تفاعل القصيدة الأندلسية مع الحياة الدينيةالباب: مقالات الكتاب
د. آمنة بن منصور أستاذة محاضرة - المركز الجامعي عين تموشنت الجزائر - قسم اللغات و الأدب |
لم يقف دور القصيدة عند حد الرد على أصحاب الديانات الأخرى، بل إن الشاعر الأندلسي وقف، أحيانًا، الند للند أمام بني جلدته في محاولة منه للتصدي لبعض المذاهب التي أخذت تهدد استقرار الأمة الإسلامية في الأندلس، ويضاف إلى هذا أشعار الزهاد التي نظمت تباعًا عقب سقوط دويلات الأندلس، فهؤلاء كانوا على يقين أن البعد عن الدين والانغماس في الشهوات والمعاصي هو الذي آذن بسقوط وشيك للأندلس.
مقدمة:
لا يخفى على أحد أن الشعر كان ومنذ القديم السلاح الثاني إلى جانب السيوف والرماح، ولطالما استعان الشعراء به متخذين إياه سيفًا يشهرونه في وجه خصومهم دفاعًا عن دينهم أو مذهبهم، وليس من شك في أن الخطاب الديني إذا كان شعرًا فأقوى منه إن كان نثرًا، لما في الشعر من جمال وقوة إقناع، حيث تصل الفكرة وتخترق شغاف القلب فإما تحييه وإما تهلكه، وهكذا استعان الشاعر الأندلسي بشعره في مواجهة الخطوب التي ألمت بالأندلس عمومًا وبالإسلام والمسلمين على وجه خاص.
وكما لا يخـفى على أحد فقد واجهت الأندلس خلال الثمانية قرون التي قضاها المسلمون فيها، صراعات ونزاعات وحروب لم تفتر إلا بسقوط آخر معقل لهم: غرناطة.
ولم يقف دور القصيدة عند حد الرد على أصحاب الديانات الأخرى، بل إن الشاعر الأندلسي وقف، أحيانًا، الند للند أمام بني جلدته في محاولة منه للتصدي لبعض المذاهب التي أخذت تهدد استقرار الأمة الإسلامية في الأندلس، ويضاف إلى هذا أشعار الزهاد التي نظمت تباعًا عقب سقوط دويلات الأندلس، فهؤلاء كانوا على يقين أن البعد عن الدين والانغماس في الشهـوات والمعاصي هو الذي آذن بسقوط وشيك للأندلس.
ولعل الجديد في الأمر أو لنقل ما شدني إلى كتابة المقال، هو الطريقة التي انتهجها الأندلسي في الدفاع عن دينه وثوابته، دافع عنها بالمناظرة والمجادلة وهو الآن يدافع عنها بالقصيدة، ولطالما سخر الشعراء شعرهم لتحقيق هدف شخصي في الغالب، من قبيل الفخر والمدح والرثاء والنقائض ..
غير أن الشاعر الأندلسي أبى إلا أن يسخر شعره لخدمة دينه ثم بلاده. فهو ليس شعرًا دينيًّا كالزهد مثلاً، ولكنه شعر يدافع عن الدين وهنا وجه الاختلاف، وهو ما سنحاول تسليط الضوء عليه.
وقد آثرت أن أعرج في البداية إلى صدى هذا النوع من الشعر في المشرق، ثم أتتبعه في الأندلس ليكون المنهج تأريخيًّا وصفيًّا.
بدءًا:
لا ينكر أحد أن الإنسان ومنذ فجر التاريخ مرتبط بربه، مخلص لدينه أيًّا كان هذا الدين أو ذاك الإله، حتى إذا عرض أو فرض عليه التغيير ثار واستنفر قواه لمحاربة هذا البديل*.
والأدب مرآة الشعوب فهو يعبر عن تطلعاتها ويصور أحوالها ويتطرق إلى أعمق نقطة تخصها، وهو لم ينكفئ على نفسه بل عبر عن أكثر الأمور حساسية تلك التي تتعلق بحياة الأمة ووجودها إنه الدين، فأصبح يعرف بالأدب الديني.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا" ألصقت به صفة (الدينية)؟ هل ذلك راجع لرؤية قائمة على مفهوم التوازي بين ما هو (ديني) وآخر (لا ديني)؟ كما هو الشأن في موضوع (الديني) و(الدنيوي)، خاصة ونحن نتعامل مع نص من إبداع الإنسان بفضل خياله الطافح وذوقه الرفيع، ومن ثمة ما هي الحدود التي لا يمكن لهذا النوع من الأدب ألا يتجاوزها بخلاف (الأدب الآخر) الذي لا يعير اهتمامًا لهذه القيود، وبذلك يمكننا النظر في مضمون هذا الأدب الديني عندما يحاول أي باحث في أي مجال أن يقف على لبنات الأساس الأولى، فهو بذلك يبحث في الأفكار والنظم والعادات التي شكلت النواة الأولى لذلك العلم أو الفن"1، وتبقى الأحكام نسبية بحسب الأمة، التي ينتمي إليها فما يعـد عند شعب أمرًا مقبولاً باسم حرية التعبير، يعد عند شعب آخر أمرًا ممجوجًا وغير مقبول على الإطلاق كونه يتنافى مع شعائر دينه.
ولعل الأدب الديني بهذه الصفة يعد أقدم الآداب بالنظر لفطرة الإنسان على التدين بغض النظر عن حقيقة ما يدين به، فالمصادر التاريخية تشير إلى أن المصريين كان لهم باع طويل في الأدب الديني "الذي تناول العقائد الدينية ونظرياتهم عن الحياة الأخرى وأسرار الكون والأساطير المختلفة للآلهة والصلوات والأناشيد، ومن أقدم أمثلة الأدب الديني "نصوص الأهرامات و"كتاب الموتى"2 .
والأدب الديني عندنا مرتبط بدين الإسلام، بيد أنه لم يكن معروفًا بهذه التسمية كمصطلح وإن كان موجودًا على أرض الواقع، ولعله أول ما ارتبط بالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بداية ظهور البعثة النبوية، فقد كان الشعر إذ ذاك حربًا ثانية إلى جانب الحرب المسلحة، بل وقد شجع النبي -عليه السلام- شعراء المسلمين وعلى رأسهم حسان بن ثابت لهجاء الكفار والرد على أشعارهم، التي حاربوا بها الإسلام، فكانت الأبيات الحسانية الخالدة ومنها:
لنا في كل يـــوم من مَــعـدّ
قــتــال أو سـباب أو هـجــاء
فنحكم بالقوافي من هجانا
ونضرب حين تختلط الـدمـــاء
هجوتَ محمدًا فأجبت عنه
وعـنـد الله في ذاك الـجـزاء3
وفي العصر الأموي ارتدى الأدب الديني والشعر تحديدًا ثوب التشيع لآل البيت، فأصبح كل محب للدين ومدافع عنه ينحو هذا المنحى، فكانت هاشميات الكميت، ومنها قوله:
إلى النفر البيض الذين بحبّهم
إلى الله فيما نـابـنـي أتـقـــرب
بني هاشم رهط النبي فإنني
بهم ولهم أرضى مـرارًا وأغـضب
وأرمى وأرمي بالعداوة أهلها
وإنــــي لأوذي فـيـهـم وأؤنــب 4
ولما جنح كرسي الحكم لبني العباس انحسر ظل المتشيعين لآل البيت، وخفتت أصواتهم خلف التهديد والتخويف، و في مقابل هذا ظهر على الساحة شعر الزهد منكرًا حياة المجون والانحلال الخلقي الذي عرفه المجتمع العباسي آنذاك، فكانت زهديات أبي العتاهية ومنها قوله:
أيا واها لذكر الله يـــا واهــا لــه واهــا
لقد طيّب ذكر اللـــ ـه أفـــــواهـــــــــا 5
و قوله أيضًا:
الناس في غفلاتهم والموت دائرة رحـــــاه
فالحـمـد لله الذي يبقى و يهلك ما سواه 6
ثم ظهر غرض شعري كان تحصيلاً لمراحل تأملية عديدة مر بها الشاعر، من الزهد إلى فلسفة الدين ثم التصوف، و فيه تفرغ تفرغًا كاملاً لله عبادة وارتقاء إلى ملكوته، فكان الشريف الرضي وكانت رابعة العدوية وكان الحلاج، ومن شعر هذا الأخير قوله:
عليك يا نفس بالــتسلي
الـعـز بالـزهــد والـتخـلي
عـلـيـك بالـطـلـعة الـــتي
مشكاتها الكشف والتجـلي
قد قام بعضي ببعض بعضي
وهــــام كلي بكـل كلي7
وفي بلاد الأندلس كان الشعر الديني قد قطع أشواطًا عدة، فقد وصل إلى مرحلة متقدمة من النضج والتطور، ووجد الأندلسي أمامه خلاصة تجارب الآخرين وأفكارهم وتوجهاتهم. وقد ذهب أكثر الدارسين إلى القول إن "شعب الأندلس شعب متدين، والمنفلتون فيه من ربقة الإيمان قلة وهم لتدينهم يجلون علماء الدين ويحترمونهم، ويعظمون الفقهاء ويوقرونهم "8، كما "كان الأدب الأندلسي أيضًا يتنفس في جو من التشبع الديني وهو ما يظهر في أشعار الزهاد والأتقياء"9، ومن هؤلاء نذكر على سبيل المثال السميسر في قوله:
جملة الدنيا ذهاب مثل ما قالوا سراب
والذي منها مشيد فـــــخــــراب ويـبــاب
فـاتق الله وجـنب كل ما فيه حــســــاب10
ومهما يكن فالإسلام في المشرق لم يتعرض لهجوم حاد على اعتبار أنها مهده الأول، بخلاف الأندلس التي دخلها الدين الإسلامي مع الفاتحين، فضلاً عن بعدها الجغرافي عن أرض العرب ومهد الرسالة، ويضاف إلى هذا كله احتواؤها إثنيات مختلـفة وإيديولوجيات متباينة مردها الأديان التي تعايشت في ظل سماحة دولة الإسلام في الأندلس.
وما يعنينا في كل هذا هو الدور الفعال الذي أدته القصيدة الأندلسية في الدفاع عن الإسلام أمام تطاول المسيحيين واليهود على حد سواء.
وممن حدثته نفسه أن يسخر من القرآن ابن النغريلة اليهودي(**) الذي ألف كتابًا يدعي فيه أن هناك تناقضًا بين آي القرآن الكريم11، فوقف له ابن حزم بالمرصاد ورد عليه كلامه ودحض حججه واحدة واحدة12، على أن الذي ألب العامة على اليهودي لم يكن الإمام الظاهري وإنما قصيدة أبي إسحاق الإلبيري التي استطاعت إسكات هذا الصوت النشاز، ومما جاء فيها:
ألا قل لصنهاجة أجمعين
بدور الزمان وأسد العرين
مـقـالـة ذي مـقـة مشفـق
يعد النصيحة زلفى ودين
لـقـد زل سـيـدكــم زلــة
تقر بها أعين الـشامتين
تـــخــيـر كاتـبـه كافــــرًا
ولو شاء كان من المسلمين13
فأبو إسحاق يعيب على باديس صاحب غرناطة استوزاره لليهودي على المسلمين، فهذا في نظره خطأ جسيم، ويواصل فيقول:
فهلا اقتدى فيهم بالألى
من القادة الخيرة المتقين
وأنزلهم حيث يستأهلون
وردهم أسفل الـسـافلين14
يضرب الشاعر مثلاً بالسابقين الأولين الذين عرفوا مكر اليهود فلم يأمنوهم على البلاد والعباد، بل أنزلوهم منازلهم التي يستحقون، ويضيف قائلاً:
أباديس أنت امــرؤ حـــاذق
تصيب بـظـنـك نـفـس الـيـقين
فكيف اختفت عنك أعيانهم
وفي الأرض تضرب منها القرون
وقـد أنـزل الله في وحـيـه
يـحــذر عن صـحـبة الفاسقين
وكيف اسـتـنمـت إلى فـاسق
وقـارنـته وهـو بـيس القريـن15
وبنبرة عتابية يخاطب باديس مستنكرًا كيف خانته حنكته، واستأمن هذا اليهودي على أمور البلاد والعباد، كيف وقد تجرأ على السخرية من القرآن والمسلمين؟ يقول:
ويضحك منا ومن ديننا
فـإنا إلى ربنا راجـعــون
فبادر إلى ذبحــه قــربــة
وضح به فهو كبش سمين
ولا ترفع الضغط عن رهطه
فقد كنزوا كل علق ثمين
ولا تحسبن قـتلـهـم غــدرة
بل الغدر في تركهم يعبثون
وقد نكثوا عهدنا عندهـم
فكيف تلام على الناكثين؟
وراقب إلهك في حزبه
فحزب الإله هم الغالبون16
وقد أحدثت هذه القصيدة ضجة منقطعة النظير، يقول غرسية غومث "لا نعرف إلا في القليل النادر أن أبياتًا من الشعر لعبت دورًا سياسيًّا مباشرًا في التاريخ السياسي لأمة من الأمم، فكهربت العزائم ودفعت به في سرعة خاطفة إلى إشعال الحرائق، وشحذت السيوف للقتل، كالدور الذي لعبته هذه القصيدة "17، والواقع أن القصيدة لم تحرك الحس السياسي لدى العامة بقـدر ما حركت فيهم الغيرة على الدين.
"ويبدو أن صوت رسالة الإلبيري قد ظل قويًّا في الصدور، ولم يخفت صداه لدى مسلمي الأندلس فيما تلا ذلك من حقب، لأن اليهود كانوا يشكلون دائمًا مصدر توجس وإزعاج طيلة مدة الحكم العربي الإسلامي بالأندلس"18.
ومهما يكن فإن فعل ابن النغريلة كان انفراديًّا مبعثه الحقد على هذا الدين وعلى المسلمين، ولم يكن هدفه نشر تعاليم اليهودية بخلاف بعض المسيحيين الذين أرادوا ضرب الإسلام ونشر دينهم بين المسلمين في الوقت نفسه، ومن الأساليب التي كانوا يلجؤون إليها تقديم الشبهات بين يدي المسلم ومحاولة زعزعة إيمانه وتعجيـزه، ومثال ذلك ما قام به أحدهم و قد أطلق على نفسه اسم الذمي المتحير، فقال:
أيا عـلـمـاء الـدين ذمـي ديـنـكــم
تـحــير دلـــوه بــأوضــح حـجـــة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم
ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
قضى بضلالي ثم قال: أرض بالقضا
وهل أنا راض بالذي فيه شقوتي
دعاني وســد الباب دوني فهل إلى
دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
إذا شــاء ربي الكـفـر مـنـه مـشـيئة
فهل أنا راض باتبـاع المـشيـئة19
تتضمن هذه الأبيات تشكيكًا واضحًا في العدالة الإلهية، وما هي إلا صدى لصيحات الفلسفة القائلة: هل الإنسان مخير أم مسير؟ وهل أفعاله بإرادته أم مفروضة عليه ؟ والذمي يؤمن بالأخيرة فكيف يسبق في كتاب الله أنه كافر ثم يحاسب على كفره، ويطالب بالتسليم بالقضاء الذي فيه شقاؤه؟
وقد أجاب هذا الذمي الشيخ ابن لب فقال:
قضى الرب كفر الكافرين ولم يكن
ليرضـاه تكلـيـفًــا لـدى كل ملــة
نهـى خــلـقــه عـمــا أراد وقـــوعــه
وإنـــفــاذه والمــلك أبـلــغ حــجــة
فنرضى قضاء الرب حكما وإنما
كـــراهــتـنــا مــعــروفــة للـخـطيئة
دعــا الكل تكليـفـا ووفق بعضهم
فـــخـص بتـوفيق وعــــم بدعــــوة
فتعصى إذا لم تنتهج طرق شرعه
وإن كنت تمشي في طريق المشيئة
وما لــم يـــرده الله ليـس بكائــن
تعالى وجل الله رب البرية20
إن الله تعالى – وهو العدل- دعا الناس جميعًا لعبادته وأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وإن كان وفق بعضهم إلا أن الدعوة إلى الله كانت عامة بلا استثناء، كما أن الله تعالى أمرنا باجتناب المعاصي، فكيف يعصي الإنسان وهو يعلم أن معصيته ستؤدي به إلى الهلاك، ثم يعلق كل شيء بالمشيئة الإلهية؟
ولم يقتصر دور القصيدة الأندلسية على الدفاع عن الدين فحسب، وبخاصة بعد إيذان بسقوط الأندلس قريب، فأمام اكتساح المسيحيين" لأهم المدن الأندلسية ... لم يجد المسلمون بدًّا من البحث عن بديل آخر، فاتخذوا لهم ميمّما الديار المقدسة .. طالبين التطهر من أدران الذنوب.. خصوصًا في العهد الموحدي، حيث سيبرز أكبر شعراء متصوفي الأندلس كابن عربي وابن سبعين والششتري وأبي العباس المرسي وغيرهم كثير"21
وقد أدى الرمز الصوفي دورًا فاعلاً في التعريف بالدين الإسلامي وبيان فضله على باقي الأديان، ويصدق هذا ما فعله الششتري في حواره مع القس22، يقول:
سألت عن الخمّار أين محله
وهل لي سبيل للوصول به أم لا
فقال لي القسيس ماذا تريده
فقلت أريد الخمر من عنده أملا
فـقـال ورأسي والمسيح ومـريـم
وديني ولو بالدر تبذل به بذلا
فقلت له دع عنك تعظيم وصفها
فخمرتكم أغلى وخرقتنا أعلى
على أننا فيها رأينا شـيـوخــنـا
وفيها أخذنا عن مشائخنا شغلا
وفيها لنا العذال لاموا وأكثروا
وآذاننا في لبـسها تترك الـعـذلا
فلما لبـسـنـاها وهـمـنـا بحـبها
تركنا لها الأوطان والمال والأهــلا23
عباءة الشاعر أو كما سماها خرقته هي أغلى من خمرة القسيس، لأنها رمز التدين والتصوف، وهي "علامة الزهد في الدنيا والطلب للآخرة..إنه لباس التقوى الذي على كل مريد سالك أن يحترمه"24 ويبدو أن الشاعر استطاع أخيرًا أن يغري القسيس الذي بدا متلهفًا على هذه الخرقة، فقال:
فقال عسى تلك العباءة هاتها
فقد أثبتت نفسي لها الصدق والـعـدلا
فقلت له إن شئت لبس عباءتي
تطـهـر لـهـا بالـطـهـر واضـح لها أهــلا
وبدل لها تلك الملابس كلها
ومـزق لها الزنـار و اهـجـر لـهـا الشكلا25
فالششتري لما رأى تعلق القس بالعباءة عرض عليه أن يترك ما هو فيه، ويتطهر ليكون أهلاً لها، وقد رضي أخيرًا ومنحه الخمرة التي أراد:
فدونك خمري قد أبحتك شربها
ونـاولـنـيـهـا في أبـاريـقـهـا تجلى
فقلت له ما هذه الراح مقصدي
ولا أبتغي من راحكم هذه نيلا
ولكـنـهـا راح تـقـادم عـهـدهــــا
فما و صـفـت بـعـد ولا عـرفـت قـبلا
أقــر بــأن الله لا رب غــيـــره
وأن رســـول الله أفضلهم رســـلا
عليه سلام الله ما لاح بارق
ومـا دام ذكر الله بين الورى يتلى26
ويبدو أن القسيس لم يفهم مراد الششتري، فمنحه خمرًا معتقة، ولكن ما ذاك أراد الشاعر، إذ إن للمتصوفة "آدابًا مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم"27، فالخمر عندهم تلك النشوة التي يشعرون بها، وقد و صلوا إلى أعلى درجات الصفاء الروحي بعد التجرد التام من الدنيا، وكما يبدو أراد الشاعر أن يقنع القس بترك دينه واعتناق الإسلام بهذا الأسلوب.
والأندلسي الغيور على دينه لم يواجه أعداء الإسلام من نصارى ويهود فحسب، بل واجه بني جلدته ممن كانوا يتعاطون الفلسفة التي يراها عدوًّا لا يقل شراسة عن الأعداء التقليديين، ولعلها تفوقهم جميعًا كون المقبلين عليها مسلمين مما يسهل على الآخرين التأثر بهم وبأفكارهم، فلقد حذر الكلاعي ابنه من الفلسفة، فقال:
وفــلـسـفـة الـفـلاسـفـة اجـتـنـبـهـا
يجـعـجـعـن الكلام ولا طحينا
وتـنـقـض الأصــول بكــل شـــرع
وما هم عـنـدنـا مـشـرعـيـنـا28
هذا و قد ذكر المؤرخون أن من أهم الأسباب التي جعلت الناس يعارضون ابن حزم الفقيه الظاهري، اعتماده المنطق الذي يراه الأندلسيون خروجًا عن الدين، وعنه قيل:
وقد كان ابن حزم في ضلال
يقول بقولهم و يدين دينا
مــتـابـعـة لـفـلـسـفـة وكــفــر
وردًّا للـشـرائـع أجـمعينا29
ولم يقتصر الباعث الديني على الدفاع فحسب، بل حمل الحكام والناس على حد سواء مسؤولية سقوط مدن الأندلس تباعًا، والسبب واضح وهو الابتعاد عن الدين والانغماس في الملذات الدنيوية، وهو ما عبر عنه الفقيه الزاهد ابن العسال بعد سقوط بربشتر، إذ قال:
ولقدْ رَمَانا المُشركُون بأسهم
لمْ تُخْطِ لكنْ شأنُها الإصْمَاءُ
مَاتتْ قلوبُ المُسلمينَ برُعْبهم
فَحُماتُنا في حَربِهِم جُبناءُ30
و يقول أيضًا:
لولا ذنوبُ المُسْلمينَ وأنّهُم
رَكبُوا الكَبائرَ مـا لهُنّ فـنَـاء
ما كانَ يُنصرُ للنصَارى فارسٌ
أبَدًا عليْكم فالذنوبُ الدّاء31
ويصور الشاعر المجهول الذي رثى طليطلة أسباب سقوطها فيقول:
أنأمَنُ أن يَحُلّ بنا انتقام
و فينَا الفِسْقُ أجْمَع و الفُجُور
وأكلٌ للــحَـرَام و لا اضْـطِ
إليهِ فيَسْهَل الأمْرُ العَسير
يَزولُ السّترُ عَن قوْمٍ إذا مَا
على العِصْيَان أُرْخِيت السُّتـُور32
هكذا أدت القصيدة الأندلسية دورًا فاعلاً في الدفاع عن الدين ورد الشبهات عنه، وبيان فضله على سائر الأديان، وعكست مدى تعلق الأندلسي بدينه وغيرته عليه غيرة يندر وجودها بالنظر إلى الظروف الخاصة التي مرت بها الأندلس.
*- آمن الإنسان البدائي بقوة خفية مؤثرة في الحياة، وذلك بدافع الدهشة أو الخوف – ينظر: من المنظور الإسلامي: محمد الكتاني : 16
1 -عن مقال: الأدب الديني التأسيس والموضوع و المنهج لعلاء عبدالخالق المندلاوي، مجلة التآخي: عنوان:
Badirkhansindi@yahoo.com
2 - نقلاً عن موقع: knooz1.a3a3.com/vb/showthread.php?t=2357
3 - ديوان حسان بن ثابت: 08
4 - ديوان الكميت بن زيد الأسدي: 515-516
5 - ديوان أبي العتاهية:459
6 - نفسه: 461
7 - ديوان الحلاج: جمع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون: 24
8 - الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه: مصطفى الشكعة: 73
9 - ينظر: دراسات في الأدب الأندلسي: إحسان عباس، وداد القاضي، ألبير مطلق: 10
**- ورد في مغرب ابن سعيد: ابن نغرله وفي ذخيرة ابن بسام: ابن الغريلى وعند دوزي: ابن نغداله وفي الأصل المخطوط من رسائل ابن حزم ابن النغريلة – ينظر: رسائل ابن حزم: 07
هذا و قد "ذهب كثير من الناس إلى أنه لم يكن على دين آبائه و أجداده، وأنه كان مستهترًا يحتقر الأديان جميعًا خاصة الدين المحمدي الذي كان يجهر بالغض منه، ويعيب أحكامه" – ينظر: ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام : دوزي: 163
10 - الذخيرة في محاسن الجزيرة: ابن بسام الشنتريني: 1 : 556
11 - ينظر: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: ابن عذاري : 3 : 265 ، هذا و قد تضاربت الآراء حول من سخر من المسلمين أهو إسماعيل أم يوسف؟ ولكن المؤكد أن من قتل بسبب ثورة العامة هو يوسف.
12 - ينظر: رسائل ابن حزم: 3 : 43 وما بعدها
13 -ديوان أبي إسحاق الإلبيري: 108
14 -نفسه: 109
15 -نفسه : 109-110
16 - نفسه:111
17 - مع شعراء الأندلس والمتنبي: إيميليو غرسيه غومث: 105
18 - في الأدب الأندلسي: أشرف نجا: 81
19 - ملتقى الدراسات المغربية الأندلسية : عبدالحميد عبدالله الهرامة: 94
20 - نفسه: 95
21 -الغربة والحنين في الشعر الأندلسي: فاطمة طحطح: 298
22 - تجدر الإشارة بداية إلى أن حوار الششتري مع القسيس قد يكون حقيقيًّا وقد لا يكون كذلك "فاللغة الصوفية هي باستمرار رمزية ولم تكن قط حرفية، فهي بغير شك لغة مجازية يستخدمها المتصوفة للتعبير عن تجاربهم"- التصوف والفلسفة: ولترستين: 354
23 - ديوان الششتري:61-62
24 - التصوف الأندلسي: محمد العدلوني الإدريسي: 336
25 - ديوان الششتري: 62
26 - نفسه: 63
27 - مقدمة ابن خلدون: 433
28 - المناظرة في أصول التشريع الإسلامي: مصطفى الوظيفي: 150
29 - نفسه: ص ن
30 - الروض المعطار: الحميري: 40 وما بعدها
31 - نفسه: 40 وما بعدها
32 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: أحمد المقري: 6 : 240
ثبت المصادر و المراحع:
1 - الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه: مصطفى الشكعة: دار العلم للملايين، بيروت، 1974
2 - البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: ابن عذاري، دار الثقافة، ط2، بيروت 1980
3 - التصوف الأندلسي: محمد العدلوني الإدريسي، دار الثقافة، ط1، الدار البيضاء، 2005
4 - التصوف والفلسفة: ولترستين، ترجمة: إمام عبدالفتاح، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999
5 - دراسات في الأدب الأندلسي: إحسان عباس، وداد القاضي، ألبير مطلق، الدار العربية للكتاب، ليبيا / تونس، 1926
6 - ديوان أبي إسحاق الإلبيري، تح: محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر، ط1، بيروت، 1991
7 - ديوان أبي العتاهية، دار بيروت للطباعة والنشر، 1986
8 - ديوان حسان بن ثابت، مطبعة المحمدية، المغرب
9 - ديوان الحلاج: جمع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون: 24
10 - ديوان الششتري، تح: علي سامي النشار، دار المعارف، ط1، الإسكندرية، 1960
11 - ديوان الكميت بن زيد الأسدي، تح: محمد نبيل طريفي، دار صادر بيروت، ط1، 2000
12 - الذخيرة في محاسن الجزيرة: ابن بسام الشنتريني، تح: سالم مصطفى البدري، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1998
13 - رسائل ابن حزم – تح: إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسة والنشر، ط1، 1981
14 - الروض المعطار: الحميري، مجلة التأليف، مصر 1937: 40 وما بعدها
15 - الغربة والحنين في الشعر الأندلسي: فاطمة طحطح، منشورات كلية الآداب بالرباط، ط1، المغرب، 1993
16 - في الأدب الأندلسي: أشرف نجا، دار الوفاء، ط1، الإسكندرية، 2006
17 - مع شعراء الأندلس والمتنبي: إيميليو غرسيه غومث، تعريب: أحمد الطاهر مكي، دار المعارف، ط2 ، مصر، 1978
18 - مقدمة ابن خلدون، شرح: محمد الإسكندراني، دار الكتاب العربي، لبنان، 2006
19 - ملتقى الدراسات المغربية الأندلسية: عبدالحميد عبد الله الهرامة، جامعة عبدالملك السعدي، تطوان، 1993
20 - ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام : دوزي، مطبعة عيسى الحلبي وشركاه، مصر، 1933
21 - من المنظور الإسلامي: محمد الكتاني، دار الثقافة، ط1، 1987
22 - المناظرة في أصول التشريع الإسلامي: مصطفى الوظيفي، مطبعة فضالة، المغرب، دط / دت
23 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: أحمد المقري، تقديم: مريم قاسم الطويل، يوسف علي الطويل، دار الكتب العلمية، ط1، لبنان، 1995
تغريد
اكتب تعليقك