العقل الحداثي والتحديث العقليالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-11-17 07:39:05

د. ميلاد مفتاح الحراثي

كلية كلارك كولج جامعة كيمبريديج بريطانيا

يخلص النص الاسترسالي القادم قراءته بالقول إلى أهمية الارتكان إلى العقل صانع  وجهة الإنسان، حيث مرتع الهدوء والسكينة، فالإنسان البدائي، والإنسان الأقدم، والإنسان الجديد حلقة واحدة من العقل، إلا أنهم لا يلتقون في سرعتهم، ولا في مكامن قوتهم، والعقل الحداثي حسم أمره في اختياره لكوكب المستقبل الدائم، حيث الأسرع الذي يجرُّ عربة المستقبل إليه. ولتسهيل التعامل مع النص الاسترسالي، وكيفية تفكيك شفراته الاصطلاحية، وتقريب مقاصده وتوضيح أغراضه.

هذه الإطلالة المستقبلية لا تتحدث عن عوالم  الحاضر، ولا عن  الماضي الذي يحتضنه العقل البشري الحالي، ولا تتحدث عن آيات الخالق لمخلوقاته، ولا تتحدث عن الإيمان بما هو كائن أو سوف يكون، ولا تتحدث عن الخالق والمخلوق، ولا هو ليس بنص في الانطولوجيا، أو علم الوجود، فتلك آيات لا مجال للعقل أن يُفرط فيها، لأنها كانت من أسباب بلوغه إلى مجده عنوان عقله... وأن العقل والإنسان، والسؤال، والعلم صنوان، لا يفرق بينهما إلا عندما تنتهي الحاجة إلى السؤال.

ويظل السؤال دائمًا صانع الحدث العقلي لدى الإنسان، لأن طوائف السؤال محدودة، وهي لا تتعدي: ماذا، ولماذا، وكيف، وتُعرف بالعائلة الأم لعالم السؤال، والعائلة الأخرى لعالم السؤال تشمل: وما هي، وما هو (أو الماهية) وكم، وهل، ومن، وأين، وغيرها. سوف تظل، أسئلة لماذا الإنسان ينسى، ويتذكر، ويفكر، ويتألم، ويكره ويحب، ويشعر، وكيفية استعماله لحواسه المختلفة من خلال برمجيات عقلية متناهية في الدقة، مجالات تساؤليه رحبة لعقل الإنسان الجديد، وأفاق جديدة في ساحات العلم والعقل الحداثي.

العقل الحداثي ليس إيديولوجيه

العقل الحداثي  ليس عقيدة، ولا أيديولوجية، والبحثُ فيه لا يتعدى مستوى الأسئلة والقضايا، ومحاولة استجلائها من خلال رفع النقاب عن كل أشكال الثوابت والمنطلقات بنظرة عقلية ومعرفية. لأن موضوعه ليس بظاهرة مُوحدة المُنطلقات، بسبب افتقاره للمذهبية المُحكمة البنيان. وهناك أبعاد عديدة للعقل الحداثي،  تأخذ عدة تمظهرات مختلفة، منها "الاتصال" ثم "الانفصال والتواصل إلا أنهُ في حركية تجديدية دائمة، ومن ثم فالعقل الحداثي عبارة عن اصطدام وتقاطع وصراع بين عقل الإنسان الأقدم والإنسان الجديد. ونحن هنا، علينا فهم طبيعة الصراع العقلي مع ذاتنا، بأنه صراع بين ثنائية التجديد والتقليد، ثنائية الماضي والحاضر، ثنائية الأقوى والأسرع، وثنائية الدولة والمجتمع، وهو ليس صراعًا اختياريًّا، بقدر ما هو صراع  يُجسد لنا كيفية جوهر الحياة. بمعنى كيف تكون عليه حياة الإنسان عمومًا،  أو امتزاج الاثنين معًا. وكيف كل ذلك يتمظهر لنا؟

العقل الحداثي لهُ بُعد لا نستطيع ملامسته ماديًّا، ولكننا يمكن ملامسته من خلال قدرته على نقلنا من حالة إلى أخرى، ومن فضاء إلى فضاء في داخلنا وخارجنا،  فهو يُبرهنُ  من جانب على  عبقرية الإنسان الجديد ومنجزاتهِ، وتوظيفها بما يُحققُ نموهُ وتطورهُ، إلا أنهُ، في الوقتِ نفسه، تعمل إنجازاته على سلب  حق صاحبها في التأمل، والانتظار لمعرفة فوائد تلك الإنجازات، وتنقيح رغباته والتمسك بإيجابياتها، ومدى ضررها على خصوصياته العقلية، من جانب آخر. فهو يُطوع الإنسان لغزوه، ويُرغمه عن وعى، أو بدون وعي، أو تبعية لناموسه المُتجه نحو التجديد الآتي من المستقبل، بحيث تُصبح مزايا الحاضر جزءًا من الماضي!  

ومن هنا فإن العقل الحداثي عبارة عن حركة "اتصالية وتواصلية  وانفصالية" في الوقت نفسه، بحيث كل قادم جديد وحديث يُولد من رحم العقل الحداثي للإنسان، فيسعى لتطويرهِ وتحديثهِ ودمجهِ نسبيًّا أو كليًّا في ظل إمكانية التخلي عنهُ. والعقل الحداثي، أيضًا، عبارة عن قطيعة واعية ومُدركة للزمان والمكان رغبة في إعادة بناء عقل الإنسان الجديد، ومن هنا فإنه مفهوم هلامي مُركب، لكنهُ يُلامسنا في كياننا، من خلال الاتصال والتواصل، وحينًا من خلال الانفصال، وهو ليس بأيديولوجية "دوغماتية" ، وبالعقل  تتم عمليات إدراكه.

سؤال العقل الحداثي

سؤال العقل الحداثي يعنى سؤال الإنسان وتطوره. فالعلوم المعاصرة، وثورتها المستمرة تُفيد بأنها علوم نسبية، وأن ثورة المعلوماتية والرقمية، الجينوماتية، والنانوية، أيضًا نسبية،  ومن ثم فإن العقل الحداثي لابد له من أن يكون نسبيًّا بين أعضاء مجتمع الإنسان الجديد. فإن أي تحولات  تمس الإنسان عبر زمانهِ ومكانهِ في اتجاه التغيير تُرافقها سِماتها وخصائصها المعرفية والمفاهيم والإبداعية،  وكل أشكال التمثل المختلفة. ولقد كانت تلك من خصائص وسمات إنسان دولة ومجتمع أخاه الأقدم.

 ولكن العقل الحداثي وثورته سوف تُعبر لنا عن ثورة العقل على عقله، التي يُفرزها تطور العلم، والتقنية والمعلوماتية، والرقمنة الجينوماتية، وثورة النانو- تكنولوجي. فالمعلوماتية الجينوماتية والنانو -تكنولوجى و"عصر ما بعد الكتابة"، وبزوغ عصر الكتابة باللمس، وعلوم الاتصال السمعي، والبصري، وعلوم العقل الهوائي، هو ما يعرف بتخليق المعرفة، أو تقديمها، أو الحصول عليها عن طريق اللمس، وعن بعد، بالإضافة إلى تغيير نظرته إلى ذاتهِ  التي أدت بهِ إلى إعادة اكتشاف نفسهِ، واستخراج قواهُ، وإعادة نظرتهِ إلى الوجود. وسؤال العقل الحداثي سوف يكون متجهًا إلى كل الأسئلة  المتصلة بالعقل الحداثي، وسوف لن يترك أسئلته بدون إجابة، لأنه  قد أنهى مراحل القطيعة العقلية، التي صنعها الإنسان الأقدم، بينه وبين عقله، ومع المستقبل.

وليس بإمكان العقل الحداثي  تفسير الكون المادي والمعنوي بعقل ما قبل الطبيعة، بل حوّل العقل الحداثي عقل الإنسان الجديد من العالم اللامرئي إلى الواقع. هذا الواقع الجديد أسهمت فيه ثورة المعلوماتية والتقنية، حتى أصبح العلم نسبيًا. إلا أن كل ذلك أنتجهُ العقل  الحداثي. ويظل المُثير في هذه التجاذبية في أن  حالة العقل الحداثي مرحلية وانتقالية، ومفتوحة على كل الأسئلة. فهي صياغة كونية للعقل، على هيئة ظاهرة عقلية،Phonology فينولوجية، فرضتها رِهانات ثورات المعلوماتية، الجينوماتية، والرقمنة، والنانو- تكنولوجى.

 فالعقل الحداثي يُرغم على شق الطريق عبر التراكم لكل ما يُنتجه، وفي توجه اللإرادى،  ومد جنوني يغذيه الإنسان الجديد، ويُقدم لهُ إكراهات تُطوقهُ، وتُطوق وجوده، ليس ذلك فقط، ولكن يُلزمهُ بالتفاعل معه برغم إرادتهِ. من منظور آخر، فالعقل الحداثي عبارة عن ممارسة لقوة الانتشار العقلاني عبر المكان والزمان، مخترقًا كل ما هو تقليدي، وتراثي غير قابل للانتقال إلى عربة المستقبل، والالتحاق بها.

العقل الحداثي وحضارة القلق السياسي

للعقل الحداثي موجات عرفها تاريخ العقل الإنساني، وهى سارية المفعول، وهذه الموجات لا تخضع لأي تشخيص معرفي، أو ثقافي، أو حتى مفاهيمي، وإمكانية وصفها بداية ونهاية، لأنها تستمدُ مشروعها من الحتمية العقلانية. فهي موجات عقلانية تعتمدُ على إحداث الصدمات المتوالية، وتقول لنا عدم الاستكانة لمِا نحن فيه، وما نحن عليه الآن، فهي طاردة لكل ما هو غير قابل للعقل. إنها حضارة القلق السياسي. فهي تجعلنا نعيش القلق دائمًا حول مصيرنا ومتى البداية، ومتى النهاية، ومتى الاستقرار، ويبدأ السؤال تلو السؤال. 

العقل الحداثي يعتمد على  كيفية صُنع حضارة القلق، بمعنى كيف يكون الإنسان مستعدًّا باستمرار لفهم ذاتهِ ومحيطه، ولأنه يستهدف خصوصياته الثقافية، والجينية، والغرائزية، فتتحول إلى  نزعات عقلية جديدة، تقودهُ من جديد لتفكيك  خصوصياته المختلفة بحثًا عن أُخرى أكثر منفعةً لعلها تُمكنهُ من تجاوز ظرفية بنيوية  سببها  تطور العقل، أو بفعل تأثيرات نظرية التعطيل العقلي.

مثلاً، حضارة القلق السياسي سببها  تناقضات الحوار والاختلاف بين أعضاء مجتمع الإنسان الأقدم، لأن خصوصياتها تعتمدُ على الصراع. فالصراع بين الحتمية العقلية والمستقبل ليس اختياريًا، إنهُ صراع مفتوح. فهو صراع بين أجيال مجتمع ودولة الأقدم والإنسان الجديد، وهو لا يستثنى أحدًا. لعل ذلك تعزز من خلال فهمنا من أن كل مرحلة تحولية، أو انتقالية  مجتمعية تحتاج إلى الدخول في مخاضات بين عقولها. فالعقل الحداثي يُجبر الإنسان دائمًا على إثارة الأسئلة المستجدة، لاستشراف المستقبل، لصنع حضارة القلق. ومن هنا لا بد للإنسان ومجتمعاته أن يتعرض لغزوات العقل الحداثي، كل يوم،  بل كل ثانية. لأنه يحاول أن يُقلقُنا في كيفية التعامل مع الزمن والسرعة لاستدعاء المستقبل، وكيفية التعامل مع التجديد ومعانيه. وإذا ذهبنا إلى مظاهره ودلالاته، وجدناه فعلاً أنه يُعبر عن قضايانا. وبهذه المعاني  فإن العقل الحداثي عبارة عن معادلة عقلية تشير إلى  كيفية  صنع المسافة العقلانية، لصنع  الإنسان العقلاني  الذي يختزل الماضي والحاضر للوصول إلى المستقبل1.

قضايا في مفاهيمية العقل الحداثي 2

القضية الأولى 3: أن العقل الحداثي يكمن في التركيز على العوالم الطبيعية المادية دون غيرها من القضايا المعنوية والروحية، بمعنى التركيز على المحسوس المادي، ولذلك انصرف العقل الحداثي إليه، وبعلومه وتقنياتهِ، ومن ثم حقق رغباته المادية في تجاهلية تامة للشق الروحي. فهل العقل الحداثي مثلاً سوف يمُدنا بأسباب التوازن النفسي، والسعادة المعنوية والروحية؟

لأن السعادة المنشودة في زمننا الحاضر تستدعى التعامل مع العالم المادي،  من خلال الصراع مع الذات والعقل والطبيعة معًا، لاستكشاف القانون لتحقيق السعادة. لأن العقل الحداثي، ومشروعه الإطلاقى المُتحرر من القيود، يُعطي الأولوية للقيم الأرضية الدنيوية عن الأخروية، ومن ثم فهو يُحول اهتمام الإنسان  من الاهتمام الروحي إلى الاهتمام  بمنافع الكون  المادية. وبذلك وقع  عقل الإنسان الأقدم في استشكال مع عناصر ومكونات العقل الحداثي للإنسان الجديد، من خلال تصادم عقله الروحي  مع عقله المادي.

القضية الثانية 4: يعد العقل الحداثي أن إنسانه الجديد جوهر الوجود، وهو معيار الأشياء، ومن ثم هو الغاية والوسيلة. فهو يهدف إلى تحرير الإنسان من كوابح  نفسه ومحيطه، لأنه صانع التطور عبر عقله. ويستمر العقل الحداثي في تمجيد الإنسان، فهو القوى بعقلانيته لا "بمعتقداته وأمنياته الروحية الخالدة". "فالدين جزء من التراث والتقليد" وهو يخضع أيضًا لمسلمات ومختبرات العقل الحداثي.

القضية الثالثة 5: ليس هناك مجال للإيمان إلا بالعقل. فالإنسان عنوانًا مجده العقل، وليس التراث والقيم الروحية، لأنه بفعل العقل الحداثي قد داس على المنهج الاستدلالي واستعماله لمنهج الاستقراء العقلاني لتحقيق  محاولاته لاستدعاء المستقبل إلى حاضره. فهو لن يعطى الأهمية لأي تشكيلات إنسانية أخرى، مثل الأسرة والعائلة والعشيرة والقبيلة والمجتمع والطائفة أو النخبة، يُمجد الفردانية على حساب  الجمعوية. وهو يفصلُ بين القيم والواقع  من أجل الجمع بينهما مستقبلاً.

القضية الرابعة 6:  العقل الحداثي  سوف يسعى فيما يسعى إلى تطويق فلسفة الصراع بين أبناء مجتمعاته الجديد، والعمل على إيجاد الصراع مرة أخرى مع عقله، بمعنى كيف ينظر إلى نفسه ومحيطه؟ وكيف ينظر إلى الآخر؟ وكيف يختار؟ وكيف يتعامل مع المد الجنوني اللامحدود واللامتناهي لثورة العلم، وعلم الجينوماتية، والعلوم النانوية، وفجوة العقل الرقمي، والعلوم الجذعية، التي يحدثها العقل الحداثي الجديد؟ وكيف تتم عملية التسابق مع الذات من خلال إقصاء الصراع مع الآخر؟ إنه العقل الحداثي الذي ينتج حضارة القلق الإنساني.

القضية الخامسة 7: حدود المستقبل، بمعنى كيفية ترتيب العلاقة بين قيم الإنسان الأقدم والإنسان الجديد، وكيفية ترتيب بيت عائلة العقل الحداثي مع دولة ومجتمع الإنسان الأقدم؟ فالغرب قبل أن يصنع حداثته، وتأسيس عقله الحداثي،  المجتمع هناك سبق في إنشاء دولته وأسس لسؤال السلطة  والهوية أولاً، ثم تحول إلى سؤال العقل الحداثي وصياغة توجهها، بعد أن أسس لمنظومة عقله الحداثي، وشارك المستقبل في صنع وتعديل عقله الحالي، فحدد بذلك حدود المستقبل بأنه مستقبل لانهائي، خطوطه مستقيمة غير قابلة للانكسار، إلا بفعل عقله الحداثي، ولم يحوله إلى توجه صراعي مع ذاته، بمعنى مؤسسة الدولة، أو سؤال السلطة، والحكم، ومؤسسة المجتمع، لأن  خياره كان في إيجاد مجتمعه أولاً. وفى حالة الإنسان الأقدم تحول مشروع العقل الحداثي مشروع إلى مشروع أزمة  وتأزم  حول أسئلة السلطة والدولة والمجتمع من خلال نداءات عقله الماضوي، وبآليات الأنا السياسي والنخبوي والطائفي والقبلي والأنا الديني، وثقافة الكاريزما في مقابل الآخر.

من هناك سوف لا ندري من  الذي سوف يجيب على أسئلة تلك القضايا، وكيفية إعادة حل وتفكيك  شفرات ذلك العقل، وكيفية اكتشاف الجينات، والشفرات المسئولة عن  نظرية التعطيل العقلي لديه، وكيف يكون قادرًا على إحالة تلك القضايا إلى غرفة الإنعاش العقلي التي سوف ينشئها عقله الحداثي لتفكيك أسئلتها، وعناوينها، وإعادة برمجة الصالح والمفيد، واستبعاد الضار منها.

أخيرًا، إن أقصى ما طمحت إليه هذه النصوص هو ضرورة الانتباه إلى حتمية انتقال عقل الإنسان الأقدم إلى مرحلة الحتمية العقلية، من طور التردد في استلهام مضامين النهضة والتقدم، ومغادرة نظريات التعطيل العقلي إلى مرحلة الفعل العقلي الإيجابي، ومن مرحلة الاستهلاك المغاير للعقل، ومن هوة الاستهلاك والاجترار المعرفي، واستيراده، وجهل إسراره إلى مجال إنتاجها وتوطينها مدخلاً إلى عالم العقل الحداثي. بمعنى إعادة اكتشاف العقل، ومحاولة بناء جسور التواصل معه، وعدم منعه من سفرياته الدائمة إلى المستقبل، أنها مرحلة توطين العقل الحداثي، المفقودة لدى مجتمعات الإنسان الأقدم. إن مجتمع ثقافية العقل الحداثي المعرفي، الذي يتوجب قيامه، لن يكون بديلاً مقنعًا لأجيال العقل الحداثي الرابع القادم إذا لم ينطلق من رحم  عقلهم الحداثي.

ونخلص ونقول: إن العقل الحداثي يحتاج إلى قضبان تتناسب مع عربات المستقبل وعوالمه، لأنه سوف ينتهي من ألم النسيان، وألم الآلام، وألم الندم، والسرح، والخوف من نفسه، والخوف على نفسه، والخوف من الآخر، وألم السؤال، ليس ذلك فقط ولكن الفصل بين أزمة مجتمعات الإنسان الأقدم، وأزمة واقعه العقلي المُكبل لسفره نحو المستقبل، باعتبار إن أزمة الإنسان الأقدم، وليدة صراعه مع واقعه وهويته ونظامه البنائي الداخلي، وعوامل خارجية وداخلية معًا في محيط منظومة عقله الغير المكتشفة بعد. ولفك الاشتباك بين الأزمتين، بين الأقدم والإنسان الجديد، يتوجب حضور عقل حداثي  قادر على تفكيك رموز أزمة  العالمين، الأقدم والجديد، لإعطاء الدور المسئولية إلى العقل الحداثي، بعيدًا عن ثقافة مجتمعات الإنسان الأقدم، المشوهة لفقدانها لمنوال وانكسار اتجاهات بوصلتها العقلية.

هذه  كانت الإطلالة الإسترسالية  المستقبلية، التي لم تتحدث عن عوالم  الحاضر، ولم تتحدث عن الماضي، الذي يحتضنه العقل البشري الحالي، ولم تتحدث عن الإيمان بما هو كائن، أو بما سوف يكون، ولم تتحدث عن الخالق والمخلوق ومخلوقاته، فتلك آيات  لا مجال للعقل  أن  يُفرط فيها، لأنها كانت من أسباب بلوغه إلى مجده عنوان عقله. وأن العقل والإنسان، والسؤال، والعلم صنوان، لا يفرق بينهما إلا عندما تنتهي الحاجة إلى السؤال، ولكن كيف سوف يتم ذلك، ومتى الأوان؟

 

الهوامش:

1 - لقد فشل الإنسان الأقدم عمومًا في أن يصنع أو يعُد، أو يبدع إنسان تنميته، لكي يصنع بدوره تنميته ونموه، والتي كانت من أهم انتكاساته، حيث فشل في صنع المسافة التنموية لصنع المسافة الديمقراطية، والإنسان الجديد سوف يعمل على صنع المسافة العقلية لصنع  الإنسان العقلاني.

 2 - النص الاسترسالي حاول أن يقدم، على ما يبدو، خمس قضايا استرسالية موجهة إلى عقل الإنسان الأقدم  والإنسان الجديد من أجل أن يحسم العقل الحداثي الجديد أمره في رغبته في التوجه نحو عوالم مستقبله.

3 - القضية الأولى متصلة بأهمية الإجابة على أيهما أقدر على تجاوز حالة التصادم بين العقل الروحي والعقل المادي لدي كل من الإنسان الأقدم والجديد.

4 - القضية الثانية تطرح  سؤال كيفية إمكانية إحداث عمليات التلاقح بين التراث والعلم، وصولاً للسعادة الكاملة للإنسان؟

5 - تطرح القضية الثالثة مسألة في غاية الخطورة من حيث مدى استعداد عقل الإنسان الأقدم أن يجعل القيم والتراث في خدمة عقله وإطلاقه، وعدم تقييده، أو الفصل بينهما للالتقاء مستقبلاً؟

6 - تطرح  القضية الرابعة مسألة  كيف تتم عملية التسابق مع الذات من خلال إقصاء الصراع مع الآخر؟ وإعادة  فكرة الصراع،  إلى حيث منشئاها وهو العقل، ليستعمله في اكتشافاته المستقبلية.

7 - تطرح القضية الخامسة مسألة أيهما الأول أولاً؟  الدولة ومجتمعاتها، أم مجتمعات الإنسان، ومن هو المسئول عن تخليق الأول للثاني، أو الثاني للأول؟


عدد القراء: 7083

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة sayed jomha من مصر
    بتاريخ 2016-01-05 20:14:47

    أعدت قراءة هذا المقال أو البحث للإقتراب اكثر لمفهوم " الحداثة " هذا المصطلح الذي يزعق به العديد من المثقفين العرب والمفكرين ، وبطبيعة الحال همُ جادون في التعريف به ، ومحاولة " تأصيله" وإستخدامه كأداة لتقييم كل إجتهاد إبداعي ، لكن قد يكون المثير للدهشة و " الغرابة " أن نري هذا المفهوم متداولا حيث لا ينبغي أن يكون فأراه يستخم كأنه عملة جديدة يلوح بها في تجمع اكثره لا يدري ولا يستيطع أن يفرق بين " الجديد " من العملات ، وبين العملة الموجودة فيالأسواق .

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-