الحداثة وأزمة التقبل: عودًا على كتاب فتنة الحداثةالباب: مقالات الكتاب
محمد طيفوري أكاديمي مغربي |
استرعى انتباهي كتاب للباحث قاسم شعيب بعنوان "فتنة الحداثة" من منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود1، وإذ أشكر الكاتب على رغبته النبيلة في توجيه الفهم لإعادة قراءة الحداثة قراءة نقدية، ومن خلال مشاريع حداثية عربية2، في ظل تنامي وتيرة النقاش عن التأويلات الحديثة للحداثة بعد وصول حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في أكثر من دولة، فصرنا نسمع لا عن أسلمة الحداثة أو تحديث الإسلام، بل عن "حداثة إسلامية"3. فإنني مع ذلك أستغرب لهذه الرغبة الجامحة لدى الباحث التي تفتقد للمنهج والآليات، وقبلهما للاطلاع والمعرفة الكافية لمناقشة موضوع يعد بحق "قضية القضايا" في الفكر العربي/الإسلامي المعاصر.
تكمن مشكلة الكاتب قاسم شعيب في سعيه للتبشير بحداثة خاصة تفتقد إلى المقومات التي تؤهلها للدفاع عن نفسها4، فأطروحة الباحث اعتراها من التناقض ما يهد بنيانها من أساسه، سواء على مستوى المفاهيم أو مستوى الاستدلالات. كما وشابها من الغموض والالتباس والأحكام القيمية - بسبب نظرته الفوقية للحداثة – ما جعلها أقرب إلى حديث لاهوتي منه إلى مقاربة فكرية وعلمية رصينة.
سقط الكاتب في التخبط المعرفي والمنهجي على مستوى المفاهيم في أكثر من مقام طي كتابه، من خلال استحضار ما بعد الحداثة لانتقاد الحداثة تارة، واعتبارهما وجهين لعملة واحدة تارة أخرى. وأيضًا على مستوى الاستدلالات، وذلك بإساءة توظيف مقولات حداثية في غير مقامها. واعتماد مقاربة انتقائية مخلة في مناقشة كل من مشروعي المفكرين طه عبد الرحمن وهشام جعيط.
وهذا ما سنعمل على بسط أمثلة منه في القادم من الأسطر، لكن نشير قبلا إلى أن هذه المقالة لا ترمي تبخيس العمل بقدر ما هي استجابة لدعوة للنقاش والتفكر، يفترض أن كل كاتب يتقدم بها لقرائه بعد كل إصدار.
بداية لنتوافق على مقدمتين أساسيتين مفادهما الآتي:
أولاً: في ظل ضبابية مفهوم الحداثة لدى الكاتب، والتفافه حول ألفاظ عامة لتحديد ماهيتها مثل قوله: "حداثة خاصة منطلقة من مفاهيم وقيم مستمدة من الاسلام ونصوصه"5. نحدد الحداثة بأنها ذلك الأفق الكوني الذي تجاوز موطن النشأة وأصبح ملكًا مشاعًا لكل البشر، ويمكن أن نختصر التحديد في عبارة لفيسلوف تلخص هذا المشروع "الحداثة هي القدرة على الممارسة النقدية". الفكرة ذاتها صاغها المفكر المغربي عبد الله العروي صياغة بليغة في كتابه "مفهوم العقل" قائلاً: "لا يوجد فكر حديث وبجانبه نقد، بل الفكر الحديث كله نقد. هذه هي الثورة الكوبرنيكية، فلا يكفي الكلام عنها بل يجب الكلام بها"6.
ثانيًا: إن الحداثة مشروع لم يكتمل من وجهة نظر يورغن هابرماس أحد رواد مدرسة فرانكفورت النقدية، ما يعني معه أن الحداثة يمكنها أن تصحح مسارها في كل مرة، وهي بذلك لا تدعي لنفسها الكمال7، بل تعترف في المقابل أنها منظومة ناقصة وقاصرة، وهذا من العناصر التي تستمد منها قوة الصمود في مواجهة البهلوانيات الفكرية لما بعد الحداثة.
يجمع الكتاب بجملة من الأحكام القيمية والمصادرات من قبيل أن الحداثة ولدت عرجاء منذ البداية8، وأن المسلمين يملكون أسلحة فكرية أقوى من أسلحة الفكر الحداثي9، وأن القرن الثامن عشر في فرنسا سمي عصر الأنوار، رغم أنه لم ينتج فيلسوفًا واحدًا يملك نسقًا فلسفيًّا متكاملاً10. بل وأحيانًا محاكمة النوايا - بعيدًا عن أي منهج علمي – كقوله: "لقد كان جعيط في الجزء الأول "الوحي والقرآن والنبي" أكثر تفهمًا لظاهرة الوحي والنبوة وأقرب إلى المعقول الاسلامي برغم أنه كان يفعل ذلك تقية على ما يبدو"11.
نود في هذا المقام تدقيق النقاش في نقطتين جوهريتين عَنّت محوريتهما فيما طرحه الكاتب، لما شابهما من غموض والتباس.
الحداثة والعقل:
يرى الكاتب أن العقل الذي أعلت من قيمته فلسفة الحداثة، لم يحترم حدوده... وفشل العقل فشلاً ذريعًا وهو يتمدد خارج نطاقه، فسقط الفرد ضحية القلق والتمزق والعدمية12. بل يذهب أكثر من ذك حين يعدأن مقتل الحداثة يتحدد في تأليه العقل وإعطائه قيمة تتجاوز قدراته في تصورنا. وفي المقابل تم إقصاء الدين وضربه والسخرية منه13.
إن الحديث عن إقصاء الحداثة للدين والسخرية منه لا يعدو أن يكون مجرد افتراء، لأن أسس الحداثة لا تقوم على القضاء على الشعور الديني بل تهدف فقط إلى تحويل قضاياه من احتكار الإكليروس والفقهاء إلى التأمل الإنساني الحر.
هذا ويبدو أن الباحث هنا يقفز عمدًا أو سهوًا على الآباء المتكلمين المؤسسين للعقلانية والفكر الديمقراطي في التاريخ الإسلامي، والذين دفعوا حياتهم ثمنًا لذلك قبل قرون عصور محاكم التفتيش، وقبل أن يقاد غاليلي إلى المقصلة. ونقصد الأربعة الكبار من أهل القرن الأول الهجري، وهم: معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد ابن درهم والجهم بن صفوان14.
يذهب الباحث في ذات النقطة إلى التأكيد على ضرورة معرفة حدود العقل عندما يتعلق الأمر بعلاقته بالإسلام، فالعقل الذي يحترم حدوده – من وجهة نظره - هو وحده الذي لا يتناقض مع الإسلام15. متناسيًا فرقة المعتزلة التي مارست التعقل من داخل المنظومة النصية التي سادت في حقبتها، بل عد العقل أحد الأصول الخمسة التي يقوم عليها الفكر الاعتزالي، وبلغ التعقل بالقاضي عبد الجبار أحد رموزها مبلغًا جعله يناقش ما يجب على الله فعله مما لا يجب عليه من منطلق صفاته الواردة في القرآن.
ونختم بالتساؤل عن حدود العقل التي ما فتئ الكاتب يقيم بها الحجة طي كتابه، من يحددها؟ وكيف تضبط؟ وهل هي قابلة للزيادة والنقصان مع تطور الإنسانية أم تبقى ثابتة؟ بمعنى هل حدود عقل الفرد في القرن السابع الهجري سوف تبقى هي ذاتها حدود إنسان يعيش في القرن الحادي والعشرين؟
الحداثة والإسلام:
يصر الكاتب على أن الحداثة ولدت عرجاء منذ البداية، ولا سبيل إلى تجاوز مطباتها إلا بالانطلاق من أسس نظرية جديدة لا تهمل في الإنسان أيًّا من جوانبه، كما فعل ذلك الإسلام من قبل16. والبديل في نظره حداثة خاصة تؤسس من مرجعية وقيم إسلامية على اعتبار أن الإنسانية في نظره حتى الآن جربت كل المنظومات والأيديولوجيات الوضعية، ولكنها لم تجرب الإسلام إلا في مدة قصيرة جدًّا، وفي مساحة جغرافية محدودة بسبب المؤامرات التي حيكت ضده، ولم يكن بوسع تلك الحقبة القصيرة أن تأخذ مداها وتحقق أهدافها17.
يحق لنا أن نتساءل هنا عن أي إسلام يتحدث الباحث هل "إسلام النص" أم "إسلام التاريخ"، وإذا افترضنا جدلاً أنه الأول على اعتبار التحفظات التي يسجلها بين الفينة والأخرى على الثاني في كتابه، ففي أي النصوص سوف نبحث عن الإسلام هل النص الخالص (القرآن) أم النص المؤَسسَ (الحديث)؟. وفي أي المنظومات سوف يكون ذلك إن قبلنا الافتراض الثاني هل داخل المنظومة السنة أم المنظومة الشيعية أم الدائرة الإباضية؟.
كما ونتساءل أيضًا عن هذه الحقبة التي طبق فيها الإسلام تطبيقًا كليًّا من طرف الإنسانية؟ وكذلك متى استطاعت أيديولوجية بعينها أن تحظى بإجماع الإنسانية قاطبة؟.
بسط الباحث تفسيراته بعيدًا حين اعتبر أن مشروع العلمنة والتحديث قد فشل في العالم العربي، وهو ما يفسر الثورات العربية التي انطلقت في كل مكان لتطالب الأنظمة العلمانية الفاشلة بالرحيل18. إذا سلمنا جدلاً – وهذا غير صحيح– بعلمانية الأنظمة العربية، وصدق نواياها في التحديث لا الحداثة والفارق بيّن بين الأمرين. فالظاهر في المطالب التي رفعت إبان الثورات العربية أنها من مقومات الدول الحديثة من حرية وديمقراطية وكرامة وعدالة... ورفض في المقابل لكل أشكال الاستبداد والقهر والسلطوية من كافة أطياف المجتمع وبمختلف أيديولوجياتهم السياسية ومشاربهم الفكرية رافعين شعار مدنية الدولة.
الهوامش:
1 - قاسم شعيب: "فتنة الحداثة" مؤسسة مؤمنون بلا حدود الرباط، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2013.
2 - يقدم الكاتب قراءته "النقدية" من خلال قراءة في أعمال بعض المفكرين مثل طه عبد الرحمن وهشام جعيط ومحمد الشرفي.
3 - Voir Youssef bilal; le cheik et le calife: Sociologie religieuse de l’islam politique au Maroc (2012).
4 - قاسم شعيب: م س، ص 7 و 143 و 146.
5 - قاسم شعيب، م س، ص 7.
6 - عبد الله العروي: "مفهوم العقل"، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1997 ص 12.
7 - هذا ما حاول الكاتب انتقاد الحداثة على مستواه، وهو نقد لم يكن في محله. انظر ص 33.
8 - قاسم شعيب، م س، ص 61.
9 - قاسم شعيب: م س، ص 8.
10 - قاسم شعيب: م س، ص 16.
11 - قاسم شعيب: م س، ص 100.
12 - قاسم شعيب: م س، ص 22.
13 - قاسم شعيب: م س، ص 32.
14 - لقد لقي هؤلاء الآباء مصائر مفزعة بسبب تعقلهم، فمعبد الجهني صلب بدمشق على يد الخلفية عبد الملك بن مروان. وغيلان الدمشقي قتل شر مقتله في مجلس الخلفية هشام بن عبد الملك بتقطيع أطرافه. بينما قتل الجعد بن درهم على يد الأمير خالد القسري الذي ختم خطبة العيد قائلاً: "ارجعوا فضحوا، تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم". في حين قتل الجهم بن صفوان على يد الأمير سلم بن أحوز بأصبهان.
15 - قاسم شعيب: م س، 159.
16 - قاسم شعيب: م س، ص 61.
17 - قاسم شعيب: م س، ص 40.
18 - قاسم شعيب: م س، ص 158.
تغريد
اكتب تعليقك