في إطار سوسيوـ ثقافي خاصاً بالمكتوب، وبناء على ذلك فالعنوان من حيث  هو تسمية للنص وتعريف  به وكشف له، يغدو علامة سيميائية، تمارس التدليل، وتتموقع على الحد الفاصل بين النص  والعالم؛ ليصبح نقطة التقاطع الإستراتيجية التي يعبر منها النص إلى العالم، والعالم إلى النص، لتنتفي الحدود الفاصلة بينهما ويجتاح كل منهما الآخر».

1-2 العنوان والغلاف:

إن موقع الغلاف والمكان الذي يحتله كعتبة قرائية في مواجهة القارئ وما يثيره من تأويلات - كعتبة أولى-  يحدد أهميته لدى الباحث والمتلقي  على حد سواء.

غلاف الديوان مساحة بيضاء كتب في أعلاها دار النشر واسم الشاعر  وفي الوسط تقريباً  العنوان بلون أخضر وتحته الاسم التجنيسي للعمل الأدبي (شعر) وفي المستوى نفسه تبرز الصورة الشخصية للشاعر مبتسماً مع خلفية رمادية، ولأن الصورة علامة أيقونية تعمل على نقل الأفكار والدلالات من لغة إلى لغة أخرى فهي تحكي المعنى بلغة الشكل: الضلال والخطوط ... ومنه يمكن اعتبار الصورة بأنها رسالة بصرية تحمل خطاباً يرتبط بالعنوان، ومن خلال التأويل نصل إلى أن  البياض هو الفرح الذي يملأ دنيا الشاعر وهو كذلك المحيطون به الذين يجملون حياته، وما الحزن إلا لحظات عابرة تنغّص عليه سعادته وعلى الرغم من ذلك فالشاعر متفائل، لأن اللون الأخضر الذي اختاره للعنوان دلالة على الخصب والنماء، وما الابتسامة المرتسمة على وجهه إلا دليل على هذا التفاؤل رغم قتامة الحزن التي يعكسها اللون الرمادي المحيط بإطار الصورة، وأمام  ضبابية المشهد المحيط به - وعلى الرغم من ما قد يخبئ له المستقبل - يقف مبتسماً في وجه الشدائد، ولعل دلالة الصورة الشخصية التي يؤازرها اسمه المنقوش في أعلى الصفحة إلا دليلاً على الاعتزاز والاعتداد بالنفس ومواجهة العالم، فالوجه المقابل في عرف التشكليين يساوي الجرأة كأنما الشاعر يقول: هاأنذا.

1-2 العنوان والإهداء:

يشكل الإهداء عتبة أخرى من عتبات الكتابة التي توجّه للقراءة بغية الوصول  إلى مكامن  الانفعال في النص الأدبي، بما له من وظائف سيميائية ودلالية وتداولية، يمارس من خلالها سلطة الإغواء  والتحفيز على القارئ, فيوجه  ويرسم آفاق توقعاته للمعنى الذي سيطالعه، وقد خص الشاعر عائلته بالإهداء دون غيرهم: ابنه محمد والدته ووالده المتوفى, وأخيراً زوجته ناهد, فهم مصدر سعادته وفرحه في هذه الدنيا المليئة بالأحزان, ولأن الأسرة مصدر فرح وأمان للإنسان يلوذ بها إذا ما ألم به خطب، فالشاعر يوظف ذلك  من خلال تعلقه بالعنوان (الحزن ينسى أحيانا) فهو ينسى الحزن ويتناساه بين أحضان أسرته, وحتى روح والده الذي فارقه تصنع فرحته بما انطبع في ذاكرته من لحظات سعيدة, وخير دليل على ذلك مخاطبته له كأنما هو شاخص أمامه لم يمت «امتدادك لم يزل قائما» نعم لا يمكن أن ينفذ الحزن للحظات الجميلة التي ارتسمت في مخيلته, وتلقي بظلالها على حياته فتنجلي الأحزان عنه.

3 -  النص-العنوان أوالعنوان (الموسع)

كثيراً ما ينحى المبدعون إلى عنونة أعمالهم الأدبية من خلال ترشيح قصيدة من الديوان  الشعري, أو قصة من المجموعة القصصية ليكون عنوانها على غلاف المجموعة, ولا يكون ذلك اعتباطاً أو محض مصادفة بقدر ما هو اختيار واع نابع من أن النص يمثل روح المجموعة ككل, بل إن النص المرشح هو الديوان, فإن كانت القصيدة العمودية تنبني على بيت هو بيت القصيد وما عداه يدوره حوله شرحاً أو تفسيراً أو تفصيلاً  فإن القصيدة أو القصة هي بيت القصيد إن جاز التعبير في العمل الأدبي, ومن هنا: «بوسعنا الحديث عمّا يمكن تسميته بالنص - العنوان, أي البنية النصية الكلية التي تصلح لعنونة مجموعة كبيرة من النصوص, نظراً للترابط الدلالي بينهما». 

والشاعر إبراهيم موسى النحاس لم يخرج عن هذا المنحى فقد اختار قصيدة عنواناً لديوانه, مما يجعلنا نركز على هذه الخصيصة  في عمله لاستكشاف إستراتيجيات الكتابة عنده, من خلال ما تقوم به القصيدة/العنوان بتحويل الديوان  إلى بنيات صغيرة أو «بنيات نصية موسعة لتدل عليها وتوجه مضامينها باختزال»  يجعلها  تتآلف وتتعاضد مع بعضها على مستوى الخطاب، لتشكل في النهاية المتن الشعري  في الديوان.

من المعلوم أن لغة العنوان غير مشروطة بأي شرط سابق من حيث التركيب، ومن ثم فإن إمكانات التركيب التي تقدمها اللغة كافة قابلة لتشكيل العنوان دون أية قيود أو حدود، فيكون كلمة, كما يمكن أن يكون جملة فعلية أو اسمية، وأيضاً أكثر من جملة بل تنفتح أحياناً لتكون نصاً - قصيدة- تقوم مقام العنوان في وظائفه, وتنطلق التأويلات «من المكون البنيوي والتكوين الجملي والدلالي لهذا النص أو من معانيه الظاهرة والخفية».

إن عنوان القصيدة المركزية والمحورية في الديوان (الحزن ينسى أحيانا) يؤسس لشبكة من العلاقات من خلال اختيار الشاعر  له: عنوانا للقسم الأول من الديوان أولاً ثم عنوانا للديوان ككل فــ«أي ذنب جناه الحزن»  على الشاعر حتى يعقد معه قراناً أبدياً ما يكاد يتخلص منه حتى يعود ليغزو فؤاده؟

«كان يكفي مشهداً كهذا/أن ينتزع بسمة وحيدة/من شفاه/عقدت قرانا أبديا مع الحزن». لكنه حزن لم يتعرف بعد إلى ذاته المقاومة التي لا تستسلم, فتقف شامخة أمام أمواج الحزن التي تضرب شواطئه

«لم يعرفني الحزن جيدا/ربما لهذا/يشاكسني من حين لآخر»

إنه حزن غير ملامحه فأنكر وجهه, وأنكر تجاعيده التي تركتها آثار الزمن عليه فتصفعه كل يوم أما المرآة:

«نفسه ذلك الوجه الروتيني/لم يرحمني مرة/من صفعي بالمرآة في الصباح»

هي مرآة الذات التي لا ترضى بواقعها فتثور عليه وتخلع رداء الخواء, وتنسف كل الحواجز لترتاح ,ثم تقف موقف الضاحك من هزلية الحياة

«ماذا/لو خلعت الخواء/ وتركت لأعضائي حريتها»

لم يكن يحتاج وقتاً ليعرف ذلك, فهو يعلمه أصلا منذ  لامس الخراب وحتى دون  أن يفكر في نفسه, فالحزن  جزء من حياته, بل هو كل حياته

«لم أكن أحتاج وقتا/لأعرف أن الجسد وحده/لا يصلح مرآة لذواتنا»

«لم أكن أحتاج وقتا/ لألمس بيدي هاتين خرابي»

ولأنه لا يعرف الاستسلام كـ «هديل الحمام لا يعرف الاستسلام», فصلابته اكتسبها من كمية الخيبات التي تجرعها «متناسياً عن عمد كمية الصلابة التي تجرعتها» الخيبات في الأصدقاء الذين, ولكن ما الخيانة التي يقصدها الشاعر؟ أهي تركهم له وحيداً في مواجهة الحياة ورحليهم؟ أم هو الغدر؟ فحتى الأماكن تخون وتنسى روادها لأنها تكتسب عاداتهم, فخواء الأمكنة من الأصدقاء لهو أشد وقعا عليه حين تفقد دفئها في غيابهم وتتنكر له بعدهم:

«كان يعلم/أن المقاهي مخادعة/الكراسي/لا تحتفظ دائما بدفء وارديها»

فتصبح الصداقة مرادفاً للخيانة حين: «يقيس ابتسامته بحجم ما يدفع له»

فيتوق لرسم خطاه دون أدنى بصمة أو حتى خيانة صديق يعكر ساعات الفرح التي يسترقها «دون أدنى بصمة / أو حتى / خيانة صديق»

هو الحزن الذي تضافرت فيه خيانة الأصدقاء, وخيانة الأمكنة, ولأجل تجاوزها يقنع نفسه بالتناسي: «وسأقنع نفسي/أن المكان تخلى عن خيانته»

وحتى الوالد الذي غيبه الثرى أسهم في هذا الحزن الذي ينهش فؤاده وقد خانته الصحة وتوالت عليه نوبات الصرع تزيد من مأساته, إنه الوالد الذي لم يعد إلا مجرد ذكرى تمسح دمعة الحزن من عين طفل يغالب الحياة, وقد أحاط الأغراب بمائدة والده فلا تصلها يده, كأنما حالوا بينهما.

«كأن أتذكر قلب طفل من نسيج الخصوبة/تجاعيد عقل أبي/واجتماع أغراب حول مائدة/يفترشون التوحد»

وكيف وجد الحزن طريقه إلى قلبه الملاك, قلب الطفل الذي لا زال يلهو بمفردات العالم ويحلم بقيادة العالم وبركوب الموج, يسبق النهايات يؤثثها بآماله: «عجيب أمر هذا  الـــ -أنا-/ملائكة تتطهر من دمائي»

فيباغته الصرع قبل اكتمال الحلم يسرق منه طفولته: «كنت أناقش الصداع/أغفو قليلا/فأبصر رجلا»

فتعود صورة أبيه ترتسم أمام ناظريه كقطع سكر لم يشبع من طعمها حين باغته الموت كأنما انتزع صورته من الجدار لتحل مكانها صورة الشقاوة والفراغ الرهيب الذي طبع حياته بعد فراق والده: «قطع من السكر /أسميناها ذكريات/ألبسناها تيجانا مرصعة»

إذن هما حياتان حياة «البراءة /التي غرستها في سجادة الصلاة» وحياة الشقاوة والفراغ «طفولة خالية من ضجيج الملاهي» فخلّفت جروحاً غائرة في نفسه استحالت أحزانا أبدية لا فكاك منها: «أذكر/أن دمعة تفر كاليمام/كلما سمع/(قد أفلح المؤمنون)/و(إيمان)/وما حاولت مرة اختراق الستائر/أو تجولت في شوارع القلب/أو تصفحت شظايا الذاكرة»

 ذكرى والده تطارده حينا وتهادنه أحياناً وطيف (إيمان) الحبيبة المفترضة فوحدها التي لم تنس أن الصيد هوايته الوحيدة فهل ارتباط الصيد بالحبيبة هو الحب ذاته وأم مصارعة هذا الحب وعدم الاستسلام لجبروته؟

«الحب بيني وبينها مثل قلمي/أعرف أنه تشبيه مجنون»

هو حب يلازمه فيدخل السرور عليه حيناً, وكثيراً ما يؤرقه ويسهد جفونه كما القلم تماماً يسايره حيناً ويعانده أحياناً, لكنه يشكل أماله العريضة التي تدغدغ مشاعره, فيغدو والحبيبة وقد غُرسا «تمثلان جميلان ببسمات عريضة» في مساحة الأمل ونافذة الحياة ليعبرا طريق المستقبل: «أدرك/أن الضياء داخله/لم يعد وحده كافيا لعبور الطريق»

طيف الحبيبة يشع نوراً يهديه سبله وينير دروبه التي لن يجتازها ما لم يجرب مرارة الهجر وقسوة الوحدة وبرد العزلة: «ربما لم أحدثها/عن صعوبة تضحيتي لمجرد التجريب/وإني لا أكره الاكتئاب/حيث لم أعرفه /فقط/سعادة تفجؤني»

كم هو مؤلم أن نعايش الاكتئاب حتى يصبح مألوفاً, وحتى لحظات الحب التي نعيشها تفقد لذتها فتلتصق بيومياتنا المبللة بالقلق والروتين والكآبة «جعلت قلبي –كأحد أوانيها –صالحاً للغسيل», فمن قال إن الحياة تصفو لمحب؟ فالصداقة سيّجتها الخيانة, والأبوة سلبتها الموت, والحبيبة أستحوذ عليها العادي والروتين مما يجعل السؤال مشروعاً: «من قال إن أهل الأعراف محظوظون؟»

خاتمة:

إن العنونة عند الشاعر إبراهيم موسى النحاس اختيار واع نابع من إستراتيجية يتبعها الشاعر من خلال تعالقات عنوانه بالعتبات المحيطة به من جهة ومن خلال الدلالات التي تتولد من بنيته المصغرة بوصفه كياناً مستقلاً يقوم بوظائفه الجمالية والسيميائية, بالإضافة إلى ترشيحه للقصيدة / العنوان كبينية موسعة تتضمن وتشتمل دلالات المتن ككل، فتكون بذلك عنواناً أطول للمتن، مما يدفعنا للقول: إنه ليس بالضرورة أن يكون العنوان مكثفاً ومختزلاً يتصف بالاقتصاد اللغوي دائماً، بل يمكن أن يكون أكثر من جملة، فيتسع ليصبح قصيدة تعبر عن روح الديوان ومضامينه المختزلة فيها.


عدد القراء: 4268

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-