التأسيس لنظرة في الكون والحياةالباب: حياتنا
تامر جابر محمود مصر |
لابد للعلم من فلسفة (أو سَمِّها حِكمة)، تُفسِّرُه وتجمع شتاته، وتُبيِّن ما وراءه لعوام الناس من غير العلماء. بهذا أمسى العلم ببِقاع الأرض (عدا واحدة)، ديناً يحيا به الناس كل يوم. من تنظيمهم لعاداتهم الغذائية على أساسه. لجعلَهُ ترفيها، يُرَوِّحون به عن نفوسهم بعد يوم عمل شاق، بقنوات علمية لا حصر لها. بل وبِصِبْغَةِ آدابهم به، مما أثمر ديوان الأدب العلمي الغني عن الإشارة. فأمسَوا ولا تكاد تتفقد موضعاً من مواضع حياتهم، لم يُؤسَّس على العلم، أو يُزيَّن به. فأَوْرَثَهُمْ هذا جِناناً وارفة، من الأمن والرفاهية والحياة اليسيرة الرَّخيَّة. ولم يزل كل يوم عليهم في دنياهم، خير من الذي سبقه ثمرة ذلك. ودع عنك حُجَّة البُلَداء.
أمَّا ببقعتنا المُستثناة، فلم تزل القطيعة التامة (بل المُوحشة)، بين ديانة العلم وديانة الناس، نهجاً مُتبعاً. لاهين ومُتلاهين، عن كون السُّنن التي يُعالجها العلم، كلمة حق ملأ الله بها سمواته وأرضه. وأمَرَنا القرآن نفسه بإصاخة السمع لها، دون جدوى. يقول تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ) (سورة الروم - الآية 8)
ولطالما ساءَلْتُ الآباء الذين ألتقيهم: هل عَرِفنا نحن الآباء والأمهات، هذا الحق الذي ملأ طِباق سماوات الله وأرضه، فملأنا قلوب أبنائنا منه، وأولجناهم بحبٍ سبيله؟!. أم هل ظننا أن كل واجبنا نحو أطفالنا، هو ملء معدتهم طعاماً؟، وأن الله لن يُحاسبنا يوم القيامة، عما مُلأتْ به أفئدتهم وأدمغتهم وهم بعهدتنا، وعن النظرة التي كَوِّنُوها عن الوجود والحياة، فصحِبتهم ما بَقِيَ من عُمرهم؟. ألم نعلم بأن العقل أثمن وأبهى ما زوَّد الله به فلذاتنا. فإن عُطِّلَ أو أُفسِدَ، فَسَدَ أداؤه لمهمة عُظمىَ، سَمَّتها الزهراء الأولى «الخلافة في الأرض» ؟ ولعمرك لا هي بالمهمة الهيِّنة ، ولا التي بالوسع التَنَصَّل منها.
لقد ترتَّب على تراخينا في تزويد أبنائنا بخير الذخيرة ... ذخيرة العلم ، أنْ سار أهل الكوكب جُملةً إلى وِجْهَة، وسِرْنَا نحن إلى وجهة أخرى معلومة بالطبع!. فضيَّعنا بهذا أغلى وأثمن ما بحياة الطفل المسلم. وهو معايشته العِلم كمعتقدٍ ودين . فأغلقنا دونه أرحب باب لمعرفة ربه، وأغنى مادة لتزكية قلبه وروحه.
ولم نزل نقصي علماء الفيزياء والكيمياء والرياضيات، عن الإدلاء بدلوهم الرائق في معتقد الطفل، وسلوكه إلى الله. على الرغم من مخالفة ذلك للغايات وللوسائل القرآنية، ولمهمة الخلافة المنُوطة بهذا الطفل. فكانت أصح نتيجة عن إقصاء العلماء المذكورين عن تَعَهُّد عقل الطفل العربي، وأصوب رصدٍ وتحليل لشيوع الإرهاب باسم المعتقد في الوقت نفسه، ما أشار له أحد المراقبين، من ميل جماعات العنف والإرهاب جميعاً لمسلكٍ واحد هو (اختصار وتبسيط العالم). اختصارٌ يتمثل في «إما إيماننا .... أو كُفرهم». مُختزلاً الوجود في فكرة معسكرين، أحدهما للإيمان والآخر للكفر. ثم اختصار الإسلام نفسه في فكرة أو فكرتين، بحيث لا يتطلب تطبيقهما الكثير من إعمال العقل أو التفكير. وهو رصد تُؤيده الدراسة التي نشرتها صحيفة (نيو ريبابليك) New.Republic مُؤخراً. إذ تُساءِل الدراسةُ القارئَ ابتداءً، عن آخر ما قد يرَغِبَ اثنان من المسلمين البريطانيين من أصولٍ باكستانية، في التزود به، قبل أن يغادرا محلهما في برمنجهام، متوجهين للقتال مع (داعش) بسوريا . فُتُخَيِّر القارئ ما بين (معالم في الطريق) لسيد قطب، أو (رسالتي للعالم) لأسامة بن لادن، أو أحد الكتب المُتلِفَة، والتي تحوي طُرقاً مختصرة لصناعة القنابل والتفجير عن بُعد وخلافه. لتعودَ فتنفي كل ذلك، ولتفجع القارئ بأن آخر ما ابتاعه (يوسف سرور) و (محمد أحمد) قُبَيل مغادرتهما، كان كتابين ساذجين، أحدهما عن الإسلام والثاني عن القرآن، من سلسلة (For.Dummies) الشهيرة للمبتدئين.
(اختصار وتبسيط العالم) ... تلك كانت – ولا تزال - آفة العقل العربي. صحيحٌ اقتصر أثرها بالسابق على تخلف الثمرة العلمية والاقتصـادية. لكنها من اليوم فصاعداً، ستُمسي مَفْرَخَة لأجيال من أمثال سرور ويوسف، وأبو سلمة المصري. لتُسلَّم هؤلاء راية الإجهاز على حُطام ما يُعرف، بالشرق الأوسط القديم. مفرخة بوتقتها مناهجنا الهزيلة لعلوم الربوبية والألوهية. وحلبتها نظم التعليم الفاشلة، وإجرام الآباء الذين لم يجدوا من بين أربع وعشرين ساعة يومياً، نصف ساعة يُجالسون فيها فلذات أكبادهم. فيتعهدوا فيها عقولهم وقلوبهم، ويُرَبُّوا فيها أفكارهم ومعتقداتهم، مثلما ربَّوا مَعيَّهم. قبل الحسرة من فقدهم. وقبل أن تذهب وراءهم إلى الضياع، أشياء أخرى جميلة وقيِّمة.
إنني أدعوك في الختام، للعودة للنبع الصافي. فتقيس بنفسك ضِيق آراء الرجال، على سعة القرآن ورحابة هديه. فإصلاح (الخطاب الديني) المرجو، شيء يتجاوز بكثير، مجرد تقويم (الخطابة الدينية). فإن سألت عن البداية وعن السبيل، ففيما تقرأ عيناك جُهدي وخلاصتي، فماذا أنت فاعل ...؟؟
تغريد
اكتب تعليقك