حُمّى الدّائرة (قصة قصيرة)الباب: نصوص

نشر بتاريخ: 2015-11-17 11:41:54

محمد فطومي

تونس

عبدو! إنّه يومك الاستثنائيّ الذي طالما انتظرته. أفق! أنت اليوم سيّد العجب !

نهض عبدو متثاقلاً كأنّ سلاسل توثقه إلى الفراش. منذ أقامت البلديّة متاريس دائريّة موزّعة كغرابيل عملاقة وسط ساحة الميدان، وهو يبذل جهدًا مضاعفًا ليغادر مضجعه. لبس ثيابه على عجل، لا يتطلّب الأمر كبير عناء فهي مُعلّقة على كرسيّ محاذ. خرج. نادرًا ما كان عبدو يلتقي زوجته أو أحد بناته وهو يغادر البيت مُتّجها إلى عمله. إلى الميدان.

سوق مجنونة للدّهشة، بدأ "عبدو" رحلته بائع شاي مُتجوّل. كان حينها ظلاّ مؤنسًا في منأى عن الأذى، تمامًا كميّت. لم يعد شعوره بالأمان ذاك يتجدّد كذي قبل منذ قرّر إطلاق حلقة خاصّة به، ولقد اختار عبدو لحلقته ما اكتسبه من عبر وفنون خطاب طيلة معاشرته لمروّضي الكلام والأفاعي والحواسّ.

بنغمة رجاء واثقة صار "عبدو" يجمع النّاس حوله بعدما أمضى ما يزيد عن عشر سنوات على هامش الإبهار. "العالم حقيبة بداخلها زيّ رسميّ وصاروخ وأختام، أمّا حقيبتنا فبداخلها قبّعة مُضحكة وأسمال بالية وقارورة ماء". تلك هي العبارات التي ما انفكّ "عبدو" يردّدها كلمّا قلّ عدد الوافدين وبات لزامًا على كلّ ربّ حلقة أن يستدرج النّاس لصالحه. أمّا حين تكون السّاحة ضاجّة فتراه ينادي بحماس مصطنع: " تقدّموا. لا يفوتكم العرض. إنّي ملق عليكم اليوم قولاً يؤنسكم والله المؤنس!".

إنّه يومه الاستثنائيّ! حليفه الذي سيعينه على استرداد اعتباره. على القصاص ربّما. كلام ابنته الكبرى لا يبرح وجدانه: "أبي، أصحابي في المدرسة يسخرون منّي. يقولون لي إنّ أباك متسوّل." يشعر اليوم بأنّه كتلة من العزم. الدّرب تحدّثه بذلك مع كلّ خطوة يخطوها.

وصل السّاحة. توسّط إحدى الحلقات المسوّرة الشّاغرة. كمنشّط سرك، وكما بمفعول سحريّ نادى: "الميدان رحب وجريء يا سادة.. يا سادة؛ العالم أكثر اتّساعًا من الميدان وأكثر جسارة، لكنّه مسالم وشبيه بنا دون وصيّ.. اقتربوا نحن أوفر حظًّا لنسافر في الفرح.. ليس بيننا ثريّ أو فقير.. الكلّ على قدم المساواة.. اليوم، سيسخر الكلّ من الكلّ."

طاقة عجيبة راحت تتسلّل إليه كلّما دنا أحد الوافدين من حلقته. لم يسمع عبدو يومًا عن طاقة المكان، ولا عن شحنة الموجودات ولا عن خوارق الشّكل الدّائريّ. فار الدّم في عروقه، فأسلم نفسه للتيّار. إلى الجحيم مغامرات السّندباد  وبطولات أبو زيد الهلالي. الظّاهرة أكبر. لا يدري من كان يمدّه بالكلام، يشعر فقط أنّ طاقة المخلوقات قد تجمّعت في جسد واحد. جسده هو. هو دون غيره.

يومها روى للناس كما لم يخطر على قلبه يومًا، حكاية مملكة سعيدة دكّها أهلها دكّا لمّا  بات لكلّ نزر تحيّة لا يرضى بغيرها ولا يُفشي سواها.

حدّثهم أيضًا عن بلد بزغت فيها شمسان فألفهما الناس بعد أيّام قليلة، حتّى إنّ أكثر ما أصبح يُدهش الرّجل منهم ستارة في حافلة تعجز عن حجب إحداهما..

وعن مدينة أقيم فيها قوس في العراء فصار الناس لا يمرقون ذهابًا و إيّابًا إلاّ عبره، وهم في ازدحام شديد..

رويدًا رويدًا بدأت تجتاح روحه طاقة إضافيّة عاصفة، ارتعشت لها أوصاله، وارتجّ لها بدنه كالممسوس، أحسّ كأنّ به نهرًا هادرًا مندفعًا. فانبرى بأناقة منقطعة النّظير يرقص التانغو حينًا ويلوي أطرافه على نحو مستحيل حينًا آخر. ازدادت الطّاقة غيلانًا في صدره فوقف على يد واحدة، هو الذي لم يجرّب الوقوف على ساق واحدة قطّ. هتف المتفرّجون، فحوّل عبدو ثقل جسمه بوثبة رشيقة إلى اليد الأخرى. ناوب الوقوف على يديه مرّات قبل أن يقفز عاليًا لينتصب ثابتًا على قدميه. مكث هكذا برهة تعالت  فيها صيحات الإعجاب والذّهول. بسط  قبضتيه إلى الأمام ثمّ فتحهما تدريجيًّا فإذا فقاقيع صابون لا تحصى تنطلق من بين كفّيه لتغمر الفضاء، محلّقة فوق الرّؤوس. فقاقيع الصّابون تملأ المكان، عددها مهول كأنّها تتناسل من بعضها. مختفيًا وسط  كريّاته القزحيّة ارتفع عبدو تدريجيًّا كأحد الفقاقيع. لم يعد عبدو الحكواتيّ معنيًّا بالجاذبيّة. ها إنّه يتشقلب في الهواء كرائد فضاء داخل مركبة. شهقات الإعجاب تزلزل كيانه حماسًا وغبطة. فجأة ينتهي كلّ شيء ليجد نفسه جاثيًا على ركبتيه كأبطال المسارح. انهالت الدّراهم كالمطر على أرضيّة الحلقة. لم يقو عبدو على جمعها. صوت ارتطامها فوق الأرض يحدث رنين عشرات الأجراس في رأسه. تلاشت الأصوات تدريجيًّا إلى أن اختفت تمامًا. لم يعد عبدو يصغي إلى شيء سوى دقّات قلبه.

"متاريس.. حواجز ومتاريس.. المتاريس تمنع الحلقة من التوسّع..الحلقة تولد ضيّقة..أوصياء العالم المسالم يقرّرون حيّز السّرور وكفاية الأرزاق. . متى احتاج الوئام إلى قضبان الحديد..أين قوّتي؟ .."

عبدو..الناس يطالبون بالمزيد. أفق! عبدو.. لن تخذل جمهورك..أفق!

رفع عبدو رأسه ببطء فلمح شمسين تسبحان في كبد السّماء. كانتا متناغمتين كطائرتين ورقيّتين. رأى البنايات حوله تبتعد. كان على استعداد ليقسم بأنّها ليست مجرّد تهيّؤات. كانت تلك الصّور الحقيقيّة آخر ما نفثته فيه روح الدّائرة من طاقة. جلس. مدّ ساقيه على نحو مريح جاعلاً راحتيه على الأرض. أسبل جفنيه واستقبل السّماء بوجهه مغمض العينين. كانت لحظة مثاليّة ليبدّد شعورًا بالمرارة اكتسحه.

ربّما استيقظ عبدو يومًا.. فقط كم كان بودّه لو محق المتاريس بإشارة من يديه حين كانتا عجيبتين. كان قد أحسّ بالطّاقة تندفع حارّة صوب مقدّمة أصابعه. لو أشار إلى الحواجز من بعيد لهدمها. كم تمنّى لو كان بوسعه أن يفعل. كان باستطاعته القيام بذلك.. بلى، كان قادرًا على أن يسوّيها الأرض، بل لقد همّ أن يفعل، لو لا أنّ أغلب الناس في الصفّ الأوّل كانوا متّكئين عليها.


عدد القراء: 3817

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-